رئيس هيئة الأركان يتفقد وحدات القوات المسلحة وقطاعات وزارة الدفاع في الحج    الصحة للحجاج: حرارة الجبال بالمشاعر المقدسة تصل إلى 72 درجة    أرامكو و"نيكست ديكيد" تعلنان اتفاقية مبدئية لشراء الغاز الطبيعي المُسال من منشأة ريو غراندي    صحفيو مكة يشيدون بمضامين ملتقى إعلام الحج    النفط يتراجع بعد الزيادة المفاجئة في المخزونات الأمريكية ووفرة إمدادات الخام    الربيعة يستعرض جهود مركز الملك سلمان للإغاثة في قطاع غزة    تصعيد الحجاج المرضى من مستشفيات جدة إلى مستشفيات عرفات    إيقاف العمل في 12 محطة وإغلاق 50% من مضخات الوقود في 185 محطة    البسامي يتفقد جاهزية قوات أمن الحج    : أنظمة الذكاء الاصطناعي أسهمت في تعزيز إدارة عمليات الحج بأعلى مستويات الإنجاز والكفاءة والأمان    المملكة تستعد للمشاركة بمعرض سيئول الدولي للكتاب 2024    وزير السياحة: 27 مليون سائح استقبلتهم السعودية عبر «التأشيرة الإلكترونية» في عام 2023    «حفل بذكرى زفاف أقصر زوجين    الأرصاد: لا يستبعد تكون السحب الرعدية الممطرة المصحوبة برياح نشطة على الرياض والشرقية    اعتماد مهبطي الطائرات العمودية في أبراج الساعة للإسعافات الجوية    الدنمارك.. دراجة مسروقة تقود الشرطة إلى مفاجأة    وزير الحرس الوطني يطّلع على استعدادات القوات المشاركة بموسم الحج    «قوات أمن الحج»: تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي حفاظاً على سلامة الحجاج    تقرير: 4.5% وزن الأسهم السعودية في MSCI    كيف أُحبِطُ مَنْ حولي ؟    الذات والآخر    مهمة سهلة للكبار في دور ال 32    أخضر الملاكمة التايلندية ينتزع ذهب العالم في اليونان    «المهدرجة».. الطريق إلى أزمات القلب وسكتات الدماغ    أعرب عن الاعتزاز بالعلاقة المتميزة مع الشقيقة الكبرى.. صباح الحمد يشكر خادم الحرمين الشريفين وولي العهد    العقيد الطلحي يتفقد مركز(911)    فاطمة تنال الماجستير من جامعة المؤسس    مدير مدرسة هشام بن حكيم يكرم الكشافين المتميزين    آل الفرحان يحتفلون بزفاف 3 عرسان في ليلة واحدة    ولي العهد يعزي ولي عهد الكويت في ضحايا حريق المنقف    القيادة تهنئ رئيسي روسيا والفلبين    سطوة ريال مدريد    أشعة الرنين المغناطيسي تكشف تعرّض "العويس" للإصابة في العضلة الخلفية للفخذ    25 فعالية لمركز "إثراء" في عيد الأضحى    دورة تأهيلية لجامعي البيانات لموسم حج 1445ه    منتجات فريدة للإبل    ألمانيا تستضيف يورو 2024 بمشاركة 24 منتخباً.. صراع على عرش القارة العجوز.. وإنجلترا وفرنسا أبرز المرشحين    خدمات متكاملة لراحة ضيوف الرحمن    الأمين العام للأمم المتحدة: مستوى الدمار في غزة وأعداد الضحايا لم يسبق لها مثيل    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته.. وصول الطائرة السعودية ال 53 لإغاثة الشعب الفلسطيني    فريق طبي ينجح في إزالة ورم من رحم مواطنة في مستشفى الولادة والأطفال بالدمام    كشفته دراسة عالمية شملت 356 مشاركًا.. إدمان «ألعاب الفيديو» يؤثر على جودة النوم    المملكة تعزي في ضحايا حريق «المنقف» في الكويت    وزارة الداخلية تصدر قرارات إدارية بحق عدد من المخالفين لأنظمة وتعليمات الحج    الهلال يفتقد البليهي في السوبر السعودي    180 شركة تخدم أكثر من 208 ألف من حجاج الداخل    لا حج بلا تصريح    تجمع الشرقية الصحي يشارك في مبادرة "خدمتكم شرف "    «البريكس» بديل عن نادي باريس !    