نزلت الرسالات السماوية بتسلّسل يدل على تطور العقل البشري، بمعنى أن الديانات السماوية قد تماشت مع ارتقاء الوعي الإنساني، فالفترة الممتدة من نزول التوراة إلى اكتمال القرآن، كانت جداً حساسة في التاريخ البشري، فكأن السماء كانت متصلة بالأرض بحبل الوحي الرباني، وعليه ألا يجوز تقسيم التاريخ البشري العام إلى ثلاث مراحل كبرى!! واحدة ما قبل الوحي الإلهي وفيها بدايات الإنسان وتكوينه لمعاني الحياة المهيئة للاستقرار والتكيّف، والمرحلة الثانية ونعرّفها بالوحي وكان بمثابة امتحان من الخالق لخلقه، والمرحلة الثالثة والأخيرة وتُعيّن من اكتمال نزول القرآن أو ختمه إلى اللحظة، وندرج فيها الاستجابة، ونلحق فيها النكران لما ورد في المرحلة السابقة، حيث ترك الإنسان لاختيار مصيره، كما تركت له قيادة الأرض، فكانت الحروب والصراعات لقوانين ونواميس اخترعها الإنسان توافقاً مع مصلحته ومنفعته بصرف النظر عن ضررها وما يلحق بالآخرين، ومع ذلك لو دققنا النظر لوجدنا الحل في القرآن، كيف؟ بدأ القرآن بأمر إلهي بالقراءة، أي بالعلم وجعله فريضة واجبة، بمعنى أن العقل هو محور العقيدة، فإذا قيل إن القرآن لم يكن أول من دعى إلى العلم، فهذا صحيح، إنما يظل الشيء الذي انفرد به القرآن هو تأكيده لدور العلم في الوجود كوسيلة رئيسية في التفكير، وبالتالي في ابتكار الحلول المخلِّصة من الشقاء، وفي ذلك كَبَد (تعب) وهو قدرنا، أما الشقاء فهو أمر مختلف يجلبه المرء لنفسه بأخطاء عقله واستمرائه، يقول رسول الأمة عليه الصلاة والسلام: «دين المرء عقله، ولا دين لمن لا عقل له»، فتقرأ الكلام وتظن أنك تعرفه، ولكنك لو تمعنت لاعترفت أنك إنما تستسهل تعطيل عقلك وأحياناً إلغاءه، فتأخذ بما قالوا به وتتبناه، ولا تقل لي هم أعلم منك، ف «هم» هذه قائمة لم تقف أبداً عند الراسخين من أولي العلم، فهل تعتبر أن «هم» أدرى منك وإن أشغلت عقلك وعلمك في إيجاد حلك؟ فاليهودية والمسيحية افترضتا العقل حاسة ناقصة أمام الدين، فليس لك الدخول بعقلك في أمور العقيدة، موقف الكنيسة من العقل والعلم هذا، كانت نتيجته أن نبذ الناس المعبد والكنيسة بكل تحكمهما، فماذا عن الإسلام؟ هو دين علم واجتهاد، وهو أكثر الديانات تطابقاً مع العقل والعلم مقارنة بالأديان السابقة له، فالمسلم لا حاجة له عند اشغال عقله وعلمه لنبذ دينه، بل على العكس، فدينه أول المرحبّين والداعين إلى هذا العقل. فإلى أين وصلنا؟ إلى تشجيع جمود العقل، وكأن في العقل تعارضاً مع العقيدة، وهو تحليل مضلِّل بحق العقل والدين معاً برأي الفيلسوف ابن رشد، فالإسلام في كل جوانبه يظهر علميته وعقلانيته، وفي محاضرة للأمير خالد الفيصل حول منهج الاعتدال ألقاها في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الشهر الماضي، للأمير رأي منطقي جاء فيه: «النتائج الأولية للأحداث الراهنة تشير إلى التوجه الإسلامي في الكثير من بلدانه، ما يؤكد أن الثورات العربية الحالية تختلف عن الثورات الأوروبية في العصور الوسطى، حيث قامت الثورات هناك ضد الكنيسة، بينما تقوم هنا لصالح المسجد»، وهي حقيقة نشهدها بالتجارب، ولكن القلق ليس في الانتصار للمسجد، ولكن في هيمنة الممتهنين وثقافتهم، أو كما صاغها الأمير» نريد الاعتماد على الكتاب والسنة وليس على تيارات في ظاهرها إسلامي، وفي حقيقتها سياسي»، ولأنها كذلك فمن مهامها ومن أسباب وجودها واستمرارها العمل على تعطيل العقل والتفكّر، ومع الوقت يسحب هذا الجمود على المسجد الذي انتصر له، فلا تعد الناس تفرِّق بين المسجد وبين ما اختنقوا به، فيظلم المسجد والإيمان والدين في تحميلهم الضعف البشري، يقول الأمير والفيلسوف عبدالقادر الجزائري: «كل تعقّل حاصل يمكن التوصل به إلى تحصيل تعقّل آخر إلى غير نهاية، فثبت أن الإدراك العقلي هو الأشرف»، فالعقل أو ميزة الإنسان عن باقي المخلوقات، هو فصل وجودي، أمّا كمال المرء ونقصانه فمرهونين بحركة ونشاط هذا العقل ومدى الوعي في إدراكه، وكذلك هو نجاح الثورات وإخفاقها، ومن ثورة للمسجد إلى ثورة ضد المسجد، والمبرر: «هم أعلم مني»، أو احتلال المجال الإدراكي للإنسان. [email protected]