«آبل» تحقق قيمة سوقية تتجاوز 4 تريليونات دولار    حماس: بعض جثث الإسرائيليين غير قابلة للوصول    محللون: سقوط الفاشر يهدّد بتقسيم السودان    كأس الملك : الاتحاد يقصي النصر ويتأهل لربع النهائي    الهلال يكسب الأخدود ويبلغ ربع نهائي كأس الملك    بنزيما: الاتحاد أظهر رغبته في الفوز على النصر منذ البداية    المملكة توزّع 1,000 سلة غذائية في محافظة الروصيرص بالسودان    أفراح ابن سلطان والعزام    الشريك الأدبي ينظم أمسية شعرية ضمن برامجه في أبها    صحة المرأة بين الوعي والموروثات الثقافية    الأدب والإعلام.. حوار التأمل وصناعة الوعي    مصوّرو جازان.. عدساتٌ تحفظ التراث وتوثّق ملامح الإنسان والمكان    زيارة استثمارية لوفد من غرفة جازان    فترة الإنذار يالضمان الاجتماعي    تداول يكسب 54 نقطة    انطلاق منافسات بطولة العالم لرياضة الإطفاء والإنقاذ بسباق تسلق البرج بالسلالم    رئيس وزراء ألبانيا يغادر الرياض وفي مقدمة مودعيه نائب أمير المنطقة    أجور الحدادين والرمل والأسمنت ترفع تكاليف البناء    فيصل المحمدي من بيت امتلأ بالصور إلى قلب يسكنه التصوير    فيلم سعودي في 5 مهرجانات دولية    ولادة توأم من بويضات متجمدة    العلماء يحذرون من الموز في العصائر    موعد مباراة الهلال القادمة بعد الفوز على الأخدود    إسرائيل وحماس.. تصعيد وجدل وتعقيد الحلول    54 مليون قاصد للحرمين خلال شهر    55 مشروعًا علميًا في ختام معرض «إبداع جازان 2026»    أمير منطقة جازان ونائبه يقدمان واجب العزاء للدكتور حسن الحازمي في وفاة نجله    مبادرة مستقبل الاستثمار    الضربات الأوكرانية خفضت قدرة روسيا على تكرير النفط 20%    نائب رئيس الصين: شعار مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار ينسجم مع توجهات العصر    السعودية تدين الانتهاكات الإنسانية الجسيمة لقوات الدعم السريع في الفاشر    جامعة الإمام عبدالرحمن تطلق "رُعى" الصحية لدعم الإبتكار والاستثمار في القطاع الصحي    ولي العهد يرأس جلسة مجلس الوزراء في الرياض    مفتي عام المملكة يستقبل وزير الشؤون الإسلامية    أمير الشرقية يستقبل منسوبي المؤسسة العامة للري ويرأس اجتماع اللجنة العليا لمشروع مجتمع الذوق    أمير تبوك يستقبل مدير شرطة المنطقة    نائب أمير جازان يستقبل المستشار الشرعي بفرع الإفتاء بالمنطقة    أمير جازان يستقبل المستشار الشرعي بفرع الإفتاء في المنطقة    أمانة تبوك تنفذ 13 ألف متر طولي من خطوط التصريف وتعالج 42 نقطة تجمع لمياه الأمطار    تصوير "الأسد" في سماء الإمارات    القيادة تعزّي ملك مملكة تايلند في وفاة والدته الملكة سيريكيت    كباشي: شكراً صحيفة «البلاد»    الدفاع المدني.. قيادة تصنع الإنجاز وتلهم المستقبل    العلا تفتح صفحات الماضي ب «الممالك القديمة»    لماذا يعتمد طلاب الجامعات على السلايدات في المذاكرة؟    