لم يحضر أدب الكسندر سولجنتسين عربياً مثلما حضرت قضيته ككاتب منشق ومعادٍ للنظام الشيوعي. هذا الكاتب الروسيّ الكبير لم يُترجم من أعماله الهائلة الى العربية سوى النزر القليل. روايته"جناح السرطان"صدرت في بيروت السبعينات واختفت من ثم. ويقال ان روايته البديعة"أرخبيل الغولاغ"ترجمت أيضاً. الرواية الوحيدة التي انتشرت عربياً هي"يوم في حياة ايفان دينسوفيتش"وقد ترجمها عن الروسية الكاتب السوري منذر حلوم في مطلع التسعينات. إلا أن مقالات كثيرة كتبت عن سولجنتسين في الصحافة العربية لا سيما في أوج صعود اليسار العربي، ومعظم أصحابها كانوا على حذر منه وربما مناوئين له، ما عدا قلة قليلة تعاطفت معه بصفته كاتباً منشقاً ومنفياً. أما تجربته الروائية الفريدة فغابت عن المعترك العربي ولم تُقرأ أعماله جيداً، وبعض الذين قرأوه انما باللغات الأجنبية. هكذا لم يكن له أثر يذكر في الرواية العربية على خلاف مواطنيه الكبار من أمثال دوستويفسكي وتشيخوف وتولستوي وسواهم. بل انه كاد يغيب كلياً عن المجلات الأدبية التي انفتحت على الأدب العالمي الحديث وقدمت نماذج منه. لم يكن يمكن النخبة الثقافية في العالم العربي أن تحتضن هذا الكاتب الذي تمرّد على النظام الشيوعي وفضحه من الداخل، من قلب المعتقلات والسجون، ناقلاً الى العالم صورة أخرى للثورة البولشفية. وكما حاربه الاتحاد السوفياتي بشدة وكال له التهم، حاربه أيضاً اليسار العالمي والعربي الذي كان يشهد في الستينات والسبعينات ذروة انطلاقه، ساعياً الى تحقيق الأحلام التي ظلّت مجرد أحلام. اليسار العربي، شيوعياً أو اشتراكياً أو قومياً عربياً أو ناصرياً، أخذ عليه ما سماه"ارتماءه"في أحضان الولاياتالمتحدة التي وصفت وما برحت توصف ب"الإمبريالية". ورأى فيه أهل اليسار كاتباً رجعياً و"أصولياً"و"قيصرياً"وقومياً سلافياً واتهموه ب"العمالة"والشوفينية والتعصّب... ظُلم الكسندر سولجنتسين عربياً كثيراً والنقد القاسي الذي وجّه اليه انطلق من"الإشاعات"التي أطلقت حوله، وليس من جوهر تجربته أو قضيته. وقد أُغفل أدبه من جراء هذا الموقف المسبق منه، علماً أنه من كبار الكتّاب في روسيا كما في العالم. ولعل روايات له مثل"يوم في حياة ايفان..."و"أرخبيل الغولاغ"و"الدائرة الأولى"وسواها استطاعت أن تؤسس أدب السجن في القرن العشرين حتى سمّي صاحبها ب"رائد شعرية السجن". وهذه الروايات ستظل حاضرة ليس لما حملت من مآسٍ حيّة وواقعية فقط، وانما لطابعها الفني العالي. ولعل الصفة الحقيقية التي أُطلقت على نتاجه الضخم هي تلك التي أطلقها الناقد الفرنسي الشهير جورج نيفا واصفاً هذا النتاج بالطابع"الكاتدرائي"، وقد وجد فيه"كاتدرائيتين"، واحدة يسميها أدب الغولاغ وثانية أدب الأحوال الانسانية في السجن الصغير والسجن الكبير الذي هو النظام الشمولي أو"التوتاليتاري". لم يكن سولجنتسين ذا نزعة"غربية"كما قيل عنه. الغرب في نظره كان الوجه الآخر للنظام الشيوعي، الغرب الاستهلاكي الذي انتقده في محاضرة شهيرة له ألقاها عام 1975 في مجلس الشيوخ الأميركي وبدا فيها كاتباً محافظاً لا يخفي انتماءه السلافي ولا مسيحيته الأرثوذكسية. هذه المحاضرة لم ترقْ كثيراً للمثقفين اليمينيين في الولاياتالمتحدة وأوروبا. فالغرب بحسب سولجنتسين ساهم في محاربة روسيا وعزلها منذ القرن التاسع عشر، وسعى الى تجريدها من هويتها السلافية والأورثوذكسية. كان صاحب"العجلة الحمراء"يرى مستقبل روسيا في ماضيها، ولم تكن قوميته دعوة الى الانغلاق والى الغاء الآخر. عندما اندلعت حرب الشيشان أعلن موقفاً ضدها وكان الى جانب الشيشان. وعندما وضع كتابه عن اليهود الروس سماه"قرنان معاً". فروسيا كما ينظر اليها هي كل هؤلاء معاً. في"أرخبيل الغولاغ"يسأل"البطل"الشاب سانيا الحكيم العجوز ياسنايا:"لماذا نعيش؟"فيجيبه:"كي نحبّ". هذه المحبة لم يتخلّ سولجنتسين عنها لحظة، حتى عندما ناصب النظام الشيوعي العداء. لم يقرأ النقاد الذين وجهوا اليه التهم جزافاً، سيرته الذاتية البديعة وعنوانها"القمح الذي سقط بين حجري الرحى"، ولا قرأوا كتبه النظرية الأخرى ولا خطاب جائزة"نوبل"الذي لم يلقه بعدما رفض السفر الى استوكهولم لتسلم الجائزة خوفاً من ألا يسمح له النظام بالعودة الى وطنه. في ذاك الخطاب ربط سولجنتسين الفن أو الأدب بما سماه"الثالوث الأفلاطوني: الحقيقة والخير والجمال". ظُلم الكسندر سولجنتسين عربياً مثلما ظلم في الاتحاد السوفياتي السابق. روايته"يوم في حياة ايفان..."التي أصدرتها دار"المدى"حملت على غلافها الأخير تهماً نابية ضدّه وكأن مترجمها المتعصب للنظام الشيوعي ? على ما يبدو ? حاول أن يتبرأ من الكاتب نفسه هاجياً إياه قائلاً:"يتميّز سولجنتسين بأفكار رجعية ويتمسك بالدعوة الى نظام سلطوي تقليدي مستمد من التراث المسيحي الروسي القديم". هذه التهمة تنطبق تماماً على دوستويفسكي وعلى الفيلسوف الروسي الكبير بردياييف. ويصعّد المترجم موقفه المعادي متهماً اياه أيضاً بأنه"لا يؤمن بمبادئ الحريات العامة والديموقراطية". هذا هراء لا يُعتدّ به، وتحامل جاهل، وليس رأياً نقدياً حقيقياً. والمستغرب جداً أن تحمله الترجمة العربية على الغلاف. ما أحوج المكتبة العربية الى المصالحة مع هذا الكاتب الكبير الذي كان آخر"الايقونات"الروسية.