بمشاركة 4 فرق .. "الثلاثاء" قرعة كأس السوبر السعودي    تمنع "نسك" دخول غير المصرح لهم    «الاستثمارات العامة» يطلق مجموعة نيو للفضاء «NSG»    المملكة وسورية ومصالح العرب    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    قائد النصر "كريستيانو رونالدو" هدافاً لدوري روشن السعودي ب 35 هدفاً    «الصقور الخضر» يعودون للتحليق في «آسيا»    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة ضمك والرائد في دوري روشن    شوريون ل«التعليم»: أين إستراتيجيتكم ؟    قدوم 532,958 حاجاً عبر المنافذ الدولية    تقدير الجميع لكم يعكس حجم التأثير الذي أحدثتموه في المجتمع    تفقّد ميقات ذي الحليفة.. أمير المدينة: تهيئة الخدمات لتحسين تجربة الحجاج    صالات خاصة لاستقبال الحجاج عبر «طريق مكة»    حلول مبتكرة لمرضى الهوس والاكتئاب    القاضي الرحيم يتعافى من سرطان البنكرياس    الشمردل ينتزع ذهبية غرب آسيا للبلياردو    كوريا الشمالية تعلن فشل عملية إطلاق قمر اصطناعي لغرض التجسس    بولندا تبرم صفقة مع الولايات المتحدة لشراء صواريخ بعيدة المدى    شهادات الاقتصاد    نعم.. ضغوطات سعودية !    الديمقراطية إلى أين؟    ورحلت أمي الغالية    الاحتيال العقاري بين الوعي والترصد    موجز    ارتفاع استثمارات «المسار الرياضي»    كشف رب الأسرة    إسدال الستار على الدوريات الأوروبية الكبرى.. مانشستر سيتي يدخل التاريخ.. والريال يستعيد لقب الليغا    أخضر رفع الأثقال وصيف العالم    اليوم في ختام دوري يلو.. تتويج القادسية.. والخلود والعروبة في صراع الوصافة    الطائر الأخضر والمقعد الأزرق !    أمير المنطقة الشرقية يستقبل أعضاء مجلس إدارة نادي الاتفاق    الأمن العام: 50 ألفاً غرامة تأخر الإبلاغ عن مغادرة المستقدَمين في الوقت المحدد لانتهاء التأشيرة        طلب عسير    سرقة سيارة خلال بث تلفزيوني    الفريق البسامي يستعرض الخطط الأمنية للحج    القيادة تعزي حاكم عام بابوا غينيا الجديدة في ضحايا الانزلاق الترابي بإنغا    عبر دورات تدريبية ضمن مبادرة رافد الحرمين.. تأهيل العاملين في خدمة ضيوف الرحمن    الفيصل تُكرم الطلاب الفائزين في مسابقتَي «آيسف» و«آيتكس» وتشيد بمشاريع المعلمين والمعلمات    حفلات التخرج.. البذل والابتذال    بدء أعمال إنشاء مساحات مكتبية في "ميدان الدرعية"    ولادة 3 وعول في منطقة مشروع قمم السودة    مكتسبات «التعاون»    إخلاص وتميز    كيف تصف سلوك الآخرين بشكل صحيح؟    إدانة دولية لقصف الاحتلال خيام النازحين في رفح    باخرتان سعوديتان لإغاثة الشعبين الفلسطيني والسوداني    نصائح للمرضى خلال رحلة العمر.. إستشاري: خذوا أدوية السكري في مواعيدها وتجنّبوا الإجهاد    سكري الحمل    دراسة تكشف أسرار حياة الغربان    أمير تبوك يستقبل المواطنين في اللقاء الأسبوعي    مجمع إرادة بالرياض يحتفل بيوم التمريض العالمي.. غداً    «جامعة نايف» تفتتح فعاليات الندوة العلمية «إدارة وتأمين الأحداث الرياضية الكبرى»    سلمان الدوسري يهنئ جيل الرؤية على التفوق والتميز    فيصل بن بندر يؤدي صلاة الميت على سعود بن عبدالعزيز    نائب أمير مكة يطّلع على استعدادات وخطط وزارة الحج والعمرة    جوازات ميناء جدة الإسلامي تستقبل أولى رحلات ضيوف الرحمن القادمين من السودان    وصول طلائع الحجاج السودانيين إلى ميناء جدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد أيام تحتفل بيروت بميلاده الثمانين . الشيخ عبدالله العلايلي في حديث البوح والذكريات : نعيش للأسف حالة طوارىء غير معلنة ولا أرى بصيص أمل في بناء دولة حقيقية في لبنان
نشر في الحياة يوم 17 - 10 - 1994

في العشرين من تشرين الثاني نوفمبر المقبل تحتفل بيروت بثمانين الشيخ عبدالله العلايلي الذي يعتبر صرحاً ثقافياً، وعلامة من العلامات المضيئة في سجل النهضة اللبنانية والعربية. والرجل الذي لعب دوراً رائداً في التأليف المعجمي، لم يقصر عطاءه على مجال اللغة العربية، بل تعدّاها الى آفاق الفكر والفقه والسياسة والادب. "الوسط" التقت العلامة الذي بقي طويلاً بمنأى عن الاضواء ومراسم الحفاوة، قبل أن تعيد بيروت الخارجة من الحرب "اكتشافه" ! وتكريمه، فكان هذا الحديث الذي يستعيد فيه محطات مهمّة من سيرته الحافلة، ويلقي نظرة متشائمة على الواقع اللبناني الراهن.
