موقف ميتروفيتش من مواجهة مانشستر سيتي    حقيقة تعاقد النصر مع جيسوس    نيوم يعلق على تقارير مفاوضاته لضم إمام عاشور ووسام أبو علي    رابطة العالم الإسلامي تُدين العنف ضد المدنيين في غزة واعتداءات المستوطنين على كفر مالك    رئيسة الحكومة ووزير الصحة بتونس يستقبلان الرئيس التنفيذي للصندوق السعودي للتنمية    لجنة كرة القدم المُصغَّرة بمنطقة جازان تقيم حفل انطلاق برامجها    ليلة حماسية من الرياض: نزالات "سماك داون" تشعل الأجواء بحضور جماهيري كبير    عقبة المحمدية تستضيف الجولة الأولى من بطولة السعودية تويوتا صعود الهضبة    "الحازمي" مشرفًا عامًا على مكتب المدير العام ومتحدثًا رسميًا لتعليم جازان    «سلمان للإغاثة» يوزّع (3,000) كرتون من التمر في مديرية القاهرة بتعز    فعاليات ( لمة فرح 2 ) من البركة الخيرية تحتفي بالناجحين    في حالة نادرة.. ولادة لأحد سلالات الضأن لسبعة توائم    دراسة: الصوم قبل الجراحة عديم الفائدة    ضبط شخص في تبوك لترويجه (66) كجم "حشيش" و(1) كيلوجرام "كوكايين"    أمير الشرقية يقدم التعازي لأسرة البسام    نجاح أول عملية باستخدام تقنية الارتجاع الهيدروستاتيكي لطفل بتبوك    صحف عالمية: الهلال يصنع التاريخ في كأس العالم للأندية 2025    مقتل 18 سائحًا من أسرة واحدة غرقًا بعد فيضان نهر سوات بباكستان    الهلال يحقق مجموعة من الأرقام القياسية في مونديال الأندية    إمام وخطيب المسجد النبوي: تقوى الله أعظم زاد، وشهر المحرم موسم عظيم للعبادة    12 جهة تدرس تعزيز الكفاءة والمواءمة والتكامل للزراعة بالمنطقة الشرقية    الشيخ صالح بن حميد: النعم تُحفظ بالشكر وتضيع بالجحود    تمديد مبادرة إلغاء الغرامات والإعفاء من العقوبات المالية عن المكلفين حتى 31 ديسمبر 2025م    بلدية فرسان تكرم الاعلامي "الحُمق"    مدير جوازات الرياض يقلد «آل عادي» رتبته الجديدة «رائد»    استشهاد 22 فلسطينيًا في قصف الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة    وزارة الرياضة تحقق نسبة 100% في بطاقة الأداء لكفاءة الطاقة لعامي 2023 -2024    رئاسة الشؤون الدينية تُطلق خطة موسم العمرة لعام 1447ه    ثورة أدب    أخلاقيات متجذرة    القبض على وافدين اعتديا على امرأة في الرياض    استمتع بالطبيعة.. وتقيد بالشروط    د. علي الدّفاع.. عبقري الرياضيات    في إلهامات الرؤية الوطنية    البدء بتطبيق"التأمينات الاجتماعية" على الرياضيين السعوديين ابتداءً من الشهر المقبل    نائب أمير جازان يستقبل رئيس محكمة الاستئناف بالمنطقة    الأمير تركي الفيصل : عام جديد    تدخل طبي عاجل ينقذ حياة سبعيني بمستشفى الرس العام    مفوض الإفتاء بمنطقة جازان يشارك في افتتاح المؤتمر العلمي الثاني    محافظ صبيا يرأس اجتماع المجلس المحلي، ويناقش تحسين الخدمات والمشاريع التنموية    لوحات تستلهم جمال الطبيعة الصينية لفنان صيني بمعرض بالرياض واميرات سعوديات يثنين    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    تحسن أسعار النفط والذهب    حامد مطاوع..رئيس تحرير الندوة في عصرها الذهبي..    