الطواف صلاة ولكن !    تحريف الحج عن مقاصده التعبّدية !    الإعلام الرياضي    دموع رونالدو والنصر    «إش ذي الهيافة»    وزير الداخلية الكويتي الشيخ فهد اليوسف أنموذجاً    هل آن أوان مجلس أعلى للتعليم ؟    الرئيس الأوكراني يصل جدة وفي استقباله نائب أمير مكة    تابع سير العمل في مركز قيادة الدفاع المدني.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد مشاريع التطوير في المشاعر المقدسة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من جامعة الزيتونة إلى معركة الاصلاح الاجتماعي . الطاهر الحداد : بين عناء التفكير وعذاب التكفير
نشر في الحياة يوم 20 - 04 - 1998

"اليوم الذي تنطلق فيه عقولنا حرّة من سجن التقاليد فتحكم على ماضينا وحاضرنا لفائدة مستقبلنا هو اليوم الذي يولد فيه العمل المثمر لحياتنا"، بهذه الكلمات أطلق الطاهر الحداد رهاناً جريئاً لا يزال راهننا الفكري يرجّع أصداءه إلى اليوم. فالمصلح التونسي الذي يحتفل العالم العربي بمئويّته العام المقبل، لعب دوراً وطنيّاً وسياسيّاً مشرّفاً في مواجهة الاستعمار والبؤس، قبل أن يخوض مجال الاصلاح الاجتماعي ويكون اول داعية لتحرر المرأة في المغرب العربي. من هو الطاهر الحدّاد صاحب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، كتابه المرجعيّ الصادر قبل سبعين عاماً، والذي ترك بصماته على قانون الأحوال الشخصيّة في تونس؟
بعد عقدين على وفاة قاسم أمين، أبرز داعية لتحرير المرأة في العالم العربي، وتحديداً أواخر العشرينات عند حلول تلك الأزمة الاقتصادية الكبرى، أصدر المصلح التونسي الطاهر الحداد مؤلفه الشهير "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي أعيد طبعه في تونس أخيراً. دعا الحداد الذي كان في الثلاثين، إلى ضرورة تحرر المرأة، مُعتبراً انه بدون ذلك سوف يظل "نصف المجتمع مشلولاً ومريضاً"، فإذا به أوّل داعية لتحرر المرأة لا في تونس فحسب، بل في كامل منطقة المغرب العربي. وقد أثار كتابه المذكور حفيظة المتشدّدين فهاجموه بشدة وعنف، معتبرين أفكاره وأطروحاته خروجاً على التقاليد. بل إن البعض جند "بلطجية"وسوقيين للاعتداء عليه بالضرب ورميه بالحجارة في الطريق العام.
ودعوة الحداد جاءت في فترة تميّزت بظهور انتلجنسيا مستنيرة، منفتحة على أفكار العصر الحديث. من أبرز رموز تلك المرحلة، نشير إلى أبي القاسم الشابي الذي لم يسلم هو الآخر من حملات التجريح إذ نعته المحافظون ب "الكافر" و"الزنديق"، ومحمد علي الحامي مؤسس اول تجمع نقابي للعمال التونسيين، وجماعة "تحت السور"، وهم أدباء هامشيون كانوا يجتمعون يومياً في مقهى يحمل الاسم ذاته، اي تحت السور - يقع في مربض "باب سويقة" في قلب تونس العتيقة. وقد لعب هؤلاء دوراً ريادياً في تحديث الأدب التونسي شكلاً ومضموناً ولغة وتمسكوا من خلال قصصهم وأزجالهم ومسرحياتهم القصيرة روح الحياة التونسية في فترة ما بين الحربين.
كما تزامن صدور كتاب الحداد مع بروز تيار شبابي تحديثي داخل الحزب الحر الدستوري التونسي المناهض للاستعمار. وقد تزعم هذا التيار الحبيب بورقيبة الذي سينتصر لأفكار الحداد فور استلامه السلطة اثر حصول تونس على استقلالها، وصدور قانون "الأحوال الشخصية" الذي أقرّ حرية المرأة في النصوص. فمن هو هذا المفكّر النهضوي الذي شكّل مفترق طرق في مسار الفكر المغاربي والعربي، والذي يعرفه أهل المشرق ويحترمون دوره وانجازاته.