شهدت بيروت في الاشهر الماضية أكثر من تظاهرة لتكريم الدكتور الشيخ عبدالله العلايلي الذي خرج من عزلة الثمانين، بعد عقد أمضاه بعيداً عن الاضواء، مختلياً بنفسه بين كتبه، متفرّغاً لأبحاثه وتأملاته، مدوناً خواطره ومستقبِلاً من تبقى من أصدقاء. ولعل العلامة اللبناني الذي لُقّب يوماً ب "الشيخ الاحمر" بسبب جرأة مواقفه وطليعية أفكاره، هو واحد من هؤلاء المؤسّسين والمعلّمين الكبار الذين عملوا عقوداً في خدمة مشروع حضاري طويل النفس، وسط تجاهل رسمي شبه تام.
ومع اختلاف العهود، لم يتغيّر التقصير الرسمي بحق صاحب "مقدّمة لدرس لغة العرب" 1938، حتى أن مؤلفاته نفدت، وفُقد جزء مهمّ من ابداعاته الفكرية واللغوية والادبية التي لم تلتفت الدولة الى حفظها وجمعها ونشرها كتراث فكري وثقافي فريد، هو ثمرة ما يزيد على نصف قرن من البحث والعطاء... وحدها "دار الجديد" البيروتية انطلقت منذ سنوات في مشروع اعادة نشر مؤلفاته.
حين طلبنا ذات يوم موعداً من الشيخ العلايلي، وكان ذلك خلال تكريمه في "النادي الثقافي العربي"، اعتذر لكون هاتفه لا يعمل منذ زمن، وقال وقد بدت عليه امارات التعب، إن بيته مفتوح وبوسعنا المجيء متى نشاء. فقصدناه، وكان هذا الحديث عن الوحدة والمرض والعزلة وارتعاشات الذاكرة والعمر الهارب، عن مؤلفاته وعن رأيه في الراهن اللبناني وتوقعاته المستقبلية.
الحياة بين الكتب
ليس بوسع المرء سوى التهيب في حضرة الشيخ الذي يفترش أرض غرفة جدرانها تغصّ بالكتب، وقد ثنى ركبتيه أمام مكتب خشبي متواضع، تتوزع عليه مجلدات من كل حجم ولون فلا تترك لإبريق الشاي والكوب الزجاجي إلا حيزاً صغيراً. والى يمينه أرضاً مجموعة أدوية في متناول يده، كما خصص خلفه رفاً قريباً لكتب يحتاجها بصورة أكثر الحاحاً. الجو عابق برائحة الكتب، وبتواضع عالِم يحتفظ ببراءة وطفولة آسرتين. يطلق ضحكة خافتة تعقيباً على سؤال، أو يصمت للتأكيد على موقف يضيق به الكلام. ليس في الغرفة غير كرسيين مرتفعين، نختار الرقعة المجاورة للشيخ أرضاً.
نصف ساعة مرت، خلال لقائنا الاول، قبل أن ننطلق في الحوار، بسبب الحالة الصحية التي يمر بها الشيخ: عارض سوء تنفس - سيتكرر في اللقاءين اللاحقين - منعه من الكلام فضاق صدره، واذا بالموقف يزداد خطورة وخشوعاً. وفي هذه الحالة يكون الصمت سيد الموقف، ولا يعود من مبادرة ممكنة سوى الانتظار. بعدما تناول ملعقة من أحد الادوية، ها هو يهدأ ويبدو شارداً في البعيد. أسأله وقد فقدت الامل في الحوار:
أخاف أن يكون حضوري سبب الارهاق، سأتركك ترتاح.