تخريج أول دفعة من "برنامج التصحيح اللغوي"    عسير.. وجهة سياحة أولى للسعوديين والمقيمين    أسرة الزواوي تستقبل التعازي في فقيدتهم مريم    الإطاحة ب15 مخالفاً لتهريبهم مخدرات    وزير الداخلية يعزي الشريف في وفاة والدته    الخارجية الإيرانية: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة    تصاعد المعارك بين الجيش و«الدعم».. السودان.. مناطق إستراتيجية تتحول لبؤر اشتباك    غروسي: عودة المفتشين لمنشآت إيران النووية ضرورية    استشاري: المورينجا لا تعالج الضغط ولا الكوليسترول    "التخصصات الصحية": إعلان نتائج برامج البورد السعودي    أمير تبوك يستقبل مدير فرع وزارة الصحة بالمنطقة والمدير التنفيذي لهيئة الصحة العامة بالقطاع الشمالي    من أعلام جازان.. الشيخ الدكتور علي بن محمد عطيف    أقوى كاميرا تكتشف الكون    الهيئة الملكية تطلق حملة "مكة إرث حي" لإبراز القيمة الحضارية والتاريخية للعاصمة المقدسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا استقالة ولا اعتكاف للحص... ولا عودة للحريري . لبنان : قصة مئة يوم من عهد لحود
نشر في الحياة يوم 08 - 03 - 1999

في 3 آذار مارس الجاري انقضت 100 يوم من عهد رئيس الجمهورية اللبنانية العماد اميل لحود. مع ذلك واجهت أولى حكومات العهد برئاسة الرئيس سليم الحص متاعب ملفتة. بعضها نشأ من واقع المفاجأة التي اخرجت أولاً الرئيس رفيق الحريري وأوصلت هذه الحكومة، ومن قبلها رئيسها الى السلطة، وبعضها الآخر من النتائج التي ترتبت على هذا الوصول على نحو شطب توازناً سياسياً راعاه عهد الرئيس السابق الياس الهراوي ست سنوات على الأقل، في تركيبة الحكومات المتعاقبة خلال ولايته الطويلة 1989 - 1998.
لذا صح القول، مذ اعلن عن تأليف حكومة الحص في 4 كانون الأول ديسمبر الماضي، انها حكومة رئيس الجمهورية بالذات، وان لم يعد هو، بحكم الدستور المنبثق من اصلاحات اتفاق الطائف، رئيساً للسلطة التنفيذية: حكومة غاب عنها الحريري والأحزاب والقوى التي اطبقت على السلطة ما أن كرس وجودها كطبقة سياسية نافذة الدور السوري في لبنان موالية له بكليتها بعد الانتخابات النيابية عام 1992. لذا أسر رئيس الجمهورية بعيد الاعلان رسمياً إلى أحد المقربين اليه انها "حكومة الشعب والاوادم". وفي هذه العبارة المقتضبة والدالة ما فيها من اشارات الادانة للمرحلة السابقة.
والواقع، كان لحود يعرف انه وحده القادر على المجيء بحكومة تستبعد كل الفرقاء دفعة واحدة. وتأتي بخبراء وقضاة وحقوقيين مدركين لملفاتهم. وهو يعرف كذلك مقتل حكومته هذه، باستبعادها الوزراء - الثوابت، ثم تسميتها اثنين من هؤلاء هما ميشال المر وسليمان فرنجيه قيل في أوساط حكومية واسعة الاطلاع ان توزيره تغطية للمجيء بالمر لأسباب لم يكن في وسع لحود والحص تجاوزها، بل قيل كلام مماثل لهذا سمع تحديداً من لحود.
بعد 100 يوم من عهد لحود، بات في الامكان تأكيد بضع حقائق:
1- استمرار حكومة الحص الى ما بعد الانتخابات النيابية العامة المقرر اجراؤها العام 2000. فلا استقالة ولا اعتكاف ولا تعديل جزئياً ولا توسيع.
2- بقاء الحريري خارج السلطة حتى اشعار آخر. وسيتعين عليه تبعا لذلك خوض انتخابات نيابية قاسية الصيف المقبل. تعزز هذا الاعتقاد جملة قاطعة منسوبة الى رئيس الجمهورية مطلع هذه السنة، في ضوء ما نقل اليه عن رغبة الحريري في اعادة مد جسور التعاون بينهما، قالها لحود لمتصلين به: "لن يكون للحريري خبز في هذا العهد" وهي اشارة كافية لتلمس الموقف الجازم للحود من عودة محتملة للرئيس السابق الى السلطة.
3- العلاقة الوثيقة التي تجمع لحود برئيس البرلمان نبيه بري على نحو لا يخفي فيه رئيس الجمهورية أمام المتصلين به تعويله على دعم رئيس المجلس لحكومة الحص، وان أظهر بري تكراراً مآخذه على طريقة تعاطيها مع بعض الملفات الشائكة كالاصلاح الاداري. فبازاء اصرار بري على الفصل في الموقف بين لحود رئيس الدولة الذي يحظى بدعم كامل منه لعهده وبين الحكومة المسؤولة دستورياً أمام مجلس النواب، يقابله رئيس الجمهورية بموقف مماثل يضع فيه بري في مقدم حلفائه.