بثلاثية نظيفة في شباك الباطن.. الأهلي إلى ربع نهائي كأس خادم الحرمين    ارتفاع تاسي    قدم الشكر للقيادة على الدعم الإنساني.. مصطفى: السعودية خففت معاناة الشعب الفلسطيني    اقتحموا مقرات أممية بصنعاء.. الحوثيون يشنون حملة انتقامية في تعز    الحوامل وعقار الباراسيتامول «2»    إنجاز وطني يعيد الأمل لآلاف المرضى.. «التخصصي» يطلق أول منشأة لتصنيع العلاجات الجينية    وزير الداخلية يدشن وحدة الأورام المتنقلة ب«الخدمات الطبية»    نائب أمير الشرقية يطّلع على جهود "انتماء وطني"    اليوسف يلتقي عددًا من المستفيدين ويستمع لمتطلباتهم    رئيس الجمهورية الإسلامية الموريتانية يغادر المدينة المنورة    أكثر من 11.7 مليون عمرة خلال ربيع الآخر    أثنى على جهود آل الشيخ.. المفتي: الملك وولي العهد يدعمان جهاز الإفتاء    المعجب: القيادة حريصة على تطوير البيئة التشريعية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لمحة عن السنوات المفصلية في التاريخ العربي
نشر في الحياة يوم 01 - 01 - 2012

مثل كل الأفكار الكبيرة، والأحداث المفصلية، هناك أعوام تبقى في ذاكرة التاريخ، وذاكرة الشعوب علامة فارقة تفصل فصلاً واضحاً بين ما قبل وما بعد. تتميز هذه الأعوام بأنها دون غيرها عصية على عامل النسيان، أو عامل التقادم الزمني مهما طال. العام الماضي، الذي كان يوم أمس آخر أيامه، هو من هذه الأعوام. واللافت في هذا العام أنه بحجمه وأهميته ينافس حجم القرن الذي سبقه ليس بعدد الأحداث التي اكتنفها، وإنما بوزن هذه الأحداث، ودلالاتها الاجتماعية والسياسية. أقول ذلك لأننا لا نعرف ماذا تخبئ الأيام والسنون المقبلة للقرن الذي ينتمي إليه عام 2011. يتصل هذا العام بصيغة أو بأخرى بأعوام وأحداث التاريخ العربي الذي سبقه. وفي الوقت نفسه ينفصل عن ذلك التاريخ بالأحداث غير المسبوقة التي دشنها، ومنها استمد أهميته ومفصليته. يتصل بالتاريخ الذي قبله من حيث أنه استئناف جديد للتاريخ نفسه، وانطلاقاً من الطموحات، والانكسارات، والصراعات والأحلام نفسها التي تمثل محرك هذا التاريخ. ولكنه ينفصل عن ذلك التاريخ من حيث إنه يضع بداية جديدة، وعلامة مختلفة على ما يمكن أن يعقبه.
في تاريخنا العربي الإسلامي أعوام كثيرة لها السمة المفصلية نفسها، بغض النظر عن المضمون الاجتماعي والسياسي للأحداث التي منحتها هذه السمة. أول هذه الأعوام كان عام «اقرأ»، أو العام الذي نزل فيه الوحي على محمد في غار حراء للمرة الاولى مطالباً إياه بالقراءة. وعلى أساس من هذه الكلمة بدأ الإسلام الذي سيغير وجه التاريخ ابتداء من الجزيرة العربية إلى أنحاء المعمورة. ثم كان عام الهجرة، فعام الفتح، ثم عام السقيفة الذي دشن مرحلة الخلافة الراشدة. كل هذه محطات مميزة الواحدة منها عن الأخرى، ولكن في مسار متصل يعزز السياق نفسه. بعد ذلك جاء ما اصطلح على تسميته بعام «الفتنة»، وهو العام الذي انتهى بعد خمس سنوات من الحرب الأهلية بعام الجماعة، أو الإجماع على خلافة معاوية، ثم بداية الدولة الأموية في الشام.