- مشيراً بيده أن ابقى: لا. كل شيء على ما يرام. لكن تحركاتي نادرة في السنوات الاخيرة. أصاب بهذه "اللهثة" ان تنقلت بين المكتبة والغرفة المجاورة!
يعني نوع من الربو؟ منذ متى هذه الحالة؟ ما الذي قاله الاطباء، وهل من يتابعك صحياً؟
- لا. ليس "الربو". أنا على هذه الحال منذ العام 1985، لم يجد الاطباء حلاً، جهازي التنفسي متعب. وصفوا لي المسكنات هذه، لكن لا علاج لحالتي التي اطلع عليها أكثر من طبيب. وحالياً يتابعني حفيدي طبيب صحياً.
كنت تدخن كثيراً؟ ولك علاقة طيبة مع الشاي على ما يبدو؟
- مؤكداً بإشارة من يده ورأسه لكني أقلعت عن التدخين منذ العام 1984. أما استهلاكي الحالي للشاي، فلا يقاس بحجم ادماني السابق عليه.
تحافظ على جلستك هذه طول النهار؟
- لا أبرح مكاني منذ الصباح ولغاية منتصف الليل.
من دون قيلولة؟ ماذا عن الليل؟
- أخاف التمدد كي لا تعاودني "اللهثة". لذا فإن أثقل الساعات علي، حين أنتقل الى غرفة النوم المجاورة ليلاً!
ألا تعتقد بأن رائحة الكتب القديمة تنعكس سلباً على وضعك الصحي؟
- لا... لا. ثم فتح جاروراً صغيراً في مكتبه، تناول بطاقة تحمل اسم فيليب حتي، وقد دوّن اعلاها اسم الشاعر سعيد عقل ورقم هاتفه تحلّلين كما السيد حتّي المهتم بالجانب التقني للمستشفيات. ذات يوم اصطحبه سعيد عقل معه لزيارتي، وهو يعتقد أن رائحة الكتب تؤثر علي. لا أعتقد بأن للكتب دوراً.
ما الذي يعنيه لك العيش بين الكتب؟ والجلوس أرضاً أهو عادة "أزهرية"؟
- العيش بين الكتب هو عودة الى العوالم الكلية، غير المحدودة بالفواصل الزمنية. أما الجلوس أرضاً فاعتمدته منذ الاربعينات. وكنت درجت عليه منذ العشرينات فعلاً، أي خلال دراستي في الازهر. أرتاح لهذه الطريقة في الجلوس.
ذكر الدكتور ميشال جحا في كلمة ألقاها في مناسبة تكريمك، أن أصل أسرتك من مصر التي وفدتم منها أواسط القرن الحادي عشر للهجرة السابع عشر للميلاد.
- كل ما يحكى أعراف. محتمل أن يكون أصلنا من مصر، فالمعروف أن الاتصال بالسواحل وخصوصا بين بيروت والاسكندرية كان قوياً. لكن ليس هناك شيئ ثابت، بل مجرد ظنون وتأويلات وافتراضات. فعائلة العلايلي قديمة في دمياط، يعود وجودها هناك الى ما يزيد على الخمسة قرون، حتى أن الزعيم حامد الذي كان عضو مجلس الشيوخ المصري وزوج ابنة الشاعر احمد شوقي، هو من آل العلايلي رثاه الشاعر في شوقياته. وتسنى لي أن ألتقي الشيخ عبدالسلام العلايلي نقيب الأشراف وكانوا يعرفون بالطالبيين في العهود التركية، أي من لهم اتصال بنسب السيدة فاطمة. وتجدر الاشارة الى أن النسبة التركية للعائلات كانت تتم إما الى المدن والبلدان بالحاق "لي" بالاسم، مثل مرعش وجزائر اللتين تصبحان مرعشلي وجزائرلي، واما بالحاق "الجيم" باسم المهنة ك "مطبعجي" و"جورنالجي"... هناك ترجيحات، لكن لا وثائق تؤكد.
