انفرد القرآن الكريم من بين الكتب السماوية حين بدأ أمره بالقراءة، ليصبح العلم فريضة واجبة، يكون العقل بموجبها هو محور العقيدة، وإن كان العلم كحقيقة لم يكن القرآن أول من دعا إليه، وإنما الشيء الجديد الذي أتى به القرآن في ما يخص العلم، هو تأكيده على دوره كوسيلة رئيسية في التفكير في ملكوت الله، وكما يقول ابن رشد: «لا دين لمن لا عقل له»، بينما اعتبرت اليهودية والمسيحية أن العقل حاسة ناقصة أمام الدين، ففرضت عدم تدخله في أمور العقيدة، وكان هذا هو موقف الكنيسة من العقل والعلم، فجاء الإسلام فكان دين العقل والعلم والاجتهاد. طبعاً هذا كله كلام محفوظ سلفاً، ولكن بشيء من التدقيق الأمين نجد أن الآية انقلبت ونحن من قلبها، فدين العقل حرمنا عليه إشغال العقل، ودين أكثر الديانات تطابقاً مع العقل والعلم مقارنة بباقي الأديان، صارت باقي الأديان هي التي تعمل عقلها وعلمها، وما نحن إلاّ في انتظار نتائج هذا الإعمال، بينما بعضنا الآخر يقطع الوقت في حبْكِ المؤامرات والاغتسال بالدم كما القذافي بشهادة رئيس مراسمه. لا نزال نذكر الشيخ المجدِّد محمد عبده إلى اللحظة، فلم ذاك؟ لأنه أتى بما لم يأت به سابقوه من تفاسير واجتهادات، مؤمناً بناصية العقل على فهم الدين، فما جاء به الإسلام وببساطة لا يمكن أن يتعارض مع العقل، فإذا قرأت هذا الكلام ووافقت عليه ضمنياً فلتختبر مدى اقتناعك لأمر من أمور الدين تكون استوعبته وتعوّدت عليه كما أفهموك، ثم وبتصور افتراضي أتى أحدهم وعرض عليك منطقاً مختلفاً بتطبيق مختلف، فهل ستأخذ بالجديد أم تصر على قديمك؟ أكاد أجزم أنك في الأغلب لن تتزحزح عما اكتفيت به وتكيّفت معه، وهو مستوى في سلم نمو الوعي الإنساني، فكأن وعيك وقف عند درجة ما، وأقسم ألاّ يغادرها، فبالله عليكم وهذه فكرتنا عن حدود عقولنا، كيف ستتغير أحوالنا؟ وسنظل كلما تحركنا خطوة نُتهم في ديننا، ومن وراء الاتهام ملايين تصدّقه وتصادق عليه، حتى أصبح المرء يخشى على نفسه من أي اتهام مباغت من أي نوع. أكثر المعجزات التي أيّد بها الله نبيه عيسى - عليه السلام - كانت بأبعادها علمية، كإحياء الميت، وإشفاء المريض والأبرص والمجنون، بخلاف معجزة موسى - عليه السلام - التي لم تخرج عن طابعها الحسي كإغراق آل فرعون وطوفان سيدنا نوح عليه السلام، أو ريح عاد، ما يعني ارتقاء العقل مما هو غريزي إلى ما هو إنساني معرفي، أي أن عمل العقل انتقل من وظيفته النفعية التي تتحكم فيها الغرائز إلى وظيفة إنسانية يشرف عليها الضمير، ومع ذلك فُهمت رسالة المسيح فهماً خاطئاً جعل القوم يعدمون كل محاولة عقلية وعلمية تخرج عما اعتادوا عليه. وانطلاقاً من مواقف ضالة في حق العقل، اضطهد العلماء والفلاسفة خلال عصور فاقت الألف سنة، حتى صارت المعرفة جناية وجب التكفير عنها في الدنيا، ولأن الرسالات السماوية تماشت مع تطور العقل البشري، فكان من الطبيعي أن يكون القرآن دليلاً على بلوغ العقل البشري أقصى درجات تطوره في التاريخ، ولكن ما يغيظ فعلاً ويبعث على القهر، أنهم بلا قرآن واصلوا تطورهم العقلي، ونحن بالقرآن جمّدنا هذا التطور، غير آبهين أننا بذلك إنما نخالف تعاليم القرآن الصريحة بتطور العقل ونتائج العقل، والمصيبة أننا مؤمنون بالعكس. تسمع كل يوم عن نتائج بحوثهم واختراعاتهم وتفكيرهم في الحلول والتفاصيل، فتتأمل عالمك الإسلامي فتجده متخلفاً وجائعاً وفقيراً ومتقاتلاً، فإذا نبّشت في تاريخك لتضع يدك على أصل البلاء، فإذا هو تاريخ حافل بالخيانات والتعصب والحمّيات، مع أن تاريخهم كان أعنف وأخزى، ولكنهم استطاعوا أن يتجاوزوه ويعقلنوا سلوكهم الإنساني. فهناك علاقة جدلية قائمة بين العلم والثقافة والسِلْم والتسامح في المنظومة الفكرية والاجتماعية والسياسية. سلسلة المنظومة هذه ضائعة ضمن خريطة كنزنا، وحين نجدها تأكد أنها ستكون سبيلنا للّحاق بالركب الحضاري، ولو متأخراً. [email protected]