4- لا فتح لملفات العهد السابق، ولا ادانة لهما تبين حجم المخالفات التي حصلت فيه، خصوصا ازاء ما تردد ابان حملة الاصلاح الاداري أخيراً من امكان محاكمة عهد الرئيس الياس الهراوي. ثم جاءت في الأيام الماضية دعوة السلطات القضائية الوزير السابق للنفط شاهي برصوميان للتحقيق معه في اهدار مال عام، فضلا عن اتهامات مماثلة في الشهر الأول من عهد لحود عبر اثارة شبهات محددة حول وزير الدولة المكلف شؤون المال فؤاد السنيورة. كل ذلك بالتزامن مع الشعارات التي اطلقها العهد الجديد عن الشفافية والنزاهة والعقاب والمحاسبة والكشف عن أموال الدولة وأسرار أرقامها وعن الملفات السود، كما لو أن ذلك العهد برسم الملاحقة. على أن الواضح من مثل هذا الاحتمال ان لا محاكمة لعهد الهراوي. وان بدا لفترة، ثم أخذ بالتراجع، ميل الحكومة الى استعادة أموال عامة اهدرها وزراء سابقون. وقد تكون زيارة الدكتور بشار الأسد نجل الرئيس السوري للرئيس السابق للجمهورية في منزله في اليرزة في 3 شباط فبراير الماضي والغداء الى مائدته خير معبر عن رغبة دمشق في دعم صداقتها للهراوي واستمراره حليفاً لها.
إلا أنها أيضاً 100 يوم من صمت رئيس الجمهورية، ما خلا بضعة مواقف متفرقة، في مناسبات متباعدة يعلن عنها، سواء في جلسات مجلس الوزراء أو تلك التي تنسب اليه من زواره النواب خصوصاً. اما اسباب صمته بازاء الحملات القاسية التي تخوضها المعارضة ضد حكومة الحص، فيعزوها بعض المسؤولين في مناصب مهمة يشكلون فريق عمل لحود، الى أن الوقت لم يحن بعد لمخاطبته اللبنانيين حيال ما يحصل، فضلاً عن عاملين آخرين:
- أولهما ان الرئيس ليس طرفاً في المواجهة القائمة بين الحكومة والمعارضة، انطلاقاً من فهمه لاتفاق الطائف وحدود الصلاحيات التي أناطها به الدستور المنبثق من اصلاحات الطائف، اذ يجعله فوق كل السلطات لا شريكاً فيها. عدا ان مهمته المكملة لصلاحياته الدستورية هي الاستماع الى الموالاة والمعارضة، والاضطلاع بدور الحكم في ما يتصل بضمان التوازن بين المؤسسات الدستورية والفصل بينها وتعاونها. ومع ذلك لم يكن في وسعه التردد أخيراً بازاء تصاعد الحملة على الحكومة من اتخاذ موقف الدفاع عنها، من باب التمسك بفرض النظام العام ورفض المذهبية والخروج على الأصول الديموقراطية والبرلمانية في ممارسة لعبة الموالاة والمعارضة.
وثانيها اعتقاده بضرورة منح الحكومة الفرصة الكافية للعمل، وهي بعد لم تتم شهرها الثالث من ممارستها سلطاتها الدستورية منذ أول جلسة لمجلس الوزراء عقدت في 21 كانون الأول ديسمبر 1998.