ماذا عن والديك، وبمن تأثر العلايلي خصوصا ان شقيقك الاكبر لعب دوراً في دار الفتوى؟ أين درست قبل انتقالك المبكر الى القاهرة؟
- والدي هو الحاج عثمان العلايلي تزوج في العام 1894 من والدتي آل الكبي وأنجب ثمانية أبناء ستة صبيان وابنتان كنت أصغرهم. وكان والدي تاجراً من تجار "كومسيون" أو خانات بيروت بيع حاصلات الداخل في مراكز جملة، يملك الخان المعروف بخان البيض عند الدرج المسمى "بدرج الاربعين". لم تكن العائلة غنية الا أنها كانت أقرب لليسر. وتأثرت بأجواء أخي الاكبر الشيخ مختار العلايلي الذي كانت له اهتمامات علمية - دينية، وكان لافت التعمق في الفكر الاسلامي، وتولى فيما بعد أمانة فتوى الجمهورية اللبنانية في زمن كل من المفتي الشيخ توفيق خالد والشيخ محمد العلايا والشيخ حسن خالد. وعندما اغتيل الاخير ابان الحرب، حل أخي محله ممارسة، وعين بالتكليف إثر وفاته الشيخ المفتي محمد رشيد قباني.
أما سكننا فكان بداية في حي الثكنات كما كان يسمى قديماً، وهو عرف لاحقاً بشارع رياض الصلح أو المصارف. ثم اشترى أبي مزرعة كبيرة في الاشرفية قرب دير الناصرة، وبقينا هناك لغاية العشرينات، لتسكن العائلة بعدها في محلة المزرعة. درست في صغري في كُتّاب كل من الشيخ قاسم كتوعة ومصطفى زهرة ونعمان الحنبلي، ثم في مدرسة المقاصد في الحرش 1920، لأسافر وأنا في سن العاشرة 1924 الى القاهرة حيث درست الشريعة وتخرجت من الازهر شيخاً أزهرياً. كما درست الحقوق في جامعة فؤاد الاول، وتخرجت أواخر الثلاثينات لأعود الى بيروت في العام 1940.
"إنّي أتهم"!
بدأت التأليف في القاهرة، وغلّبت اجتهاداتك اللغوية والموسوعية على ما عداها. وسرعان ما ستحدث هذه المؤلفات، الى جانب مساهماتك الفكرية والاجتماعية والسياسية، ضجة في الحياة الفكرية العربية. وبقي لاجتهاداتك واضافاتك وقع خاص في مختلف المراحل والمحطات التي عرفها مسارنا الثقافي المعاصر...
- أول كتبي كان بعنوان "مقدمة لدرس لغة العرب"، تمّ طبعه في القاهرة عام 1938، ولاقى ردود فعل مدوية لما حمله من جرأة في تناول اللغة. وفي العام 1939 صدر "سمو المعنى في سمو الذات" الذي أعقبته معركة شارك فيها الشيخ محمد علي الطنطاوي، وكذلك محمد كرد علي وأحمد الزيات في مجلة "الرسالة". والكتاب الذي كان تمهيداً لدراسة عن تاريخ الحسين صدرت في العام 1941، قدّم أفكاراً مغايرة للسائد في دراسة تاريخ الخلفاء الراشدين. وفي العام 1940 صدرت سلسلة "إني أتهم" سبعة أجزاء يحمل كل جزء منها عنواناً مستقلاً ك "من المسؤول"، "أوهام وأقدار"، وهي سلسلة مهمة جداً لو اكتملت. وغنيّ عن الذكر أنني اخترت عنوان السلسلة ذلك الوقت لتأثري بمقالة شهيرة للاديب الكبير إميل زولا حول "قضية درايفوس" في فرنسا.
وفي العام 1941، صدر لي كتاب "دستور العرب القومي"، وكانت الفكرة القومية حينها في أوجها خاصة في لبنان وسورية والعراق، أكثر من مصر التي كان يسودها التيار الاسلامي. وترجم جانب منه الى الانكليزية، باعتباره اول كتاب بحث موضوعياً في القومية العربية، اذا استثنينا كتاباً أكاديمياً واحداً سبقه، بعنوان "الوعي القومي"، من تأليف الدكتور قسطنطين زريق.
وكانت قوّة خفية تشدني الى اللغة التي عرفت اهتماماً واسعاً في الثلاثينات. لذا بدأت بكتابة "المقدمة"، وفيما بعد كان "المعجم الكبير" الذي حاول أن ينحو نحواً جديداً في المعجمية الموسوعية صدرت منه أربعة أجزاء من المجلد الاول بين 1954 و1955، وكان مقدراً له في الاساس أن يقع في 24 مجلداً. وفي العام 1963 صدر الجزء الاول من "المرجع" أو "المعجم الوسيط". لكنني، اضافة الى اللغة، كنت أطل على مشاغل تلك المرحلة وقضاياها، وما تمليه تطورات المجتمع.
وكان لديك دار نشر أيضاً...