يختلف المؤرخون حول تاريخ ولادة الطاهر الحداد، ويرجّح أنّه أبصر النور خلال العام 1899. ومثل محمد علي الحامي ينتمي إلى الجنوب التونسي، وتحديداً إلى بلدة الحامة قرب قابس. وقد وفدت عائلته إلى العاصمة اواخر القرن الماضي، واستقرت في حي فقير من أحياء المدينة العتيقة. عمل والده في السوق المركزي. وما ان نما الفتى الطاهر، حتى التحق به ليساعده في الدكان الذي يعمل فيه والمعدّ لبيع الدواجن. في الآن نفسه كان يتردد على كتّاب الحي حيث تعلم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن. والذين عرفوه في هذه الفترة - اي فترة الطفولة - يقولون انه كان حاد الذكاء، منطوياً على نفسه، ميّالاً الى العزلة والصمت.
البدايات في الزيتونة
عند بلوغه الثالثة عشرة، التحق الطاهر الحداد بالجامعة الزيتونية. وهناك لفت انتباه شيوخه بجدّه ومثابرته على الدرس وقدرته الفائقة على الخوض معهم في مناقشات تحرجهم أحياناً أمام طلبتهم. وكان الفتى قد أخذ خلال تلك الفترة يتابع باهتمام ما يدور في بلاده من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية. ومن المرجح أن يكون قد تردد على بعض النوادي الأدبية التي تكاثرت في ذلك الوقت، وانبسط نفوذها حتى أن سلطات الاستعمار كانت ترسل جواسيسها لتعرف فحوى ما يدور فيها من نقاشات. ومن المرجح أيضاً أن يكون تأثر بافكار حركة "تونس الفتاة" التي كان يتزعمها حاصبه علي باش، وهو مناضل وطني كبير سيُبعده المستعمر لاحقاً، فيهاجر الى اسطمبول ثم يموت غريباً وحيداً في مدينة جينيف السويسرية.
ولا شك أن بين الأسباب الأخرى لتلك النزعة التحررية التي طبعت مسيرته في ما بعد، أن الطاهر الحداد رافق بحماسة نهوض الحركة المسرحية التي ساهمت مساهمة فعالة في بلورة الوعي الوطني والتحديثي عند التونسيين عموماً، وعند المثقفين خصوصاً. وقد برزت هذه الحركة المسرحية اثر قدوم جوقة الكوميديا المصرية إلى تونس في العام 1907 وتقديمها مسرحية "العاشق المتهم". ويقول الشيخ الفاضل بن عاشور مؤلف كتاب "الحركة الادبية والفكرية في تونس" ان التونسيين أدركوا بعد عرض هذه المسرحية "معنى فن الذوق الأدبي في التمثيل". وما ان عاد جوق الكوميديا المصرية إلى القاهرة حتى ظهرت اول فرقة مسرحية تونسية باسم: "النجمة التمثيلية". كان ذلك في العام 1908. وبعدها بسنتين تأسست "جمعية الآداب" بعناية المناضل الوطني الكبير الشيخ عبدالعزيز الثعالبي، ثم تلتها "جمعية الشهامة العربية". وفي العام 1911 ظهر أول نص مسرحي لكاتب تونسي يدعى محمد الجعايبي. ويذكر الشيخ الفاضل بن عاشور أن فرقة سلامة حجازي قدمت إلى تونس، فهام الجمهور التونسي بمسرحيات "صلاح الدين" و"شهداء الغرام" و"مجنون ليلى" و"هاملت"، وفتنوا بالابيات التي تغنى بها الممثلون على الركح:
"سلام على حسن يد الموت لم تكن
لتمحوه أو تمحو هواه من القلب
إن كنت في الجيش أدعى صاحب العلم
فإنني في الغرام صاحب الألم"
ومن الثابت أن الطاهر الحداد تأثر بكل هذا النشاط السياسي والثقافي والمسرحي، وتابعه بحرص واهتمام بالغين حتى انه أصبح فيما بعد مصدراً أساسياً لأفكاره واطروحاته التحررية.
تضع الحرب العالمية الثانية اوزارها، فيهتم الطاهر الحداد الذي هو في التاسعة عشرة، بتصريح الرئيس ولسن الداعي إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها. وها هو يتابع بشغف رحلة وفد سافر إلى باريس ليطالب بحق تونس في تقرير مصيرها. غير أن الوفد عاد بعد أسابيع بخفي حنين فأصيب التونسيون بالخيبة. لكن الطاهر الحداد توصل إلى قناعة راسخة هي أن قضايا البلاد لا يمكن حلّها إلا بيد شعبها ومناضليها وقواها الحية.
