على رغم أن بعض قادة "جماعة الجهاد" ممن عارضوا الخطوة التي أقدم عليها زعيم الجماعة الدكتور أيمن الظواهري في شباط فبراير 1998 بالتحالف مع اسامة بن لادن تحت لافتة "الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين" يسعون حالياً إلى إعادة هيكلة الجماعة والعودة بها إلى الوضع الذي كانت عليه قبل إبرام ذلك التحالف، إلا أن الظروف العالمية والمحلية تحول دون أن تحقق جهودهم نتائج سريعة. فغالبية هؤلاء إما كانوا يعيشون في أفغانستان واضطرتهم ظروف الحرب إلى الفرار من هناك أو على الأقل الانتقال من الأماكن التي كانوا يعيشون فيها إلى أماكن أخرى واللجوء إلى زعماء بعض القبائل الأفغانية ليكونوا تحت حمايتهم أو مقيمين في دول أوروبية ولا يستطيعون ممارسة انشطتهم بحرية ويضطرون إلى اللجوء إلى الحيل لخداع أجهزة الأمن حتى يتمكنوا من الاتصال بزملائهم. إضافة إلى ذلك فإن التنظيم نفسه خسر قواعده داخل مصر ولا يملك عناصر قادرة على إعادة بناء الجماعة في الداخل، بعدما تمكنت السلطات المصرية من أفراد التنظيم وتوجيه ضربات متتالية له طوال السنوات الماضية، كان آخرها في قضية "العائدون من البانيا". وتسبب الارتباك الذي اصاب التنظيم عقب التحالف مع ابن لادن في إقدام بعض العناصر داخل مصر على وقف نشاطها والابتعاد عن ممارسة أعمال تنظيمية إقتناعاً منهم بأنهم ظلوا لسنوات مجرد أدوات يحركها الظواهري كما يشاء من بعيد لتحقيق مصالحه الشخصية. وعموماً فإن المحامي ثروت صلاح شحاتة ومعه القيادي البارز مرجان مصطفى سالم يتوليان حالياً الجهود التي تهدف إلى إعادة هيكلة الجماعة وهما كانا يعيشان في أفغانستان واختلفا مع الظواهري احتجاجاً على تحالفه مع ابن لادن لكن شحاتة ورد اسمه في إحدى اللوائح الاميركية التي ضمت المطلوبين في واشنطن ما مثل عبئاً شديداً عليه وفرض قيوداً كبيرة على تحركاته. أما سالم فإنه كان ركز نشاطه في السنوات التي سبقت تجميد نشاطه في الجماعة أثر التحالف مع ابن لادن على إعداد الأبحاث الشرعية، ووضع الكتب التي تحوي آراء التنظيم في القضايا المطروحة على الساحة وعلى رغم أن اسمه لم يرد ضمن أي لائحة اميركية إلا أن تنقلاته هو الآخر تعد في غاية الصعوبة ما يجعل من نجاحه في جهود إعادة هيكلة الجماعة أمراً صعباً أيضاً. ويسعى شحاتة وسالم إلى استخدام بعض أعضاء والجماعة وقادتها من غير المرصودين أمنياً ليوكلا إليهم مهمة الاتصال بالعناصر الموجودة في الدول الأخرى على أن يتم ذلك في هدوء ومن دون لفت انتباه أجهزة الأمن. والمهم في الأمر أن معارضي الظواهري لا يعترضون فقط على تحالفه مع ابن لادن والزج بالجماعة في مواجهة مع اميركا، وإنما كانوا أيضاً يعارضون إقدام التنظيم على شن عمليات داخل مصر منذ العام 1993، بالمخالفة لاستراتيجية التنظيم التي تقوم على محاولة إحداث انقلاب عسكري لتغيير نظام الحكم أو الاستمرار في بناء الجماعة ودعوة الجماهير إلى الثورة بعدما يتمكن التنظيم من بسط نفوذه وسيطرته في أنحاء البلاد، ورأى هؤلاء أن العمليات التي نفذت داخل مصر تسببت في القبض على عدد كبير من قادة والتنظيم وعناصره من دون أن تحقق أي فائدة، كما أنها أيضاً