- كان معي الدكتور علي سعد والاستاذ أحمد أبو سعد. أسميناها "دار المعجم العربي"، وكان مركزها يقع في شارع بشارة الخوري قرب بناية ال "غومون بالاس". طبعنا في الدار "المعجم الكبير" الذي لم يكتمل لعدم توفر رأس المال: كنا نراهن على تعهد الدولة بشراء الفي نسخة، لكنها اكتفت بالنصف.
عملت أيضاً على معجم عسكري!
- طُلب إلي وضع المعجم العسكري بناء على تكليف رسمي، اذ شاركت في "لجنة الدروس والابحاث" التابعة للجيش اللبناني. كنت المدني واللغوي الوحيد فيها والباقون من العسكر. كما انتُدب للمساعدة كل من بطرس البستاني، وكان حينها مدرساً في الحكمة وفي الجامعة اللبنانية، والشيخ فؤاد حبيش صاحب مجلة "المكشوف". بدأت العمل على هذا المعجم في العام 1955، وأنجزته في العام 1969، واشتمل على كل المصطلحات المستخدمة في الجيش، سواء في لبنان أو في العالم العربي.
الحزب التقدمي الاشتراكي
بعد القاهرة عدت الى بيروت، ورحت تشغل الناس باطلالاتك المغايرة لما كان سائداً آنذاك، من الجامع العمري الكبير وعبر المنابر والجامعات... ومن خلال مؤلفاتك وعملك الحزبي وموقفك من الانتداب الفرنسي والمسؤولين. كما رشّحت لمنصب مفتي الجمهورية، لكنك لم تصل اليه.
- عدت الى بيروت عام 1940، وطلب مني التدريس في الجامع العمري الكبير في ساحة المعرض. وكان لتدريسي الفقهي بطريقة مغايرة للسائد، على مدى خمس سنوات، أثر ايجابي من حيث اثارته النقاش على مستوى وطني واسع. كما درست في الجامعة اللبنانية لغاية العام 1965، وكنت أستاذاً محاضراً في الجامعة الاميركية، وفي اللجنة الثقافية للجامعة العربية.
وفي العام 1940 أسسنا "كتلة التحرر الوطني" التي ترأسها المرحوم عبدالحميد كرامي، وكان نائبه الفريد نقاش. وكان بين أعضاء الكتلة مثقفون وسياسيون كثر، منهم من أصبح وزيراً في السنوات اللاحقة كجواد وفيليب بولس، ومحي الدين نصولي، عبدالله المشنوق وصبحي المحمصاني وقبلان عيسى الخوري حالياً عضو في المجلس النيابي، وشغلت أنا منصب المقرر. لكن دور الكتلة التي تشكلت ضد حكومة بشارة الخوري - خصوصا عندما أنشأ مجلساً نيابياً عام 1947 كي يبيح التجديد لرئاسة الجمهورية متحايلاً على القانون اللبناني - كان لا بد له أن ينتهي. وعندما رأيت أنني والراحل كمال جنبلاط والدكتور جورج حنا تجمعنا أفكار واحدة، اقنعتهما بتكوين نواة لحزب دائم، فكان "الحزب التقدمي الاشتراكي" في العام 1949، وبقيت أنا فيه لغاية العام 1954، حيث ارتأيت توقيف نشاطي الحزبي والانصراف الى العمل على "المعجم".
أما بالنسبة الى منصب مفتي الجمهورية، فالحقيقة أني لم أترشح بل رشحني مجلس العلماء في العام 1951 الى جانب الشيخ محي الدين المكاوي والشيخ محمد الغروزي، بعد وفاة المفتي محمد توفيق خالد. وكان لترشيحي صدى ايجابي لدى عامة الناس، كما وقفت الصحافة الى جانبي، لا سيما الصحافة اليومية ك "بيروت"، "التلغراف"، "بيروت المساء" و"النهار" وغيرها. وكان من أنصاري في الحكم حبيب أبو شهلا في مقدمة النخبة اللبنانية. لكن السلطة وقفت ضدّي بشراسة آنذاك، اذ كانت معركة الفتوى كبيرة. وأذكر تصريحاً لرئيس الوزراء عبدالله اليافي الذي كان صديقاً، لكن الظروف حدت به لاتخاذ موقف سلبي - قال فيه: "لو كان هناك منصب أكبر من الفتوى لكان العلايلي المرشح الحقيقي له".