كلام مماثل قاله لحود لقريبين منه في أول أيام عهده وثابر على تكراره غير مرة، ومفاده ان مهمة أولى حكومات عهده "العمل أولاً". كما انه يفضل "ترك الكلام للأفعال وحدها تعبر عما يجب ان يقال". على أن لحود لا يلبث ان يبدي امتعاضاً من الأسلوب المتبع في تصرف المعارضة مع حكومة الحص، ليقول تبعاً لذلك أمام بعض اعضاء فريق عمله: "ان حجم الضجة التي تفتعلها المعارضة حيال أداء الحكومة أكبر بكثير من أخطاء الحكومة". وهي اخطاء - يقول رئيس الجمهورية - انه سلّم بها وأبدى غير مرة، سواء في جلسات مجلس الوزراء أو أمام زواره، استعداده لتصويبها ثم التراجع عنها وفقاً للأصول، من غير أن يكون سوء التقدير في اقرارها شأن بعض التعيينات الادارية الأخيرة ناشئاً عن مخالفات قانونية. ولا هي ترافقت مع اهدار أموال وسرقات واختلاسات، ليستخلص من ذلك ان حمأة المعارضة على تلك الأخطاء، التي اعترف بها ايضاً رئيس الحكومة ترمي الى التعتيم على اجراءات أساسية قررها سابقاً مجلس الوزراء، بدءاً من أول جلسة عقدها، باصداره تعيينات أمنية قوبلت بارتياح والسماح بحرية التظاهر وتحرير وثائق سفر الفلسطينيين من الموافقة المسبقة واطلاق عمل اجهزة الرقابة الرسمية وتخصيص مقر لمجلس الوزراء يجتمع فيه طبقاً لاحكام الدستور في منأى عن القصر الجمهوري والسرايا الحكومية، فضلاً عن صناديق الشكاوى التي ساهمت الى حد بعيد في انتظام دورة عمل الادارة اللبنانية بتقييدها تفلت التجاوزات والرشاوى والفوضى وضبط الدوام عبر الاحتراز من دوريات التفتيش.
ان يلوذ بالصمت ويدع الحكومة تقوم بدورها، هذا الموقف يعتبره لحود سر قوته. وهو سر قوة حكومة مكمن ضعفها ان ليس في وسعها الدفاع عن نفسها.
سقف سميك
وفي الواقع يظل عهد لحود يستمد قوته من انتخابه هو بالذات، خلافاً لمعظم الرؤساء المتعاقبين قبله الذين اقترنت دوافع انتخابهم بظروف استثنائية واختلال في موازين قوى محلية أو خارجية اكثر منها بالمواصفات الشخصية. هذه القوة لم تكن تعوزها أدلة كثيرة كي تبين حجم الدعم الفريد المعطى لرئيس انتخبه في 15 تشرين الأول اكتوبر الماضي 118 نائباً لبنانياً. سرعان ما عززه تأييد سوري بلا حدود، لم يكن بدوره بعيداً في السنوات الثلاث الأخيرة عن التمسك باستمرار وجود لحود على رأس قيادة الجيش ومحضه ثقة مطلقة في اعادة بناء الجيش، ومن ثم اعتباره في استحقاق 1995 ومن بعده في استحقاق 1998 أول الخيارات السورية لرئاسة الجمهورية في لبنان وأفضلها، تماماً على غرار اعتباره عام 1995 الاجراء الملازم والضروري للتمديد للهراوي.
كذلك لم يعد سراً اظهار حجم هذا الدعم، المقترن ايضاً وايضاً بالعلاقة الوثيقة التي تجمع بين لحود ونجل الرئيس السوري صاحب هذا الخيار مذ أضحى الملف اللبناني في عهدته: في زيارتي الدكتور بشار الأسد بعيد انتخاب لحود ثم في 3 شباط الماضي، وقبل أسابيع في القمة اللبنانية - السورية الأولى بين رئيسي البلدين 12 شباط، بل في بضعة وقائع عملية متلاحقة ما بين انتخاب لحود واجتماعه الأول بالأسد، ثم بعد انعقاد القمة الثنائية، وشكلت هذه الوقائع رسالة إلى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والرئيس السابق للحكومة رفيق الحريري. اذ يجمع بينهما الى جانب حبل المعارضة الغليظ، ادراكهما الفعلي - من موقعيهما القويين في المعارضة وفي قيادة الشارع المذهبي وامتلاك الامكانات الضخمة وسطوة التأثير والاستقطاب لمدى سماكة السقف:
1- اذ ان الزعيم الدرزي لم ير بداً من زيارة لحود - وكان لا يزال رئيساً منتخباً بعد - في مقر اقامته في الحمام العسكري بناء على نصيحة رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان اللواء الركن غازي كنعان بغية التفاهم معه. ومع ان هذا اللقاء لم يسقط جدار التعارض بين الرجلين، إلا أن جنبلاط فهم تماماً مغزى النصيحة السورية له سواء لجهة محاورة رئيس الجمهورية، أو على الأقل أخذ العلم بحجم الدعم السوري الكبير للرئيس. وسرعان ما وجد جنبلاط نفسه في خضم التجربة مرة ثانية بحملة قاسية شنها عبر مجلة "المسيرة" الناطقة بلسان القوات اللبنانية المحظورة 20 شباط ضد لحود وعهده، وضد ما سماه "عسكرة" النظام، ليتراجع بعد أقل من 48 ساعة 21 شباط عن تهجمه على لحود بدعوى "سوء فهم" لكلامه "غير الشخصي"، وبقوله: "أنا لم أقصد الاساءة للحود". ويُقدِّم إثر لقاء بكنعان، اعتذاراً لرئيس الجمهورية، متزامناً مع رغبته في التزام الصمت، وتسليمه "قصر بيت الدين" 22 شباط الواقع تحت سلطته منذ عام 1983 الى الدولة اللبنانية، متخلياً بذلك عن أحد أبرز الرموز التي ارتبطت عسكرياً أو عبر "الادارة المدنية" ب "الامارة الجنبلاطية" في جبل لبنان الجنوبي الشوف وعاليه مذ انتهت "حرب الجبل" سنتذاك، بل ليقرن جنبلاط اعتذاره هذا برغبته في التزام الصمت فسحا في المجال أمام انطلاق العهد وأن من دون دور سياسي يقوم به.