هناك أعوام كثيرة في تاريخنا لها هذا القدر أو ذاك من حظ التميز التاريخي، لكن لا تتسع المساحة لها هنا. وإذا ما قفزنا إلى تاريخنا العربي المعاصر نلاحظ أول ما نلاحظ أن سياق التاريخ تغير في شكل لافت. صار التاريخ العربي تاريخ دول «وطنية»، وليس تاريخ مناطق جغرافية متصلة أو منفصلة، أو تاريخ كتل بشرية تجمعها صفة العروبة والإسلام. حصل ذلك نتيجة عوامل عدة، مثل الاستعمار، والصراعات المحلية، والتثاقف مع العالم الآخر، والتي كلها مجتمعة دفعت بالعالم العربي لدخول النظام الرأسمالي العالمي، أو نطاق الحضارة الغربية الحديثة. في هذا الإطار هناك سنوات دخلت سجل التاريخ أيضاً، وأغلبها تقريباً تمثل بتميزها استمرار حالة الانكسار والانحطاط العربيين. من هذه السنوات عام 1945، وهو ما يمكن أن نسميه ب «عام الجامعة العربية» الذي وضع أسس انقسام العالم العربي إلى دول «وطنية». الغريب أن هذا العام كان يمكن أن يفلت من لعنة الانكسار لو أن الدولة الوطنية بمضمونها القانوني والسياسي، والتي وضع ميثاق الجامعة أسس شرعيتها، تحققت على الأرض.
لكن هذا لم يتحقق. لم يطل الزمن حتى جاء عام آخر، هو عام النكبة، أو العام الذي شهد أول وأقسى هزيمة عربية أمام المشروع الصهيوني. ومن السنوات المميزة عام 1952 الذي شهد أول انقلاب عسكري دشن عصر الجمهورية في مصر، ثم في العالم العربي. لكن هذا العام دشن أيضاً عصر الانقلابات العسكرية. قبله كان هناك انقلاب في سورية في 1949، لكن تأثيره لم يتجاوز حدوده الجغرافية. بعد عام الجامعة، وتحديداً بعد 1952 أخذ الاستبداد العربي شكلاً سياسياً مختلفاً في حدود جغرافية محدودة، وإمكانات استخباراتية وأمنية تضطرد في حجمها، وفي تطورها، وطول ذراعها، وقدرتها على المراقبة، والبطش بكل من يتجرأ على النقد أو المعارضة. لكن هذا الاضطراد في التطور ليس من صنع هذه الدول، وإنما من صنع الغرب الذي يصادقه البعض، ويخاصمه البعض الآخر. وربما أن من أكثر السنوات تأثيراً في الوعي الجمعي العربي، بعد النكبة، كان عام الهزيمة، 1967. ظل هذا العام جرحاً نازفاً إلى سنوات قريبة، ولم يتراجع مكانه في الذاكرة إلا بعد أن ازدادت الأوضاع سوءاً، وتتالت الانكسارات، واهترأت الأوضاع السياسية والاقتصادية بفعل تفشي الفساد والقمع.
من دون أن نطيل في السرد التاريخي، يجب أن نتوقف هنا أمام سؤال ربما لم يخطر ببال أحد من قبل: هل هناك من علاقة ما بين 1967 و 2011، أو عام الهزيمة، وعام الربيع العربي؟ لا بد من أن هناك علاقة ما وواضحة أيضاً، لكن شرط أن نأخذ عام الهزيمة على أنه ذروة في مسار تاريخي تعددت ذراه، وانطوى على مفارقة صارخة: وهو أنه كان يمكن أن يكون بداية للنهضة في إطار العصر الحديث، انطلاقاً من عام الجامعة الذي وضع أسس الدولة «الوطنية». وهي الدولة التي أخذت دفعات كبيرة بنجاح تجارب وحدوية في السعودية والسودان، وتعزز الوحدة الوطنية في مصر والمغرب، مثلاً. كان يمكن أن يتعزز المسار نفسه بعد ذلك عام 1952 الذي دشن عصر الجمهورية.
لكن الذي حصل كان على العكس من ذلك: تعثرت الوحدة الوطنية مع بقاء الشكل السياسي للدولة «الوطنية». ونظام الجمهورية تحول بسرعة لافتة، وغير معلنة، إلى ملكية خاصة للرئيس الذي يصر على وراثة نفسه في الحكم مرة بعد أخرى، أو توريثه لأحد أبنائه. بعبارة أخرى، تحولت الجمهورية إلى كذبة سياسية سمجة، لا تستطيع العيش إلا من القمع والفساد. أي أن مشروع الدولة العربية، وبخاصة في صيغتها الوطنية تعثر في شكل مزر. تم اختزال الدولة في سلطتها التنفيذية التي جعلت من نفسها نظاماً سياسياً حل محل الدولة. ولحماية هذا الانحراف كان لا بد من الفساد والقمع معاً. بهذا المعنى تحول مشروع الدولة العربية إلى معضلة تاريخية كأداء، لا يمكن تجاوزها إلا بفعل تاريخي يمكن أن يحيد القدرات الاستخباراتية والأمنية للنظام السياسي.