وفي العام 1920 لم يتردد في الانتساب إلى الحزب الحر الدستوري الذي تأسس برئاسة الشيخ عبدالعزيز الثعالبي. وها هو دائب الحركة والنشاط، يحضر الاجتماعات الحزبية، يكتب المقالات والقصائد الوطنية، يخطب خطباً نارية أمام الجماهير، ويبث أفكاره المستنيرة في النوادي الأدبية. وفي جل المقالات التي نشرها في الصحف آنذاك، نراه مهتماً بصفة خاصة بالتعليم، إذ هو يراه كما يقول أبو القاسم كرو "الطريق الصحيح" إلى رفع مستوى المواطن العقلي والاجتماعي والاقتصادي. كما يرى في التعليم وسيلة ناجعة إلى تطهير العقول والنفوس من تأثيرات الجهل الوبيلة، ومن سياسة الاستعمار وأهدافه الخطيرة من ناحية أخرى".
ثم لم يلبث هذا الشاب المتقد حماسة ووطنية أن أثار غضب الجناح الرجعي في الحزب الذي ينتمي إليه، فحاربه أصحابه بشدة وسعوا إلى افراده "إفراد البعير المعبد". غير أن الحداد واجههم بشجاعة وصبر، وناقشهم بحكمة وبحجج دامغة، وبذكائه الحاد أظهر خواء أفكارهم وبطلانها. وعندما أيقن أن اصلاحهم وتقويم تفكيرهم أمر عسير، بل مستحيل، تركهم في "ضلالهم يعمهون"، وانطلق إلى الشعب "يوقظ ضميره وينير عقله ويبصره بأعدائه الكبار الجهل والرجعية والظلم والاستعمار".
في العام 1924، تبدأ مرحلة جديدة وحاسمة في مسيرة الطاهر الحداد الاصلاحية والوطنية. فقد عاد إلى تونس شاب من قريته، بسنّه نفسها تقريباً يدعى محمد علي الحامي، وقد عمل هذا الشاب في فترة مراهقته خادماً في بيت القنصل النمساوي في العاصمة التونسية. غير أن عمله هذا لم يمنعه من أن يحصل على نصيب من التعليم. قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، انقطع محمد علي الحامي عن العمل في بيت القنصل النمساوي وقطع الحدود التونسية - الليبية، ولعل الهدف من رحلته تلك، كان الالتحاق بحركة المقاومة الليبية ضد الاستعمار الايطالي. غير أنه لم يمكث في طرابلس إلا قليلاً. بعدها سافر الى اسطنبول التي ظل فيها حتى نهاية الحرب الكونية الأولى. وعندما أحس ان الامبراطورية العثمانية على وشك الانهيار، انتقل إلى برلين. وهناك انتسب إلى جامعة "هامبولت" الحرة لدراسة الاقتصاد السياسي. في الآن نفسه نشط في أوساط المهاجرين العرب، وتأثر بأفكار روزا لوكسمبورغ. وحال عودته إلى تونس، شرع في العمل على تأسيس أول تجمع نقابي للعمال التونسيين. وقد وجد في الطاهر الحداد أكبر نصير له في دعوته تلك.
إلتقى محمد علي الحامي الطاهر الحداد في الأيام الأولى من وصوله إلى تونس. والواضح أن كل واحد منهما فتن بالآخر، خصوصاً بعدما لمسا تقارب افكارهما، وانسجام اطروحاتهما. وفي المقالات التي نشرها في هذه الفترة، وايضاً في كتاب "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية في تونس" الذي اصدره عام 1927، نقف على شغف الطاهر الحداد بأفكار محمد علي الحامي، وإعجابه بآرائه أو مواقفه، ومعرفته الدقيقة لحضارة الغرب حتى انه لم يتردد في أن يكتب قائلاً: "ان الافكار التي جاءنا بها محمد علي الحامي لا تتسع لهذه البلاد".