ولازمني ذلك الوقت لقب راحت تتداوله الألسنة هو "الشيخ الاحمر". أذكر أني كتبت مقالة أواخر الاربعينات رداً على ذلك، مما أوضحت فيها أنني لا أؤمن بالألوان، بل أسير في المجتمع سير النضج في الفاكهة، فهو الخضرة والحمرة الخ. أي أنه تعبير عن اعتمال في كل حين. وعندما تتوقف الفاكهة عن التلون تسقط، بمعنى أن عوامل داخلية تكسب الانسان اللون الذي لا يمكن أن يكون ثابتاً. وأذكر انه حين جاءني بعض الرسل من الاتحاد السوفياتي معجبين ب "المعجم الاكبر"، وعرضوا عليّ السفر معهم لترجمته، أبيتُ كي لا أثبت القول بالفعل!
علاقتك بالانتداب الفرنسي لم تكن مريحة هي الاخرى. فسلطاته أخذت موقفاً منك، وعملت على مصادرة كتبك؟
- كانوا يخشون وقوفنا فوق المنابر لتحريض الناس. ومما أذكره أن السلطات لاحقت السلسلة التي أصدرتها بعنوان "إني أتهم"... وللأسف لم يبقَ لدي سوى ثلاثة كتب من هذه السلسلة، وهي نفسها الموجودة في الجامعة الاميركية.
هل قلت الجمهورية الثانية؟
ماذا تعلمت من تجربتك في العمل الحزبي؟ وكيف تنظر الى التجربة الحزبية في لبنان؟
- إذا لم يُحدث العمل الحزبي تغييرات عميقة، فلا جدوى منه. والذي حصل في لبنان على هذا الصعيد، أن الأخطاء مستمرة يتبعها بعض التصحيحات على طريقة الذي يمحي ما كتبه ويعاود الكرّة، بينما المطلوب تغيير أسلوب الكتابة.
من خلال معاصرتك لبناء الجمهورية منذ الاستقلال، كيف ترى ما يحكى عن الجمهورية الثانية؟ هل دخلنا مرحلة بناء دولة متينة الاساسات ومستقبل مطمئن؟ وما هي برأيك المعايير الاساسية لبناء الدولة اللبنانية بعد سنوات الحرب؟
- يتردد الشيخ العلامة، كأنه يعاين صعوبة اعطاء جواب سريع. لكنه يعود فيلخص وجهة نظره كالآتي:. كل تاريخنا منذ عهد الانتداب واستقلال بشارة الخوري ورياض الصلح حتى اليوم، يؤكد أن الصراعات عشائرية طائفية. وغير صحيح أن هناك أي بصيص أمل في بناء دولة حقيقية، وليس هناك من يعمل من أجل تحقيق هذه الغاية أصلاً. إن روح العشائر هي الروح الغالبة، ولذلك كتبت سابقاً في "مجلة الاحد" الاسبوعية، سلسلة مقالات تحت عنوان "البداوة المتأنقة" دارت حول الطوائف - القبائل التي تطرح نفسها بشكل انيق.
إن بناء الدولة يتطلب جهداً كبيراً والاّ سيخطىء المسؤولون الدرب تماماً. كتبت أخيراً سلسلة مقالات لمحاولة تصحيح طريقة تفكير المسؤولين في صيغة الجمهورية الثانية، ويمكن تلخيص المشروع المطلوب بثلاثة مستويات: مستوى العلاقات العربية، المستوى الاداري، والمستوى النفسي للناس والتعاطي معهم بروحية الكائن الحي وليس بروحية القطيع... والا فنحن مقبلون على الانحدار والسقوط. فالعالم يتطور من الداخل تطوراً هائلاً، على شكل متواليات هندسية على المستوى العلمي، بينما نحن لا نستطيع التماشي حتى مع المتواليات الحسابية!
التكريم والمصداقية
بالمقارنة مع الامس، كيف يمكن وصف الحالة والواقع؟
- في الاربعينات، كنا نصفق كلما سقطت ضحية لأنها كانت بمثابة الاعلان عن انتصار الحق، وانتصار الحرية. كان أكثر ما يتفاداه الفرنسي وقوفي على المنبر كي لا ألهب الجماهير. كانت الدوافع موجودة. أما اليوم فيعتبر الدفاع عن الحق تخريباً. نحن نعيش للأسف الآن حالة طوارىء غير معلنة! نعيش منذ الاربعينات العقلية نفسها، عملاً بمبدأ "موازنة اتشن"، وهي كلمة تركية تعني "من أجل الموازنة". والعبارة رددها جمال باشا الجزار للرد على منتقديه بشأن زج اثنين من آل الخازن في السجن الى جانب آل المحمصاني تمهيداً لاعدامهما وحرصاً على التوازن الطائفي واستعملها العلايلي عنواناً لاحدى مقالاته. أما التهمة التي ألصقت بهما حينها، فقيامهما بترجمة بعض الوثائق.
