إن دور الغولاغ شبكة المعتقلات السياسية السوفياتية في عهد ستالين حاسم في حياتي الأدبية. فأنا، منذ بلغت الثامنة عشرة في 1936، نويت الكتابة في وجوه تاريخ الثورة الروسية عام 1917 كلها، وتعليل هذه الوجوه. فلم يكن في وسعي، والحال هذه، ان أكون كاتباً سوفياتياً أميناً. ولكن اعتقالي في أحد سجون الغولاغ، في 1945، أثر على مر السنين، تأثيراً عميقاً في آرائي ومعتقداتي، وأزاح غاشية عن عيني. فأبصرت ما سمي البلشفية، أي الشيوعية السوفياتية. وحملني هذا على الغوص في أركان وجودنا. وانتهجت نهج الرواية الواقعية حين تناولت هذا التاريخ بالقص. والتقليد الواقعي كان في جبلتي، ولم أختره عمداً وبعد الموازنة بينه وبين غيره من الطرائف الروائية والقصصية. ولم تثر المناقشات الصاخبة في حياة هذا التقليد أو موته، في القرن العشرين، إلا ابتسامتي الحائرة. ولكن التقليد الواقعي لا يقتصر على طريقة سرد وقص. وهو يفترض وسائل أخرى وصوراً أخرى من القص تمكّن القارئ من بلوغ الواقع على نحو ما هو، وعليه، عمدت في"الدولاب الأحمر"أو"العجلة الحمراء" الى تعقب الحبكة على نحو سينمائي، من طريق الشواهد والوثائق التاريخية ومقتطفات من صحف ذلك الوقت، أو على نحو تأويلي معاصر، من طريق لوحات فولكلورية شعبية وأمثال. ومجلدات"الدولاب الأحمر"العشرة تتناول ثورة شباط فبراير 1917. وبعض الحوادث تعود الى 1905، ويعود بعضها الى أواخر القرن التاسع عشر وأحسب انها شقت الطريق الى 1997. واجتهدت وسعي في اقتصاص المخاض الاجتماعي الذي حبل بهذه الثورة، وفي الإلمام بالحوادث التي لا تحصى عدداً في شباط 1917 نفسه، ولولاها لما اندلعت الثورة. وأما ثورة تشرين الأول اكتوبر 1917، فهي ثمرة ثورة شباط المحتومة. ولو لم تقع الثورة الروسية، وآلامها الفظيعة ، لوقعت ثورة أخرى تشبهها في موضع آخر في العالم، من ذرية الثورة الفرنسية، في القرن الثامن عشر. فليس في مقدور البشر ألا يسددوا ثمن خسارتهم الشعور بالحد، وبتقييد الرغبات والمطامح المرسلة والمحمومة التي تعتري اصحاب السلطان والثراء، افراداً ودولاً. والثورات هي سداد أثمان هذه الخسارة. وأقر بأن بسطاء الناس، والمساكين من غير حول ولا قوة، مثل باتريونا وإيفان دينيسوفيتش وهما شخصيتان روائيتان بارزتان في روايتين موسومتين باسميهما يلهمونني انعطافاً قوياً. ولكنني أقوى ميلاً الى أولئك الذين يناضلون في سبيل العدالة. وأنا تناولت عدداً منهم في"أرخبيل الغولاغ"عنوان"تقصٍ أدبي"، وبعضاً آخر في"الدولاب الأحمر". فالاستقامة وحدها ليست جواباً شافياً عن شرور العالم. وليست شرور العالم ثمرة الجنون والحمق. فالشر نواة صلبة يتعدى فعلها نفسها الى الاتجاهات كلها. ولا سبيل الى مقاومته إلا بكفاح نشط وعنيد. والشيوعية تظاهرة من تظاهرات نواة الشر. وشيئاً فشيئاً أدركت أنها إحدى التظاهرات العالمية الأعرض والأكثر خطورة. والمشكلة الأصل، والشيوعية فرع من فروعها، في القرن العشرين هي انهيار اركان فلسفة الأنوار وغلبة قيام الإنسان الدنيوي والزمني مركزاً للتاريخ والثقافة. وأحسب ان نتائج هذا الانهيار العالمية لم تظهر للعيان كلها بعد. ولعل التأييد العريض الذي حظيت به الديكتاتورية الشيوعية منذ ثلاثينات القرن العشرين في أوساط المفكرين الغربيين، إنما هو قرينة على انهيار الإنسانوية الزمنية والدنيوية. وفي أثناء التسعينات المنصرمة، بينما كانت روسيا تشفى من عللها وأمراضها الأخلاقية والاقتصادية، انتصرت قوى غامضة، واستولى على البلد قراصنة لا ذمة لهم ولا قلب، أثروا من طريق نهب الخيرات الوطنية المباح، وزرعوا في المجتمع الفساد الأخلاقي والقسوة. فنزلوا على روسيا نزول الكارثة. وهذا يقضني ويقلقني. ولا أجرؤ على توقع ما قد يكون عليه مستقبل روسيا. وأنا أقدم البنية الأخلاقية على البنية الاجتماعية. وأما الديموقراطية التي ارتئيها فسبق ان فصّلتها في كتابي:"على أي وجه ندبر روسيا". وهي تقتضي الصعود من الإدارات المحلية المستقلة بنفسها الى البت في الإجراءات على الصعيد الوطني، ويختلف هذا النموذج عن برلمانية الأحزاب الشائعة في الغرب، فانصراف الأحزاب السياسية الى الاستيلاء على السلطة نكبة مدمرة. عن ألكسندر سولجنتسين روائي روسي، "سيسيرو" الألمانية ، 11 / 2006