كانت تونس في تلك الفترة تعيش أياماً عصيبة وقاسية: مجاعات وقمع وتشتت في صفوف الحركة الوطنية بسبب سفر الشيخ عبدالعزيز الثعالبي زعيم الحزب الحر الدستوري إلى بلاد الشرق للتعريف بالقضية التونسية، ويأس من الوعود التي لوحت بها السلطات الاستعمارية خلال الحرب. وكان الشابي يصرخ ملتاعاً:
"ألا أيها الظالم المستبد
حبيب الظلام عدو الحياه
سخرت بأنات شعب ضعيف
وكفك مخضوبة من دماه
وسرت تشوّه سحر الوجود
وتبذر شوك الأسى في رباه"
راح كل من محمد علي الحامي والطاهر الحداد يطوفان في جميع أنحاء البلاد بحثاً عن أنصار، متصلين بالعمال وبالوطنيين. وها هما يخطبان في عمال الميناء في بنزرت، ويتحدثان إلى العمال الزراعيين في غار الصلح وماطر، وإلى أهالي زغوان. ولعل أهم ما قاما به زيارتهما لعمال مناجم الفوسفات في منطقة الملتوي في الجنوب التونسي. وكان هؤلاء يعيشون أوضاعاً تتجاوز في قسوتها وبؤسها ما يصفه الكاتب الفرنسي إميل زولا في روايته الشهيرة "جرمينال". ويروي الطاهر الحداد أن محمد علي كان شديد التأثر بمشاهد البؤس والفاقة، وأنه كان يتحدث كثيراً في جلساته عن مشاهد الجوع التي رآها في مناطق الجنوب التونسي، وعن قوافل البدو المتجهة إلى المدن بحثاً عن القوت بعد أن أكلت الجوائح المتوالية مزارعهم وأنعامهم.
ويروي الحداد أيضاً أنه كان يطوف بصحبة الحامي في العاصمة خلال احدى ليالي الشتاء، فإذا بالأخير يحزن بشدّة حين يرى نساء وأطفالاً ينامون على الأرض أو في مداخل البنايات. وفي ظرف بضعة أشهر تمكن الرجلان وأنصارهما من اقناع العمال والحرفيين بضرورة الاتحاد للدفاع عن مصالحهم وحقوقهم. هكذا تأسست أول منظمة نقابية في تاريخ تونس الحديث. بعدها بسنتين كتب الحداد: "إن البلاد محتاجة للاصلاح الاجتماعي أكثر من كل اصلاح، ويشترك في ذلك جميع طبقاتها مهما اختفلت فيها أسباب المعيشة، وان حالة التشعب الموجودة اليوم في الامم الأوروبية، والتي هيأت طوائف كثيرة منها للقيام على غايات تظهر لنا بعيدة هي غير موجودة في شعبنا اليوم، فواجب أن نسير سيراً طبيعياً في ذلك حتى نجعل النجاح قريباً منا".
دفعة أولى على الحساب !
وسرعان ما وعت السلطات الاستعمارية خطر تأسيس اتحاد نقابي للعمال، فلم تتردد في إلقاء القبض على محمد علي الحامي والزج به في السجن مع جمع من أنصاره. وجميع هؤلاء وقفوا في قفص الاتهام يوم 12 تشرين الثاني نوفمبر 1925، ووجهت إليهم تهمة التآمر على أمن الدولة. وبعد المفاوضات، قضت المحكمة بإبعاد الحامي وأنصاره لمدة تتراوح بين 5 و10 سنوات.
بعد الضربة القاسية التي وجهتها السلطات الفرنسية إلى الحركة النقابية التونسية الفتية، لم يصب الطاهر الحداد بالاحباط أو بالتخاذل، بل أصدر بعد ابعاد محمد علي الحامي وانصاره كتاباً قيماً بعنوان "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" يقدم فيه صورة مفصلة عن الاجتماعات واللقاءات التي هيأت لقيام أول تجمع نقابي للعمال، مستعرضاً أفكاره وأفكار محمد علي الحاجي بخصوص التحرر الاجتماعي والسياسي والفكري. وسيظل هذا الكتاب وثيقة هامة لفهم تاريخ المجتمع التونسي خلال العشرينات، كما انه سوف يساعد النقابيين التونسيين في ما بعد، وبالخصوص فرحات حشاد على اعادة بناء النقابات التي أصبحت بعد الحرب العالمية أعتى قوة في مواجهة الاستعمار بعد الحزب الحر الدستوري بزعامة بورقيبة.
كان الطاهر الحداد قد انقطع مطلع العشرينات عن متابعة الدروس في مدرسة الحقوق التونسية، إثر حصوله على شهادة التحصيل، فعاد في أواخر العقد لينتسب من جديد إلى المدرسة المذكورة. وفي الآن نفسه، انهمك في كتابة مؤلفه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي سيكون خاتمة مسيرته الفكرية والنضالية. نقرأ في مقدمة هذا الكتاب الصادر سنة 1928: "إن الاصلاح الاجتماعي ضروري لنا في عامة وجوه الحياة. وعلى الخصوص ما كان منه متعلقاً بوجودنا في الحياة. وقد رأيت بعين اليقين أن الاسلام بريء من تهمة تعطيل الاصلاح. بل هو دينه القويم ومنبعه الذي لا ينضب. وما كان انهيار صرحنا الا من أوهام اعتقدناها، وعادات مهلكة وفظيعة حكمناها في رقابنا. وهذا ما حدا بي ان اضع كتابي هذا عن المرأة في الشريعة والمجتمع لنرى أيهما الهادي وأيهما الضال المضل. وعسى اكون بهذا قد أديت واجباً في عنقي اراه ديناً عليّ لجنس انا احد افراده، وأمة انا واحد من ابنائها".
