يروى عن المفكر ابن خلدون أنه قال "الإنسان ابن بيئته"، ومن عرف الباحة مناخاً وتضاريس وطبيعة، سهل عليه أن يعرف إنسانها المنظّر، والشاعر والروائي والمبدع، كيف لا وهي مدينة يسكن هدبها الغيم، وتكتحل من رضابه، وتحلق قريباً من رؤوس إنسانها الشمس وتصقل لونه، وتخيم من حوله السحب لتسمعه"أنشودة المطر"، إنها"سيرة مدينة"تحلّق بأهلها في فضاءات لا حدود لها. وهناك خلف السحب الداكنة تفصح لهم عن كلمة السر التي بها يفضّوا بكارات الجمال، ومن الطبيعي أن يستمد"ابن الباحة"من الضباب شفافيته، ومن الجبال ثباته، ومن الربيع اخضرار القلب الذي لا يشيخ. وسيقف من يزور هذه البقعة الخضراء للمرة الأولى مشدوهاً حين يرى بيوتها الساكنة بهدوء في أحضان الجبال، ومن الطبيعي أن يتساءل هل نبتت القرى من الأرض، أم سقطت من السماء؟ أما من عرفها قبلاً ثم غاب طويلاً عنها وعاد بعد أن شده الحنين إليها، فربما تساقطت دموعه أسفاً على"زمن الخير"الذي كانت أيامه متخمة بالاخضرار، إذ تجري الأودية ببقايا الأمطار، وتنطلق أصوات المواشي في الأودية كأعذب اللحون، وتغرد الطيور على أغصان الشجر في سيمفونية لا تكل، وتأسره صورة محراث تجره الثيران وتتكئ عليه كف حرشاء، وتتماهى أمام عينيه مشاهد النسوة تتدلى من ورائهن قرب الماء في طرقات القرية، وربما تجرأ عدد من الصبية على المناكفة ببراءة، وتتداخل في الأفق الغيوم ضمن مهرجانها اليومي لتلقين الذاكرة درساً في الوفاء لا ينسى. واليوم تحولت الباحة إلى"مطحنة"يومية تعج بالسيارات والموظفين والعمارات، وغدت النفعية، هي الحكم، وطغت اللغة"البراغماتية"على ألسنة الأجيال، فغدا الفريق الواحد فرقاً، والجماعة أفراداً كل يعيش في حدود نفسه، ويستسلم للروتين الجائر الذي يطوي صاحبه حتى يدخله مهملاً في سلة التاريخ.