هل هناك وجود لبلاد ليس فيها موت؟ ثم أين تقع في حال وُجدتْ؟... لقد طوّر المخرج السوري كفاح الخوص (1978) حكايةً شعبية سمعها من جدّته، موجودة في اللاشعور الجمعيّ، وجعل منها مسرحية حكائية سردية، مُدّتها 75 دقيقة. وكان الخوص كتب النص «حكاية بلاد ما فيها موت»، ونشره في 2008، كواحد من نصوص «سلسلة ذاكرة المسرح السوري» الصادرة عن احتفالية دمشق عاصمة ثقافية، (دار ممدوح عدوان). ولأنه اختار أن تكون قصة البطل بحر (مثّل الدور الخوص، أيضاً)، في سياق حكائيّ، فهو لم يلتفت إلى مرجعيتها غير الشفوية، لكون «البشرية تملك الحكايا، التي هي ليست حكراً على شخص واحد». عالج المخرج النصّ، على طريقة الأقاويل الشعبية، التي تبدأ صغيرة وتكبر (حجر صغير في نهر)، وكان هذا الأمر أساسياً في وصول الحكاية مسرحياً، وبطريقة معاصرة، إذ تندرج «حكاية بلاد ما فيها موت» (عُرضت على خشبة مسرح القباني في دمشق)، في قائمة ما ينتجه «المسرح التجريبي» السوريّ. وضع الخوص على الخشبة حكواتيين موسيقيين (ناريك عبجيان، ومضر سلامة، وقصي الدقر، وعروة صالح)، ثم مغنّيَين (حسّان عمران، ونور عرقسوسي)، في شكل مشابه لما صنعه مشهدياً، سابقاً، في «ليلة حكايا المواويل»، مع اختلاف العملين. اعتمد في العمل السابق على فرقة زجلية وحكواتي، في محاولة لإخراج الذاكرة الشعبية من الريف إلى جلسات المدنية، (أسّس في 2000 فرقة حكواتي المسرح، التي ترى أن الحكاية والحكواتي هما شكل من أشكال تأصيل المسرح). إنّ جذْب الحكاية بعيداً عن سهرات المواويل المنزلية، ليس أمراً هيّناً، لذلك وُضع على الخشبة، مسرح صغير، وعليه جلس الموسيقيون، بينما توزّع بقية الحكواتيين، والمغنيان، على الدرج، كأنهم على عتبات منازل المدينة أو الحيّ، ويختصر البابُ الموضوعُ في منتصف المسرح إخلاصَ العرض الحكائيّ لنموذجه الشعبي (البيت)، كل هذه التفاصيل السينوغرافية شكّلت منطلقاً لعمل اتجه في سياق ميلودرامي مختلف ومتطوّر عن أشكال الحكايات العادية، فهناك «جنيّة الحكايات» (مثّلت الدور رغدا الشعراني)، التي ترافق البطل بحر في هذه الرحلة الضبابية. وبين حكايات متأرجحة، تبدو الجنية هنا، كما لو أنها الراوي المسرحيّ، في حين يتناوب الخوص على السرد الحكائيّ مع كُلٍّ من أسامة التيناوي، والفرزدق ديوب، وشادي الصفدي، ورنا كرم. ومن هذا التناوب المتصاعد، يبدو أن آلية الممثلين في الدخول إلى مركز الخشبة والخروج منها، قد أُوليت اهتماماً كبيراً من حيث حركة الجسد، وتوازنها مع حركة الأجساد الأخرى؛ ويُعدّ مركز الخشبة في هذا العرض مركزَ الحكاية، أو تماماً، المكان الدال على الممثل صاحب الدور في السرد (الحكواتي)، ويُختصر هذا المركز (في غالبية المشاهد الحكائية) في قصة بحر، وبحثه الهستيري عن مكان لا يموت فيه، هو أو أيّ أحد ممّن يحب (أمّه مثالاً)، ثم يورّط العرضُ المتلقّي في فكرة الرفض الفطري للزوال، هذا الرفض الذي هو في جهة من جهاته نوعٌ من الفناء بطريقة أو أخرى، إذ يبدو بحر في كل اللحظات مشدوداً إلى فكرة الخلود المحالة، أي أنه رغم كل الدلائل على نهايته ككائن بشريّ، يصارع الواقع مثل دون كيشوت، هزيل، لكنَّه عنيد. ترشد الجنّية (الشعراني) بحر إلى حكايات جديدة، وتدخله في سياقها، ثم تخرجه في لحظات يأسه القصوى، وتُورِّطه في عذابات إضافية، كلّ هذا يتمّ في إطار تراجيكوميدي، فهو إمّا مسرع في اتجاه هذا العالم السحريّ، بعيداً عن الدماء والظلم والموتى، أو موجود بين السماء والأرض، في غير خلاص، مثله كمثل طفل صغير رفض موت أمّه، فلا هو قادر على اللحاق بها، وتفسير وجودها في عالم الماورائيات، ولا هو مقتنع بموتها المادي، وبقائه في العالم المادي، لذا فهو يستحضرها في حكايات تلهيه عن تذكُّر ما لا يريده، الموت الأسود والمؤلم، أي الموت المترافق مع ظلم، وهو أقسى ما يمكن تجاوزه، حين تصبح كل الحكايات مبتكرة في بلاد مُدمّرة؛ والموسيقا المصاحبة عمّقت حضور الشعبي في هذه القصة، والتصاقه بالهم العام للإنسان المهمّش والأسطوريّ في آن. الأطياف الحكائية الأخرى في هذا العرض، تضحك بصوتها العالي ساخرةً من أحلام بحر الطفولية، واعدةً إياه بموت في كل مرّة؛ لقد مات بحر على الخشبة مرات عدّة، في كل مرّة صُدم فيها بأنْ لا مخرجَ له من عالم الموت المحتّم، وكان درسه الوحيد الذي عليه أن يُتقنه هو كيف يعيش وسط مخاوفه وسخطه على الواقع التعيس حوله؟ فالقضية ليست صراعاً فردياً ضد القادم المجهول، بل هي هواجس جماعيّة في رغبة الخلاص والخلود. «حكاية بلاد ما فيها موت» (كُتِب النص باللهجة العامّية السورية)، تتساءل في أول مشهد منها، وعلى لسان الخوص، عن حالة كل شخص يجلس بين الجمهور، وعن مكان قدومه، وفِيمَ يفكّر؟ إنها حكاية تبوح بالألم، على لسان جماعيّ، ولا تولي أهميةً حتى لحكماء درب بحر، الذين يؤكّدون أن الموت قادم بطرُق مختلفة، إنها محاولة للذهاب بعيداً، للتنفّس فوق الماء، وللتحقُّق الشخصيّ من استحالة وجود بلاد الخلود، ثم العودة سريعاً إلى مكان الفرد الأصليّ، الذي لا يخلو من حُبّ وذاكرة وأمل.