حال صدور كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" ثارت ثائرة المتزمتين، فرموا الحداد بالزندقة. وردّ الشيخ بن مراد، وكان أحد مشاهير جامعة الزيتونية، ردّ رداً عنيفاً عليه قبل أن يقرأ كتابه، قائلاً له: "هذه دفعة أولى على الحساب قبل أن اقرأ الكتاب". وكتب آخر يقول: "جمع الحداد في كتابه ما شاء أن يجمع من أمراض وعيوب المجتمع التونسي، منها شيء عظيم مشترك بينه وبين غيره من المجتمعات كالفساد الاخلاقي، وربما كانت نسبة المجتمعات الاخرى أكثر منها بالقطر التونسي ... إن الطاهر الحداد ينتسب إلى هذه الطغمة التي لا يقرّ لها قرار، ولا يهدأ لها بال، حتّى تقذف بالمفاسد التي تنهك قواها وتؤدي بها إلى الانحلال والدمار".
أما الطاهر الحداد، فصمد أمام العاصفة بشجاعة لا مثيل لها. وردّ بحنكة على المناوئين له قائلاً: "التفكير بدء الحياة ولكننا نضع في وجهه سلاح التكفير لنثير عليه الشعب. فمن أين نبدأ الحياة التي نطلبها للشعب". ويضيف قائلاً: "اليوم الذي تنطلق فيه عقولنا حرّة من سجن التقاليد فتحكم على ماضينا وحاضرنا لفائدة مستقبلنا هو اليوم الذي يولد فيه العمل المثمر لحياتنا". ولم يتوانَ أصدقاء الحداد عن معاضدته، فنظموا له احتفالاً تكريمياً ضخماً في كازينو البلفدير، حضره أنصع رموز الانتلجنسيا المستنيرة مثل الصحافي الهادي العبيدي، والناقد الاديب اللامع زين العابدين السنوسي والشيخ سالم بن حميدة، والأديب محمد المرزوقي، والمناضل الوطني أحمد الدرعي، وكثيرون غيرهم. وفي الخطبة التي ألقاها خلال الاحتفال، قال الحداد وهو في أقصى حالات التأثر: "لأول مرة في حياتي أشاهد هذا الجمع الحافل يمجّد عملاً فكرياً لنهضة المرأة التونسية، قمت به على قدر ما أستطيع".
وكتب أبو القاسم الشابي لصديقه الحليوي رسالة بتاريخ تشرين الاول أكتوبر 1930، معلّقاً على الضجة التي أحدثها كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، جاء فيها: "ان الضجة في تونس قائمة حول كتاب صديقنا الطاهر الحداد، ويقال ان النظارة تفكر في القيام عليه وطلب حجزه كما حصل في مصر مع طه حسين، بمعنى انه قدّر علينا ان نكون مقلدين لمصر في كل شيء. هذا ما يشاع وان كنت لا اؤمن بصحة ما يُشاع. ويوم الجمعة سوف تقام للصديق مؤلف الكتاب حفلة تكريمية كبرى في كازينو البلفدير، وستلقى فيها الخطب والقصائد، وسينشر الحديث عن هاته الحفلة. وقد ابتهجت بها لأنها تدلّ على ان تكريم التونسي للتونسي قد بدأ قبوله في النفوس".
إزدادت الحملة على الحداد ضراوةً، وهاجمه العامة في المقاهي وفي الشوارع بتحريض من أعدائه في الزيتونة، فأصيب بداء القلب، مثل أبي القاسم الشابي، وظل يعاني منه إلى أن قضى في السابع من كانون أول ديسمبر 1935. لكنّ طيفه المضيء ما زال يخيّم إلى اليوم على الأجيال في العالم العربي، وفي تونس التي استوحت من كتاباته قانون الأحوال الشخصيّة الذي هو بين الأكثر تطوّراً في العالم العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.