صدور أسطوانة فيروز الأخيرة "إلى عاصي" التي تضمّ أغنيات رحبانية قديمة، أعاد الرحباني الابن توزيعها مضيفاًَ إليها لمسته الخاصة، ناجحاً أغلب الأحيان في اعطائها حياة جديدة... ردّنا إلى سجال قديم، مستعاد على الدوام: هناك من يعارض بشراسة أيّة عمليّة "مسّ" بالتراث الرحباني، أو يرفض كل محاولات استدراج فيروز على دروب ابداعية جديدة محفوفة بالمخاطر. وهناك في المقابل من تحمّس للتجربة الجديدة التي يخوضها زياد الرحباني منذ "هدير البوسطة" مطلع الثمانينات، والتي بلغت ذروتها مع "كيفك إنت". لا غرابة في أن يثير زياد النقاشات وردود الفعل العنيفة. فهذا الفنّان المشاكس لم يفعل أي شيء كالآخرين منذ بداياته الموسيقية، ومنذ تجربته المسرحية الأولى وهو في أوّل العشرينات. في مكان ما بين سيّد درويش وديزي غيلسبي أو دجو بيم، يقف "الابن الضال" للمدرسة الرحبانية. فهو وريثها الشرعي المشبع بروحها، الأمين لفلسفتها، وهو أيضاً صاحب النظرة النقدية الفتّاكة الذي يعرف نقاط ضعفها وحدودها ومفارقاتها. ومن الطبيعي أيضاً أن يتحفّظ جزء من الجمهور عن هذا التحوّل الجذري للأغنية الفيروزية التي أخذت تنفتح على فجاجة الواقع، فتخسر شيئاً من "خفرها" لتتنفّس الحياة بجرعات كبيرة، فترشح شهوة ورغبة ووجعاً وسخرية مُرّة. فالناس محافظة بطبعها، أسيرة ما ألفته، بحاجة إلى مراجع ونقاط ارتكاز سهلة الاستيعاب. من هنا أن البصمات المشبعة بروح الجاز التي تركها زياد الرحباني على أغنيات مثل "تحت العريشي سوا قعدنا" أو "فايق عليّ" أو "يارا"، قد تصدم للوهلة الأولى على رغم وفائه للعمل الأصلي واحترامه لايقاعه ومنطقه الداخلي. وهناك من يلجأ إلى علم النفس، بطريقة استهلاكية تسطيحية مضحكة، لتقييم تجربة زياد الرحباني وفهمها، متحدّثاً عن نزعة "قتل الأب"، كخطوة لا بدّ منها لاعادة تملّك الأم. الرحباني الابن مدفوع إذاً ب "أوديبيّته"! وهو لا يسعى سوى إلى محو عمل عاصي ومنصور، كي يعيد تملّك تراثهما، وكي يحتكر صورة فيروز وصوتها ورمزها. فهل أن ردّ الفعل على المؤسسة، واعادة النظر بمآزقها وعصيان قوانينها ورفض قيمها، جنحة وجريمة أخلاقية، وفعل خيانة ونكران للاصل؟ أم أنه حركة صحيّة، دينامية وخصبة، منها يطلع الابداع وتتفتّح براعم المستقبل؟ ثم أن زياد قتل الأب في مسرحه وموسيقاه منذ زمن طويل، في عزّ الحرب الأهلية، وانتهى. أما أسطوانة "إلى عاصي" فهي، خلافاً للرأي السائد، مصالحة مع الأب! بعد أن فرض الابن نفسه ورسّخ موقعه المختلف، صار على قدر من النضج والصفاء يسمح له بالغوص في النبع، والعودة إلى الجذور، بحثاً عن الذات. الطريقة التي قام بها زياد الرحباني بتوزيع أغاني فيروز تفضح اعترافاً واضحا وحسيّاً بكل ما يدين به لتلك المدرسة. كعادته يعلن زياد هنا ولادة مرحلة جدية في حياتنا الثقافية. ففي زمن زعزعة المثل وفقدان المعايير، هذا الزمن النغل الذي لف الشيخ إمام بصمت قبل أيّام، نحن أحوج ما نكون إلى تأكيد إرث الآباء. الكثير مما أتى بعدهم مخيب وعقيم، مشرّع على العدم والفراغ. لكنّ المشكلة أن الآباء انسحبوا واستقالوا. حبّذا لو أن كلماتهم لا يزال لها مذاق السنوات الذهبية وسحرها. لكنّهم ابتعدوا، وتركونا وحدنا في مواجهة مصائرنا المجهولة...