«الأبد»... كلمة سوريالية تُستخدم مجازاً لعلمنا المُسبق بالنهايات المُقدّرة لنا. هذه الكلمة - الحلم لا تنفكّ تسكن عقولنا وتُعشش في أذهاننا فنحاول تصديقها، ولكن عبثاً. لأنّ الفناء يبقى الحقيقة الأصدق. وكلمة «الأبد»، تحمل في ذاتها تهويلاً يشي بتوق الإنسان إلى البقاء وبعجزه عن بلوغه. أمّا في عالمنا العربي «العجيب»، فالمجازات تغدو يقيناً والأحلام واقعاً. وهذه الكلمة التي يُسلّي الإنسان بها نفسه، أضحت حقيقة مرعبة تقع على صدورنا بثقل صخرة. عقود متتالية يعيش فيها الملايين تحت حكم نظام واحد، رجل واحد، رأس واحد. حُكم أبدي لا يضيره موت ولا فناء، وإن رحل الأب «المورِّث» فيتسلّم تلقائياً الابن «المورَّث». إلا أنّ التغييرات التي حفرت في الجسد العربي حتى غيّرت تضاريسه، قلبت الموازين ومكّنتنا من متابعة مسلسل «موت الأبد» من تونس إلى مصر وليبيا، فسورية. ومع توجّه أنظار العالم نحو سورية لمعرفة مصير النظام الذي نشأ عام 1963، يوثّق الكاتب اللبناني محمد أبي سمرا شهادات جيل الصمت والثورة في كتاب صدر أخيراً عن دار «رياض الريّس للكتب والنشر» بعنوان «موت الأبد السوري». بدأ الكاتب مشروعه في تدوين سيَر شخصيات انتمت إلى جيل «الصمت» بعد الخروج السوري من لبنان إثر أحداث 2005 الشهيرة. لكنّ «مفاجآت» الثورات العربية دفعته إلى استكمال مشروعه وتوسيعه من خلال توثيق جديد لشهادات جيل «الثورة» الذي خرج عن صمته وأعلن بداية دورة حياة جديدة. يروي الكتاب (374 صفحة) فصولاً من تاريخ سوريين صُدموا فصمتوا بعد مقتلة حماة في عام 1982، وفصولاً أخرى من حيوات سوريين تمرّدوا على صمتهم في ثورة لا تزال مستمرّة منذ آذار (مارس) 2011. يُمثّل «موت الأبد السوري» تأريخاً إخبارياً عمّا عاشه بعضهم في المدن والأحياء وفي المعتقلات والسجون، قبل الثورة وفي خضمّها الراهن. وتبدو الشهادات أشبه بروايات منقولة بأصوات رواتها، رواة خلعوا أقنعتهم البيضاء الساكنة ليكتبوا تاريخهم الجديد بلغة «هستيرية». وتتوزّع شهادات هؤلاء على فصول، أولها يعود إلى راوٍ سوري - لبناني يدرس في جامعة شيكاغو ويحمل الجنسية الأميركية. تقدم هذه الشخصية شهادة وثائقية عن الحياة اليومية والأكاديمية والإدارية والطالبية في جامعة حلب التي أمضى الراوي فيها سنتين دراسيتين بين 2003 و2006 كأستاذ مُنتدب من جامعته الأميركية. وفي الفصل الثاني «سورية الأسد قدر لبنان؟» نتابع سيرة راوٍ هو من مؤسسي التيار الوطني الحرّ الذي كان مناهضاً للاحتلال السوري للبنان طوال العقد الأخير، قبل عودة ميشال عون من منفاه الباريسي عام 2005. وتنقل الشهادة يوميات اعتقال الراوي وتعذيبه في أحد معتقلات الاستخبارات السورية في بيروت عام 1994. والراوي الثالث سوري الجنسية، لبناني المولد والنشأة تعرّض لسلسلة اعتقالات وملاحقات أمنية نتيجة شتمه نظام البعث في مكتب وزير التربية بعد رفضهم مُعادلة شهادته الإسبانية بأخرى سورية جزاءً لرفضه العمل مع «طلائع البعث». وفي الفصل الرابع «حمص - بيروت، خارج سجن الأسد» نتابع رواية «ميكروسوسيولوجية» موضوعها الأساس يدور في فلك عائلة توزعت إقامتها بين حمص وبيروت. الشخصية المحورية هي الجدّة (المُروي عنها) التي ربطتها علاقات خاصة بضباط الاستخبارات السورية في لبنان، أمّا الراوي فهو الحفيد الشاب من ابنتها البكر من زوجها السوري الأول. وفي الفصل الخامس «شبّان بانياس: من التصوّف إلى الثورة» نقع على رواية تلج في لبّ المجتمع المدني في بانياس منذ ثمانينات القرن الماضي ولغاية الأحداث الراهنة. يقترب الكتاب في مقامه العام من الأفلام التسجيلية الوثائقية، فيقدم الشهادات بصيغة المتكلم ويعمد كل راوٍ إلى تسجيل ذكرياته وتجربته الذاتية مع النظام السوري، في هذه المرحلة أو تلك، باستخدام «الأنا» التي تصبغ الشهادة بشيء من الفردية أو الحميمية. عطفاً على ذلك، تزخر الروايات التي تشكّل جوهر الكتاب بالكثير من التفاصيل الزمانية والمكانية والتاريخية والشخصية، ما يمنح النصوص بُعداً واقعياً يثير اهتمام القارئ وتفاعله. واللافت أن هذه الشهادات، على اختلاف تجاربها، تراها مكتوبة بأسلوب واحد ينقل نَفَس الكاتب الذي حوّل السِيَر إلى ما يشبه النصوص الإبداعية التي لا تخلو من التشويق، فيُخبر الرواة حكاياتهم انطلاقاً من حيواتهم الخاصة، وكأنّهم يريدون بذلك تعرية أنفسهم أمام القارئ لتغدو الشهادة أكثر صدقاً وموضوعية. السير والشهادات هي إذاً مادّة هذا الكتاب الذي يروي أخباراً عن الحوادث والوقائع كما عاشها رواتها في عائلاتهم وأسرارهم ودوائر حياتهم الأخرى. وقد يكون «موت الأبد السوري» هو الكتاب التسجيلي الأول لحياة السوريين بعد حقبة الصمت الطويلة. إنّه كما وصفه كاتبه «يروي شيئاً عن موت الأبدية في سورية، وعن تحرّرها من الأبد، ليصير لها تاريخ، وليتمكّن السوريون من رواية تاريخهم».