أفقدت الإسلاميين عموماً أي تعاطف من جانب المواطنين. وفي الوقت الذي يسعى فيه قادة "الجهاد" إلى إعادة هيكلة التنظيم فإن قادة "الجماعة الإسلامية" الذين يقضون عقوبة السجن في قضية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات خرجوا قبل ايام بمفاجأة كبيرة إذ طرحوا أربع أبحاث شرعية أعلنوا فيها الأسس الفقهية والشرعية التي استندوا إليها في تحويل مسار الجماعة من العمل المسلح إلى العمل السلمي. وجاءت الابحاث لتمثل أول طرح فكري لمستقبل الحركات الاسلامية المتطرفة بعد احداث ايلول سبتمبر الماضي، وتأتي اهميتها من كونها صدرت عن قادة أكبر تنظيم متطرف في مصر، اضطلع عناصره بأكثر من 90 في المئة من عمليات العنف التي وقعت داخل البلاد في عقد التسعينات بدءا من اغتيال رئيس مجلس الشعب السابق الدكتور رفعت المحجوب في تشرين الأول اكتوبر 9019وحتى مذبحة الاقصر التي وقعت في تشرين الثاني نوفمبر 1997. وأعد الأبحاث وراجعها كل من اسامة حافظ وعاصم عبد الماجد وكرم زهدي وعلي الشريف وناجح ابراهيم عبد الله ومحمد عصام الدين دربالة وفؤاد محمود الدواليبي وحمدي عبد الرحمن، والاخير اطلقته السلطات المصرية العام الماضي بعدما قضي نحو 20 سنة في السجن. ورصد هؤلاء اسباب تحولاتهم، وأوردوا آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومواقف في التاريخ الاسلامي تؤكد صحة ما ذهبوا اليه وخلصوا الى ضرورة "اعتماد المصالح في أي عمل يأتيه المسلم أو الجماعة المسلمة"، ولفتوا الى ضرورة ان ترتب المصالح بحسب اهميتها: الضرورية ثم الحاجية ثم التحسينية. والى أن الشرع يختار أعلى المصلحتين ويدفع شر المفسدتين. وخلصوا الى أن المصلحة من الأمر والنهي لو ترتب على تنفيذه مفسدة اعظم أو فوات مصلحة اعظم "حرم فعله" وأن درء المفاسد "مقدم على جلب المصالح". وأكدوا أن تلك القواعد "تكاد تكون موضع اتفاق الاصوليين قاطبة واجتمعت عليها أدلة كثيرة من الكتاب والسنة". وتساءلوا: "ما هو الهدف أو الأهداف من وراء رفع السلاح وازهاق الأرواح؟" وأضافوا: "وقف الاعتقالات، والتعذيب، والمعاملة الانسانية، وحرية الدعوة. ونعود للتساؤل: وهل هذا هو السبيل المناسب لتحقيق هذه الاهداف؟ وهل بعد هذه التجربة المريرة التي ذقتم مرارتها في السنوات السابقة فسالت الدماء انهاراً وأزهقت النفوس وتقاتل المسلمون وقتل منهم من قتل هل تحققت هذه الأهداف؟ هل توقف الاعتقال أم أن السجون امتلأت بالمعتقلين وتحولت المشكلة من مشكلة بضع عشرات من المعتقلين أو قل بضع مئات على اسوأ الفروض الى مشكلة ألوف ازدحمت بهم السجون وبنيت من أجلهم سجون جديدة؟ هل توقف اقتحام البيوت والمساجد أم أنه ازداد وتضاعف ولم يعد للبيوت حرمة؟ هل نلتم حرية الدعوة وحق اعتلاء المنابر أم أن الدعوة ضربت في مقتل ولم يعد لدعوتكم مكان على المنابر أو في أي مكان آخر؟ ثم هل توقف الضرب في سويداء القلب أم أنه ازداد واتسع حتى صار هو القاعدة سواء بالرصاص في الطرقات أو بالتعذيب أو بإهمال المرضى حتى قتلهم المرض في السجون؟ هل أوقفتهم القتل أم أنه تضاعف اضعافاً مضاعفة؟". وتابعوا: "لن نتحدث فيما ينبغي أن يكون، ولكن ينبغي أن تكون لنا وقفة تقيم ما فات لتصويب ما كان فيه، فنقول: أولاً: إن أي عمل ينبغي أن تحكمه المصلحة الشرعية سواء في انشائه ابتداء أو في توجيهه اذا انحرف، بمعنى: أنه ينبغي لمن يتخذ قراراً بعمل شيء إن ترجح لديه مصلحته على مفسدته فإن تبين له سواء قبل انشائه أو بعد الشروع فيه ترجيح المفسدة بل غياب المصلحة بالكلية فينبغي أن يمتنع على الفور. ولا شك أنه قد تحقق بعد هذه التجربة الطويلة أن هذه الدماء المهدورة، وهذه المعارك الطاحنة لم تجلب مصلحة تذكر، بل ترتب عليها عشرات المفاسد التي ينبغي لها أن تدرأ. فالدماء المسالة والنفوس المزهقة من ابناء دين واحد، فضلاً عن الثارات والأحقاد التي ملأت النفوس، هذه المعتقلات التي تعج بالشباب كل ذلك مفسدة عظيمة بل مفاسد لا شك ينبغي أن تكون لنا وقفة لوضع حد لها ودفع ما جلبته من مفاسد خاصة وأنه لم يتحقق من وراء ذلك أي مصلحة، فكيف والمصلحة غير موجودة أصلاً؟ إذن.. دماء وجهود وأموال تهدر من دون فائدة، في وقت نحتاج لكل ذلك في معركة مع عدو حقيقي يعاني منه شعبنا المسلم جميعه ولا يختلف عليه أحد وهو الفقر والتخلف، اضافة للعدو الخارجي المتربص بنا، وبديننا، ووطننا. وقد يقول قائل: وماذا عما نعانيه من ظلم واضطهاد؟ نقول الصبر.. ونحسب أن ثواب الصبر هنا أرجى وأثقل في الميزان، فلا بد أن تجتمع الجهود لوقف هذه الاعمال التي لا طائل من ورائها غير الدمار لأبناء الدين الواحد، ولعل ذلك يكون بداية طيبة يبني عليها حل يخفف من هذه المعاناة، ويعطي الجميع الفرصة لمشاركة عملية في هموم هذا البلد ورفع المعاناة عنه. انها مصالحنا الشرعية جميعا كمسلمين يعيشون على أرض واحدة، وفي بلد واحدة، ومصالح هذا البلد تحتاج لجهودنا جميعاً لتستعيد عافيتها، وتقدمها، ونهضتها، ومن قبل كل شيء مصلحة هذا الدين الذي يُلزمنا أن نتضافر لرفعة شأنه والدعوة إليه وازالة ما شوه منهجه القويم من شوائب الدعايات المنكرة. نعم مصلحة هذا الدين الذي استغل اعداؤه هذه الفتنة والدماء التي سالت بين اتباعه لكي يشوهوا صورته ويصفوه بالدموية والارهاب حتى صار المسلم في الخارج رمزاً للإرهاب والدموية". وخلص هؤلاء القادة الى أنه "من مصلحتنا جميعاً أن نقف في وجه هذه المفاسد رجاء ثواب الله وطمعاً في فضله ونعمته". وقالوا: "لا شك في أن المواجهات التي دارت بين طوائف من الشباب وجهاز الشرطة قد أفرزت كثيراً من القضايا الخطيرة والمهمة التي تحتاج دوماً إلى ضبط شرعي، ولا شك كذلك في أن أهل العلم الشرعي محجوبون في ظل معمعة الحرب وقعقعة السلاح وصيحات الثأر والانتقام المتبادلة من أن يدلوا بدلوهم في هذه القضايا المهمة. والنتيجة التي لا مفر من وقوعها شئنا أم أبينا هي إنه سيتم ترسيخ بعض المفاهيم تحت تأثير الضغوط العنيفة التي تمارس والظروف غير الطبيعية الموجودة. وسيكون كثير من هذه المفاهيم غير صحيح وغير موافق للشرع سواء لأحكامه التفصيلية أو لروحه العامة وقضاياه الكلية". وعلى ذلك فإن تلك الأبحاث تشير إلى عودة الجماعة إلى العنف مرة أخرى صارت أمراً مستبدعاً، فطوال تاريخ الجماعة الإسلامية ظلت سياساتها وانشطتها تمثل تطبيقاً لما يراه قادتها ومبادئهم التي يضعونها في دراسات وأبحاث.