بين أطلال مكتبة ساراييفو الوطنيّة سجّل برنار بيفو الحلقة الأخيرة من برنامجه الثقافي الشهير "بويون دو كولتور" حساء الثقافة 407 حلقات. في هذا المكان الرمزي الذي يذكّر بجراح لم تلتئم في الوجدان الأوروبي المعاصر، استقبل ضيوف حلقته الوداعيّة من كتّاب ومفكّرين ومثقفين عالميين، واختار ديكوراً تلك الجدران المنخورة التي شهدت احدى أبشع الجرائم الحضاريّة خلال القرن الماضي، إذ قضى القصف الصربي المتعمّد هناك، العام 1993، على كنز من 3 ملايين كتاب، تحولت رماداً ودخاناً. بعد أكثر من ربع قرن من الحضور المتواصل على الشاشة الصغيرة، قرّر المقدّم التلفزيوني الفرنسي الشهير أن يسدل الستار على عمر كامل أمضاه في خدمة الثقافة والكتاب. وبرنار بيفو يبدو اليوم، وهو في السادسة والستين، ظاهرة تلفزيونيّة استثنائيّة، قد لا يكون لها مرادف في العالم، ظاهرة تتجاوز حدود فرنسا إلى بلدان كثيرة أخرى، كان يعاد فيها بثّ حلقات برنامجه السابق "أبوستروف". والبرنامج المذكور الذي أطلقه العام 1975، وقدّم منه 724 حلقة، هو الذي صنع شهرته، وكرّس أسلوبه الخاص في اعداد وتقديم برنامج تلفزيوني أسبوعي من 75 دقيقة، مخصص للاحتفاء بالكتب والكتّاب، والتعريف بالاصدارات الجديدة والترويج لها. واليوم يجمع الناشرون، وحتى الكتّاب - حتّى الذين لم يستقبلهم بيفو ! - على الدور الحيوي الذي لعبه في خدمة الثقافة، ورفع مبيعات الكتب. فهذا الرجل الدائم الحضور والابتسام والدهشة، عرف كيف يشدّ المشاهدين، وكيف يمّحي خلف ضيوفه تاركاً لهم أن يعبّروا عن أنفسهم، وينقلوا تجاربهم، ويتناقشوا في ما بينهم، من دون أن يطلق العنان لنرجسيّته، أو يسخّر ضيوفه في خدمة نجوميّة المقدّم التي تطغى غالباً على كلّ ما عداها. حين بدأ بيفو صحافياً في الملحق الثقافي لجريدة "فيغارو" أواخر الخمسينات، لفت الشاب الآتي إلى العاصمة من أعماق البلاد، الأنظار بقدرته على التقاط أخبار الوسط الأدبي ونقلها. وبين برنامجه التلفزيوني الأوّل "لنفتح المزدوجين" 1973، والأسابيع الماضية، نسج مسيرة حافلة استقبل خلالها كبار الأدب العالمي من أمثال فلاديمير نابوكوف وألبير كوهين ومارغريت يورسونار وألكسندر سولجينتسين وجورج سيمنون ومارغريت دوراس. بكثير من التواضع والمهارة، وبشيء من المكر الظريف، كان بيفو يطرح الأسئلة ويحرّك النقاش، ويسلّط الضوء على الجوانب الحيويّة في الكتاب المطروق أو القضيّة المثارة. ُوجِّهت إليه طبعاً انتقادات كثيرة، منها تسطيح السجال، واختزال القضايا المهمّة، لكنّ المؤكّد أنّه استغلّ أقصى ما تسمح به قوانين الشاشة الصغيرة، لكشف التجارب الابداعيّة والخوض في صميم المسائل الجوهريّة. قرّب برنار بيفو الثقافة من الناس، ونشر حبّ الكتاب بفضل تلفزيون القطاع العام، وأدخل إلى المكتبات جمهوراً لم يكن مهيأ لذلك في الأساس. كان يكفي لأي كاتب يستضيفه، أن يجتاز بنجاح امتحان الظهور في واحدة من تلك الجلسات التي تذكّر بالصالونات الأدبيّة خلال القرن الثامن عشر، كي يرتفع مبيع اصداره الجديد بنسبة قد تزيد على العشرين في المئة! لكن الوجوه الأكثر شعبيّة معرّضة للاستهلاك أيضاً. خصوصاً في ظلّ تكاثر الأقنية التلفزيونية، وتغيّر ايقاع الحياة، وانحسار الهمّ الثقافي. فهل يتسع تلفزيون القرن الحادي والعشرين لمقدّمين ومعدّين من أمثال برنار بيفو؟