اذ بدا واضحاً في هذه المواجهة التي قادها جنبلاط ضد رئيس الجمهورية، في خضم انقسام سياسي خطير شتت مرجعيات الطائفة الدرزية وقياداتها حيال الموقف من رئيس الجمهورية للمرة الأولى منذ وصول الرئيس الراحل بشير الجميل الى رئاسة الجمهورية صيف 1982، ان ثمة سقفاً للمعارضة: ان تنأى بحملاتها عن موقع رئاسة الجمهورية وعن لحود خصوصاً. لكنها في المقابل لا تتخطى حدود الأصول الديموقراطية والبرلمانية بقصرها على لعبة الموالاة والمعارضة معارضة الحكومة أو موالاتها، وتحت سقف البرلمان وليس في الشارع.
كأن تعني مواجهة العهد بالنسبة الى جنبلاط أيضاً انخراطه في معركة مبكرة على قانون الانتخاب باصرار الزعيم الدرزي على طلب ضمانات كافية لخوض الانتخابات النيابية العامة السنة 2000، من دون خسائر في مواقع نفوذه في دائرتي الشوف وعاليه كان عهد الهراوي - ودمشق خصوصاً - قد وفراها له بوضع قانون اعتمد تقسيماً استثنائياً لمحافظة جبل لبنان فأتاح لجنبلاط في دورتي 1992 و1996 سيطرة كاملة تقريباً على جبل لبنان الجنوبي.
في حصيلة ذلك كله لم ينل جنبلاط من حكومة الحص ضماناً إزاء ما يطلبه من قانون الانتخاب، بل لم ير رئيس الجمهورية بداً من الاعلان أخيراً على لسان بعض زواره عن سعيه الى قانون انتخاب عادل ومتوازن تتساوى فيها المناطق اللبنانية كلها في تقسيم دوائرها الانتخابية، تبعاً لمعايير مشتركة. على ان القريبين من لحود لا يترددون من جهة أخرى في القول ان رئيس الجمهورية يجزم بوضع قانون انتخاب "لا استثناءات فيه لمصلحة أحد".
2- في موازاة معارضة جنبلاط، نشأت معارضة الحريري التي راعت بكثير من الدقة، لأسباب محلية كما لأسباب تتصل بمعرفة الحريري بالذات لحجم الدعم الذي ينطوي عليه موقف دمشق من لحود، مسار العلاقة بينه ورئيس الجمهورية، وبينه والحص، كما بينه والحكومة. في اقتضاب تلقى الحريري ضربة قاسية من لحود بقبوله المفاجئ - وخلافاً للتوقعات بل لتقديرات الحريري نفسه - اعتذاره 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1998 عن رئاسة أولى حكومات عهده في مرحلة استعداده لمواصلة الاستمرار في الحكم منذ عام 1992 بلا انقطاع. ولعل مغزى تلك الضربة ان رئيس الجمهورية أراد فعلياً الاستفادة من سر قوة انتخابه وتأييد سورية له برفضه المسبق تعايشاً في الحكم بينه والحريري يجعل من حجميهما السياسي متكاملين أو على الأقل رفضه اعطاء الحريري من السلطة والنفوذ في الحكم والادارة ما منحه الهراوي على امتداد ست سنوات.
