عندما عاد الكاتب الكسندر سولجنتسين الى روسيا العام 1994، بعد خمسة أعوام على سقوط المعسكر الاشتراكي، لم يجد"الوطن"الذي كثيراً ما حلم به خلال منفاه الطويل في الولاياتالمتحدة. كان يظن أن انهيار النظام السوفياتي السابق سيكون منطلقاً لبناء الدولة الروسية الجديدة التي تعيد الى الشعب الروسي أمجاده السابقة. لكن خيبته كانت كبيرة عندما شاهد"بقايا"دولة ينتهبها الفساد والفقر والفوضى. قرّر الكاتب"المنشق"العائد بعد عشرين عاماً أن يعيش في ما يشبه العزلة في منزله القروي الرابض على احدى ضفاف نهر موسكوفا. لكن شهرته التي لم تخفت يوماً دفعته الى كسر تلك العزلة فراح يطلّ على قرائه عبر كتبه السجالية ومقالاته النقدية التي لم يوفر فيها أحداً. رحل سولجنتسين فجر أمس الاثنين في منزله عن 89 عاماً. كانت الخيبة ما زالت تعتمل في داخله، حاول أن يواجهها بحملاته الهجائية التي شملت"البيريسترويكا"ورائدها الرئيس السابق ميخائيل غورباتشوف الذي اتهمه ب"الارتماء"السريع في أحضان الغرب، وكذلك خلفه بوريس يلتسين والحلف الأطلسي والحرب التي خاضها ضدّ الصرب. وكان كتابه"روسيا نحو الهاوية"الذي صدر في مطلع الألفية الثالثة بمثابة البيان الذي أعلن فيه يأسه المطلق من بناء"الإمبراطورية"الروسية، من غير أن يخفي نزعته شبه"العنصرية"والدينية التي كانت مأخذاً أخذه عليه أعداؤه السابقون من"الحرس القديم"وغرماؤه الجدد الذين فتنهم سحر الغرب. وعندما أعلن يلتسين عزمه على منحه وسام الدولة لم يتوان عن رفضه، معتبراً اياه وسام السلطة التي يكنّ لها الكراهية، لكنه وافق على تسلمه العام 2007 من الرئيس فلاديمير بوتين الذي مدحه أكثر من مرة. ومثلما أثارت رواياته وكتبه التاريخية الكثير من السجال خلال منفاه الأميركي، أثار كتابه"قرنان معاً"الذي صدر في 2002 جدلاً كبيراً واختلف حوله المثقفون والقراء. والكتاب الذي يتناول تاريخ اليهود دفع بعض هؤلاء الى نعته باللاسامية فيما دافع آخرون عنه وعن نظرته الى هذا التاريخ المعقد. تُرى ما الذي صنع اسطورة سولجنتسين: أدبه أم مواقفه السياسية، وفي مقدّمها انشقاقه عن الاتحاد السوفياتي ومعاداته للشيوعية؟ لا يمكن الفصل بين هذين الجانبين في شخصية هذا الكاتب ولا في أعماله مهما سعى بعض"أعدائه"الى تغليب صفة السياسي على الروائي والمؤرّخ. سولجنتسين كاتب لا يستطيع إلا أن يكون سياسياً، وسياسي لا يستطيع إلا أن يكون كاتباً. هذا الكاتب الذي اقتيد الى المعتقل في أول شبابه عندما كان جندياً على الجبهة الألمانية في الحرب العالمية الثانية، لم يستطع إلا أن يفهم الكتابة فعل نضال ضد الظلم والتسلّط والديكتاتورية. ولعل تلك الأسطر القليلة التي كتبها في رسالة له من الجبهة الى أحد أصدقائه وهاجم فيها ستالين، ملقياً عليه تبعات المأساة التي حلّت بالروس، السبب المباشر لدخوله السجن والبقاء فيه ثمانية أعوام. وعندما خرج كتب روايته"يوم في حياة ايفان دينسوفيتش"ونشرها العام 1962. بدت هذه الرواية حدثاً لم تشهد الساحة الروسية مثيلاً له في تلك الحقبة، وسرعان ما ترجمت الى لغات عالمية جالبة الشهرة لصاحبها. إلا أن الكاتب لم يهادن السلطة على رغم تسامحها، فأصدر روايته"جناح السرطان"العام 1965 متناولاً فيها تجربة المرض الذي لم يطاول جسده فحسب بل روسيا ما بعد ستالين. أما العام 1970 فكان عام سولجنتسين بامتياز، فخلاله فاز بجائزة نوبل للآداب وأصدر روايته الشهيرة"أرخبيل الغولاغ"التي أدّت لاحقاً الى نفيه بعدما جرّدته السلطة من جنسيته. كتب سولجنتسين الكثير، في حقل الرواية والتاريخ والسياسة وبلغ كتابه"العجلة الحمراء"الذي تناول فيه تاريخ روسيا الحديث عشرة أجزاء. وفي العام 2006 نُشرت في موسكو أعماله الكاملة للمرة الأولى. وفي السبعينات ترجمت روايتاه"جناح السرطان"و"أرخبيل الفولاغ"الى العربية وقبل عامين روايته"يوم في حياة ايفان دينسوفيتش".