منذ عرفت باريس وأنا أعشقها كل يوم عن الآخر، في الرياض أبحث عن باريس في المقاهي، والمسارح، ومتاجر المخبوزات، وفي فكاهات وضحكات الناس، والتاريخ المنمق في الأبنية، وفي ردهات الأزقة والمتاحف... هي الرياض التي أبحث فيها عن لندن في النظام والمواصلات والمحافظة والسينما، وتخفيضات متاجر «غون لويس» الأنيقة، وعادة احتساء كوب شاي منتصف النهار مع نكهات الكيك الإنكليزي... من منح الحياة الجميلة أن تعطي الفرصة للإنسان ليعيش ويرتحل حتى يعود بالاختلاف، قد تكون تلك المنحة مادية يتنقل فيها الجسد من محيطه إلى آخر، وقد تكون تلك المنحة روحية، يتنقل فيها الوعي من معرفة إلى أخرى... لقد ربطني قدر العلم والبحث عن المعرفة بعاصمة الضباب لندن، وعاصمة النور باريس، ما أكاد أنهي واجباتي اللندنية حتى تأتيني دعوة أكاديمية باريسية للمقابلة، أو الحديث عن مشروع بحثي على طاولة غداء مع نخبة من العلماء، أو حتى بارتشاف كوب لاتية مفعم بنكهة الصباح اللذيذة، مع حديث صديقاتي طيب الكلم في «الشانزليزيه»، مع شروق النهار تشع كلاسيكية جييواتشينو روسيني في رائعته «موسيقى النهار» بلطف على الهضاب ومنابع الأنهار... تتذوقها الأذن بطرب مغاير... أنها الموسيقى الوحيدة التي كنت أجيد عزفها على البيانو في حصص البيانو من دون العودة للنوتة... ما أجمل طربها وهي تشرق على المقبرة الباريسية التي تحوي جثمان مؤلفها... كل ما حولنا يتحدث عن سر عظيم من أسرار الحياة، فحينما تخيم النمطية على أساليب حياتنا لابد أن ننفث فيها باستمرار روح الإنجاز. لا شيء يجعل كل الآخرين أفضل منا مادمنا نملك كل الفطرة التي منحوها، فالناس سواسية في النهاية، وإن اختلقت معطيات الحياة المحيطية إلا أن «معطيات الفطرة هي ذاتها»... بين الخمول والنشاط ومضة صغيرة جداً... ما الذي يجعل الإنسان المقبل من أقاصي الشرق الآسيوي وأواسط القرن الإفريقي يتماهى بانسجام «بعد برهة قصيرة» مع تقدم الإنسان الغربي، بل ويشاطره في مهماته ويقتسم إنجازاته... الجواب أنها النظرة الاستغلالية «لمعطيات الفطرة» إذا وضع في الحسبان أن كل معطيات البيئة المحيطة المادية مجرد تحديات يمكن الفوز عليها حينما تواجه بقوة عزيمة داخلية. في الغربة أجد دوماً أن الصعوبات تخلق داخلي التحدي مادام النجاح هو من يكسب الرهان، في حياة كل منا ماضٍ يحوي أمنيات قتلتها رداءة المستحيل لكن تخلق رد الفعل إزاء تلك الهزائم هي من قادنا نحو اليوم بمزيد من الاتساع في رؤية الأفق وبالتزود بالكثير من الاحتمالات المؤدية إلى بلوغ الهدف ونيل ما وراءه غالباً، كما يردد صانع القهوة في الحي اللاتيني مسيو رفائيل، والسيدة إيزابيل أختصاصية صبغ الشعر في صالون لوريال، وصديقتي شاونا مصممة الماكياج في دار غيورغيو أرماني. @sahhomah