كيف تنظر الى احتفالات التكريم التي أقيمت لك؟
- كرّمني الرئيس فؤاد شهاب عندما صدر المجلد الاول من المعجم في العام 1962، ونلت جائزة بقيمة خمسة آلاف ليرة لبنانية. وقبل اشتعال الحرب كرّمني الرئيس سليمان فرنجية في العام 1975. وتوالت بعدها التكريمات والتقديرات الكلامية والشهادات وتنوعت بين وسام "ضابط" ودرع ووشاح. تختلف المسألة بين تقدير خشبي أو معدني أو قماشي! كما كرّمت في دمشق في العام 1955، ونلت جائزة صدام حسين في العام 1987. لكني أعتز خصوصا بالجائزة التي خصّني بها مجمع "اتحاد المجامع العربية" في العام 1954 تقديراً لما حققته في ميدان اللغة العربية.
يقال إن الرئيس الحريري منحك جائزة مالية حين كرّمت في الشتاء الماضي!
- يرد باستهجان متناولاً بطاقة تحمل اسم مصطفى الزعتري هذا ما أعطاني اياه الرئيس الحريري حين وفد من قبله النائبة بهية الحريري والسيد الزعتري في مناسبة تكريمي. ومدني الاخير بالبطاقة للاتصال به إن احتجت الى شيء. أما التكريم الرسمي فتم بتكليف من رئيس الجمهورية المخول بروتوكولياً بذلك الذي طلب الى الرئيس الحريري تقليدي الوشاح بسبب اعتذاري عن التوجه الى القصر الجمهوري لتردي وضعي الصحي.
لكنك شاركت في "أربعين" نجل الرئيس حافظ الاسد في القرداحة! هل كان تمنعك للتعبير عن موقف؟
- اضطررت للذهاب الى القرداحة، والرحلة أتعبتني بالفعل. فاللهثة تصيبني بمجرد الانتقال من غرفة الى أخرى، فكيف الحال حين اجتزت المسافة الطويلة تلك. كما أنني فتحت باباً على نفسي، اذ التقيت الرئيس الهراوي هناك، فعاتبني قائلاً: "للقرداحة بتروح! عندي ما بتطلع!".
ما زلت لم تقل لنا كيف تنظر الى تكريمك؟
- يشرفني ما نلته من اهتمام وحفاوة. لكن الكلمات تذهب مع الهواء. فقيام الدولة بتكريم شخص حقق شيئاً برأي أقرانه ومجتمعه، يبدأ برعاية هذا الشخص وتأمين شيخوخته. ولا يكتسب التكريم مصداقيته ويحقق غايته إلا بإنشاء لجنة تجمع آثار المكرّم المتفرقة، ولجنة نصوص تنشر بعضاً منها في مختارات وكتب مستقلة.
فؤاد أفرام البستاني
هناك موسوعي آخر، ورد اسمه مراراً الى جانب اسمك. إنه الراحل فؤاد افرام البستاني الذي كنت على خلاف معه...
- هاجمت فؤاد افرام البستاني في العام 1944، وكنا مختلفين في الرأي أيّما اختلاف. ثم حلّت بيننا صداقة، وأبى الاّ أن يضع مقدمة "المرجع" عند صدوره. لم نختلف حول اللغة العربية، فهو كان يعتز بها على عكس الشاعر سعيد عقل مثلاً الذي عمل على لبننة اللغة. لكنني هاجمته بعد صدور الموسوعة الشهيرة التي بدأها المعلم بطرس البستاني الكبير وتوفي قبل انجازها، فتوقّفت عند حرف "العين"، الى أن جاء ابنه سليم ليتابع عمله. ومن غريب المصادفات أن الأخير توفي عند كلمة "عثمانية"... ثم وقفت "دائرة المعارف" عند هذه الكلمة. وعندها نصّب فؤاد نفسه مجدداً ومكملاً للموسوعة. وبدل الاستمرار راوح مكانه عند "الالف"، مع ان الدولة ساعدته كثيراً بتعهدها شراء الف نسخة من كل جزء يصدره، وهذا دعم كاف لحماية المشروع من التوقف كما حصل معي. فلو تعهدت الدولة بشراء نسخ كافية مني، لما توقف "المعجم الكبير".
المهم أن هناك اشخاصا أختلف معهم حول التوجهات، لكن هذا لا يعني أني أبغضهم أو أخاصمهم. وفي مقدمة هؤلاء سعيد عقل الذي ليس هناك شخص أحبه ويحبني مثله. كما كان من أندادي المحبين الذين احترمهم مارون عبود والشيخ ابراهيم المنذر وأمين نخلة وغيرهم.
