"اجتذبته أصوات النساء المتزايدة فنهض من فراشه وتحرك على رؤوس أصابعه بحذر، وأطل من فرجة بين شرفتين على بطن البيت. لأول مرة يشاهد ابنة عمه نوف في منزله. كانت بصحبة أمها وأختيها. كن يتحدثن بهدوء احتراماً لجثمان والدته المسجى". بهذا المشهد الذي اختلطت فيه مشاعر الحزن بالحب، ووهج اللقاء بلوعة الفراق يبدأ الكاتب السعودي عبدالله بن بخيت روايته الأولى"شارع العطايف"التي صدرت عن دار الساقي قبل ايام. في اللحظات الأولى تصيبك اجواء الرواية بالتوتر والقلق والاشمئزاز، فبدايتها تحتفي برائحة الموت، وتولد أول صراعاتها في مقبرة. لكنك لا تستطيع الفكاك منها. نجح الكاتب في إغراء القارئ بالمتابعة على أمل التخلص من تلك الوحشة التي خلقتها المشاهد الاولى، وهذا بالضبط ما يحدث. بعد قليل يتعايش القارئ مع تلك الأجواء التي صنعها ابن بخيت بحرفة متفردة، ويصاب بشغف لمتابعة احداث الرواية. ورغم ان شخصيات"شارع العطايف"لا تشبه الابطال التقليديين في الراويات التاريخية والسياسية والرومانسية، وجلهم يعاني من القبح والعقد النفسية وسوء المصير. لكن ابن بخيت جعلهم شخصيات تثير الفضول والمتابعة، واحيانا الإعجاب والتعاطف. ربما يأخذ البعض على الكاتب طغيان الجنس في تحريك الشخصيات والاحداث، وتغلغله في تفاصيل الرواية. لكن الجنس في رواية ابن بخيت ليس مفتعلاً، ولا فاحشاً او وصفياً. فهو جزء من العقدة الدرامية للنص، ومشكلة يعاني منها بعض شخوص الرواية، وهو في غالبه جنس مقزز، يجري بين القبور والخرائب واماكن الرذيلة. لكن الكاتب تلبس الشخصيات وقلل من أهمية المكان، فمحلّة ابن بخيت التي تجري فيها الأحداث لم تأخذ حقها. صحيح ان الكاتب نقل الفقر ورثاثة الحي، لكنه لم يكن معجباً بها، وان شئت، فهو وقع في نزاع بين الحنين لذلك الحي، والرغبة في تجاهله. ويلاحظ ايضاً ان ابن بخيت تعامل مع شخصياته بمزيج من الكره والقسوة والعطف، لكن هذا لم يمنعه من استنطاقهم بعبارات فلسفية جرى صوغها بحس أدبي غير مسبوق. من الصعب الحديث عن رواية طويلة وعظيمة بكلمات قليلة. لكن الذي لا شك فيه ان عبدالله بن بخيت اعلن عن ولادة الرواية السعودية الحديثة. فللمرة الاولى، نرى رواية سعودية على هذا المستوى من التقنية. فهو سيطر على مسألة الزمن على طريقة كبار الروائيين في العالم، ونقل صورة للمجتمع السعودي يجري تجاهلها او تزييفها، وصنع رواية يمكن القول انها شكلت منعطفاً جديداً في تاريخ الرواية السعودية. ومنذ اليوم سيتحدث النقاد عن الرواية السعودية ما قبل رواية"شارع العطايف"وما بعدها. انها بالفعل رواية عظيمة. نشر في العدد: 16788 ت.م: 22-03-2009 ص: 3 ط: الرياض