كان واضحاً منذ ما قبل اعتذار الحريري ان الرجلين - وان اظهرا في أكثر من مناسبة مجاملات مفتعلة لاطلاق تعاون مثمر بينهما - يقيم كل منهما على طرف نقيض من الآخر من جهة أولى، وليس في وسع أي منهما مكافأة الآخر بكل التنازلات الممكنة له من جهة أخرى، بذلك حل الحص مكان الحريري في رئاسة الحكومة، وحل الحريري مكان الحص رأس حربة في المعارضة البرلمانية.
تلويح بفتح ملفات
من هذين الموقعين المتعارضين والمتصادمين، باشر الحريري معارضته حكومة الحص باكراً من غير ان يطاول فيها رئيس الجمهورية، مثابراً في الوقت نفسه على الاشادة بمواصفاته، تالياً بدأ الحريري من حيث انتهى جنبلاط في توجيه خصومته الى الحص وحكومته بالذات بدءاً من الملف الأكثر دقة الاصلاح الاداري الذي أطاح في جلسة لمجلس الوزراء في 7 كانون الثاني/ يناير الماضي عدداً من كبار الموظفين في الادارة من الموالين للحريري 12 مديراً عاماً وستة رؤساء مجالس وأعضاء ادارات - جلهم موالون للرئيس السابق - بصرفهم أو بوضعهم في تصرف رئاسة مجلس الوزراء، بالتزامن مع التلويح بفتح ملفات قد أحاطتها اتهامات بالاهدار والاختلاس ومخالفة القوانين. ولم يكن في وسع الحريري الا خوض مواجهة حادة بإزاء هذه الحملة اذ وضع على رأسها الرئيس السابق لمجلس الخدمة المدنية والوزير الحالي للاصلاح الاداري حسن شلق يعلن للملأ ان الحريري منعه تكراراً في أثناء وجوده في مجلس الخدمة المدنية من منع مخالفات ارتكبها وزراء أو اداريون قريبون من الحريري وبعلم منه.
وفي الواقع في معرض تقويم مسؤولين في مناصب مهمة يشكلون فريق اميل لحود هذه المرحلة لا يترددون في القول ان رئيس الجمهورية لم يتحوط تماماً لحجم معارضة يمكن ان يقودها الحريري ضد حكومة الحص، بفعل امتلاكه امكانات ضخمة لا قبل للحكومة على المواجهة المتكافئة معها. ولا يترددون ايضاً في القول إن رئيس الجمهورية فوجئ بمقدار "سطوة" الحريري على وسائل اعلامية لتغليب موقفه من الاصلاح الاداري وابراز اخطاء خطة حكومة الحص بتعويله على اظهار حصول تقاسم حصص في تعيينات ادارية جديدة نال منها رئيس البرلمان حصة سواء بالتعيين أو بتجنيب الموظفين الموالين له الاعفاء الا من اسم واحد على الأقل. كذلك لا يكتم هؤلاء الأثر السلبي للبيان الذي أدلى به الحص 15 شباط/ فبراير ، إذ أجرى نقداً ذاتياً وجد فيه الحكومة ارتكبت "اخطاء" في بعض التعيينات من غير اقتران حصول هذا الخطأ بالاعفاءات التي طاولت الموظفين المؤيدين للحريري، ليقول الحص ان الحكومة "خسرت من رصيدها السياسي ... بعثرتين هما توقف الاعفاءات وبعض التعيينات غير الموفقة" فبدا من لهجة المخاطبة في بيان الحص توجيه اتهام غير مباشر الى بري لمسؤوليته عن عرقلة الخطة الحكومية في مواصلة الاعفاءات التي رشحت في حينه رئيس مجلس الجنوب قبلان قبلان لأسباب تتصل بدورها بإهدار كبير في صندوق هذا المجلس.
فاجأ بيان الحص رئيس الجمهورية الذي لم يخف ذلك الاحد انزعاجه من خطوة الحص، على أنه لم يتردد في الاتصال برئيس الحكومة مساء ويبلغ اليه تضامنه مع بيانه وتأييده الكامل للمثابرة على استكمال خطة الاصلاح الاداري. لا بل سُمع لحود يخاطب الحص بعبارة "القافلة تسير يا دولة الرئيس"، تعبيراً منه عن تشبثه برئيس حكومته وبرنامجه للاصلاح واستكمال خطته في ثلاثة أسابيع أخرى، وان يكن قد وجد في بيان الحص عامل اضعاف لها "لا مبرر له".
الواضح ان ما يسلّم به رئيس الجمهورية هو ان يظل سر قوة عهده لا سر قوة الحكومة، والا يكون تالياً على طريقة لعبة العروس الروسية، ثمة سر خلف سر، خلف سر، خلف سر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.