"علة اسمها الثمانون عاماً..."
كيف يمضي الشيخ العلايلي يومه؟
- أتابع العمل. أكتب مقالات بين الحين والآخر، وأدوّن خواطر. كما أنني أقوم حالياً بمراجعة أحد كتبي الصادرة مطلع الأربعينات، تمهيداً لاعادة نشره في "دار الجديد". ومن ناحية أخرى، أبدى السيد تحسين خياط، كمتمول وصاحب دار نشر، رغبته في تجديد المعاجم.
ألا تعمل على كتابة مذكراتك؟
- إن احتفظت بقوة ونشاط، سأجعل الخواطر بمثابة يوميات أو مذكرات. مذكراتي حاضرة في ذهني على كل حال، لا حاجة الى تدوينها. أسترجعها متى شئت!
هناك قواعد صارمة للنوم واليقظة؟
- لا قواعد عندي للنوم واليقظة، نظراً لكوني بلغت من العمر أرذله ولما ترادف علي من تعب، خصوصا في ظل تحكّم "اللهثة" بي، فهي تحرك السعال وحينئذ العياذ بالله! لذا اتفادى التحرك كي أتفادى السعال الذي لا أستطيع تحمله. كل ما بي جيد، ذاكرتي، سمعي، مشيتي الا اللهثة؟
الثمانون أرذل العمر...
- ان الثمانين وقد بلغتها احوجت سمعي الى ترجمان، كما قلت خلال تكريمي في النادي الثقافي العربي. بعد السبعين يصبح العمر أكثر رذالة، وهذا لا يعني تقبيح العمر، وانما ردع الحجر الذي لا يعود صالحاً لزاوية بناء! لذا قال الشاعر أبي صقر الواسطي: "علة اسمها الثمانون عاماً... منعتني للاصدقاء القياما...". عمر هذا البيت ثمانمئة عام وما زال حياً، بينما نحن "سنمضي" بعد قليل!
تفكر بالموت؟
- هذا من البديهيات، يقول الفيلسوف الالماني كانت: "أصعب ما يواجه العقل هو تحليل البديهية!" ولذلك وفق الفلاسفة في الحضارة العربية والاسلامية بتعريفهم البديهية بأنها "القضية التي دليلها فيها".
مادة لم تنشر
من آثاره المطبوعة
1938- "مقدمة لدرس لغة العرب"، "مدخل الى التفسير" مجلدان.
1939- "سورية الضحية". "فلسطين الدامية"، "سمو المعنى في سمو الذات، أو أشعة من حياة الحسين".
1940- سلسلة "إني أتهم" سبعة أجزاء بينها: "من المسؤول؟"، "الحياة تصور وإرادة"، "الحزب بوتقة تصنع الامة"، "منطق الجماعة"، الخ، "تاريخ الحسين: نقد وتحليل".
1941- "دستور العرب القومي".
1942- "السكون والفساد الاجتماعيان"، "رحلة الى الخلد" منظومة خيالية تقع في ألف وخمسمائة بيت، ترجم بعضها الى الفرنسية المستشرق الكبير درمنغهام.
1944- "المعري ذلك المجهول".
1945- "الساحر: سيرة في قصة".
1946- "أيام الحسين: مشاهد وقصص".
1947- "مثلهن الاعلى أو السيدة خديجة"، "الفرق بين الاسلوب والتركيب - دراسة نقدية".
1952- "شهيد القسطل او عبدالقادر الحسيني".
1954 - 1955- "المعجم الكبير" صدرت منه أربعة أقسام من المجلد الاول.
1955- "العرب في المفترق الخطر - بحث نظري في أسلوب العمل العربي".
1963- "المرجع - المعجم الوسيط" الجزء الاول، وتطبعه الآن كاملاً "مؤسسة بدران للنشر".
مؤلفات أخرى: "أين الخطأ؟"، "الترهية او ميثولوجية العرب من خلال اللغة"، "الوجه الكرتوني: حكاية رجل في سياسة بلد"، مجموعة "مقالات وخطب" ثلاثة أجزاء. وفي الحرب الأهلية تعرض بيت الشيخ عبدالله العلايلي للنهب والسلب والعبث بمخطوطاته، ولكن المسودات سلمت، وخاصة مخطوطة كتابه الذي يعز عليه كثيراً "التفسير الجديد"، ومبتغاه أن يجد من يدفع بهذا الاثر الى النشر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.