يكاد يتفق الجميع على هذا التوصيف للحالة العربية. وبالتالي يصبح من الواضح أن «الربيع العربي» يدشن مساراً تاريخياً مختلفاً أمام الشعوب العربية، الدول العربية، وأنه بذلك يأخذ تميزه، ومفصليته التاريخية. لكن على رغم شبه الإجماع، إلا أن هناك من يرى في عام 2011، ليس عام «الربيع العربي»، بل عام الشتاء العربي، وعام الفتنة، والمؤامرة، وعام الفوضى.
هناك من يذهب أبعد من ذلك عندما يعتبر أن «الربيع العربي» ليس له من صفته العربية نصيب. فهذا الربيع جاء بالإسلام السياسي على حساب العروبة. ثم هناك من يرى أن فوز الإسلام السياسي في إطار هذا الربيع هو إفراغ للربيع من مضمونه السياسي الذي بشر به، وهو مضمون الحرية والديموقراطية والدولة المدنية. والأغرب من ذلك أن بعض هذه التحليلات، وبخاصة تلك التي تأتي من منطقة الشام، وتحديداً سورية ولبنان، تنطلق من نظرية المؤامرة ذاتها. تبدو أميركا في هذه التحليلات مثل الآلهة التي تقرر للشعوب وللدول متى تثور، ومتى تتغير، ومتى تستكين لحكامها، ومتى وأين تتململ.
هل كان «الربيع العربي» حركة سياسية عفوية؟ أم أن هناك أيادي خارجية تقف وراء انطلاقته، وتوقيته؟ هل إن فوز الإسلام السياسي، وعلى قاعدة أن الثورة يبدأها الأبطال الأبرياء ويجني ثمارها الانتهازيون، يمثل انتكاسة حقيقية، وعودة للمربع الأول الذي يفترض أن هذا الربيع جاء لنقل العالم العربي منه إلى مربع آخر؟ ثم بعد ذلك، كيف فرض «الربيع العربي» هوية إسلامية على حساب الهوية العربية للأمة؟ هل يمكن فصل العروبة عن الإسلام؟ لم يعر أصحاب نظرية المؤامرة اهتماماً لحقيقة أن كل ضحايا «الربيع العربي» هم أصدقاء أميركا. سيقولون لك إن هذا طبيعي لأن أميركا لم تعد في حاجة إلى هؤلاء الأصدقاء، وأنه حان وقت استبدالهم. هكذا... لكن أميركا ووفق النظرية نفسها تتآمر على خصومها، مثل النظام السوري الذي يعتبر نفسه عنوان المقاومة الوحيد في المنطقة للمشروع الأميركي. كيف تتآمر أميركا على أصدقائها، وخصومها المفترضين في الوقت نفسه، وللهدف نفسه؟ هذه من متناقضات الذهنية السياسية العربية، والتي يسميها البعض بذهنية البورجوازية الصغيرة التي لا تملك مشروعاً ثقافياً ولا سياسياً، وهي ضحية واقعها الاجتماعي والسياسي. هي ذهنية ترفض الشيء ونقيضه. والأنظمة السياسية التي تدافع عنها هذه الذهنية تفكر وتتصرف بالطريقة المتناقضة ذاتها. فهي مع أميركا وضد أميركا، ومع الرجعية وضدها، ومع المقاومة في مكان وخصمها في مكان آخر. الشيء الوحيد الذي لا تتناقض هذه الذهنية حياله هو حرية التفكير، وحرية الرأي، والتعبير عن هذا الرأي. هذه الحرية هي السبيل الذي تدخل من خلاله المؤامرة، وتتدثر به. ماذا عن مصادرة الحرية؟ أليست صيغة مخفية للمؤامرة؟ أبداً. للحديث بقية.
* كاتب وأكاديمي سعودي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.