تحولت المسألة الفلسطينية، خصوصاً غزة، إلى عبء أمني استراتيجي على مصر، منذ المناورة التي أقدم عليها آرييل شارون في أيلول سبتمبر 2005، بالتملص من غزة وإلقاء عبئها على كاهل مصر. وثمة وقائع تؤكد صحة هذا الاستنتاج على نحو قاطع، ليس اقلها ما كشفته تحقيقات الاجهزة الأمنية المصرية نفسها من اثبات العلاقة بين المجموعات التي نفذت العمليات الارهابية التي شهدتها طابا ثم"دهب"في شرم الشيخ، وبين جماعات وتنظيمات متطرفة في غزة، فضلاً عن محاولات أخرى جرى احباطها قبل ان تقع. وتحول محور فلاديلفيا - صلاح الدين إلى مصدر للصداع الدائم في رأس السياسة المصرية، بسبب عدم رضى كل الاطراف عن الأداء الامني المصري على هذا المحور، فإسرائيل تشكو مصر مرة تلو الاخرى للولايات المتحدة بسبب ما تعتبره تراخياً في منع تهريب الاسلحة عبر انفاق هذا المحور، والفصائل الفلسطينية والمهربون من بدو سيناء يتهمون مصر بتقييد نشاطهم هناك، فيما يصاب رجال الأمن المصري أنفسهم بالارهاق لأن التهريب على هذا المحور يتم في الاتجاهين وليس في اتجاه غزة وحدها. وتتفاقم هذه المشكلة المصرية بسبب الوضع المعقد لصراع الفصائل داخل غزة، وانفلات الوضع الأمني هناك، ووصل الأمر الى حد تجرؤ احدى الجماعات المسلحة على اختطاف واحتجاز المستشار في السفارة المصرية في غزة، وتحريض تنظيم آخر على الاعتصام امام هذه السفارة احتجاجاً على ما وصف بسوء المعاملة المصرية على منفذ رفح. ويعاني الدور المصري هناك من اتهامات الفرقاء في الفصائل بالانحياز وعدم الحيدة، لكن أخطر ما في الامر هو عدم احترام الفصائل المتناحرة في غزة اتفاقات وقف النار المتتابعة التي كان يبرمها رئيس الفريق الامني المصري المقيم في غزة نائب مدير الاستخبارات العامة - ما يربو على 17 اتفاقاً، ويعكس هذا الامر المؤسف، المدى الذي وصل إليه التآكل في قدرات الجانب المصري على فرض هيبته واحترامه، ربما بسبب الحساسية المفرطة، وسوء التقدير السياسي الذي يكبح هذا الدور. لكن ذلك كله لا يمنع الفصائل الفلسطينية، على اختلاف ألوان طيفها السياسي، من كيل المديح للدور المصري والاشادة به في أغلب التصريحات العلنية، واذا كان بعض هذه التصريحات يصدر عن قناعة، فإن قسماً آخر يصدر لاعتبارات براغماتية، ولا يخفى أن ذلك السلوك يندرج في إطار السمات المميزة للخطاب الفلسطيني الفصائلي المراوغ. هذا الحديث، الذي يبدو مطولاً بعض الشيء، عن الدور الفلسطيني لمصر، له ما يبرره، لأنه قد يفسر الاطار العام وكذا الدوافع الاساسية للمبادرة التي اجترحتها القاهرة بدعوة الفصائل الفلسطينية المتناحرة الى هذه الحوارات الملغمة والمتلعثمة معاً. ولا يمكن بالطبع الموافقة على استصدار أحكام مسبقة أو مطلقة بشأن احتمالات النجاح المحدود للحوارات التي لا تزال تحبو في مراحلها الاولى، لكن ذلك لا يمنعنا أبداً من إجراء مراجعة نقدية لهذه المبادرة لأنها لا تبدو مختلفة في شيء ربما قليلاً في الاسلوب والشكل، الذي جرى استعارة أساليبه من مدرسة هارفارد عن أغلب المحاولات السابقة التي عنيت بإدارة الازمة الفلسطينية عوضاً عن التوجه الى حلها. ولهذا ربما كان مفيداً مصارحة كل الأطراف بحقيقة الوضع الذي آلت إليه الازمة الفلسطينية في طبعتها الراهنة الجديدة. ويمكن عرض أبرز السمات المميزة لهذه الازمة على النحو المختصر الآتي: 1- ان الوضع الفلسطيني لا يعاني من عرض طارئ أو وقتي عابر، وانما من ازمة مزمنة معقدة ومتفاقمة، وهي لهذا مرشحة لمزيد من التفجر والاحتدام وإن نجحت جزئياً بعض محاولات تبريدها وتسكينها او ادارتها. 2- يستعصي الآن، وأيضاً في المستقبل المنظور، على الفلسطينيين ان يصلوا بأنفسهم وبجهودهم الذاتية الى مخارج معقولة ومقبولة لهذه الازمة العميقة والمتفاقمة. 3- الازمة الفلسطينية من الخطورة بحيث لا يجب أبداً السماح باستمرار وضع جميع ملفاتها الشائكة في القبضة الاحتكارية لأي من أجهزة الأمن العربية. 4- الازمة الفلسطينية تبدو متداخلة جداً مع ازمة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الاسرائيلي، لأن بعض الاطراف الفلسطينية تستخدم هذه"المقاومة""كورقة او كأداة في معادلة الصراع الفلسطيني الداخلي كان الدكتور ناصر الدين الشاعر وزير التعليم اعترف في حديث لجريدة بريطانية، بأن العمليات الانتحارية التي نفذتها"حماس"في عهد عرفات كانت تستهدف افشال عملية السلام، ومن جهة أخرى، كانت بعض ميليشيات كتائب الأقصى التابعة ل"فتح"نفسها هددت بأنه اذا لم تسوَّ أوضاعها الوظيفية فإنها ستنفذ عمليات في العمق الاسرائيلي... وهكذا، وفي المقابل، كانت الحكومات الاسرائيلية دأبت على استخدام معاكس لورقة هذه"المقاومة"الفلسطينية لخدمة أهداف أو مصالح تتعلق بالتوازنات أو الصراعات الاسرائيلية الداخلية، وربما لا يبدو هذا الأمر بحاجة الى مزيد من الإيضاح في المثال الراهن والذي تهرب فيه حكومة أولمرت الى الأمام من أزمتها الداخلية، خصوصاً بعد"فينوغراد"عبر المسارب التي توفرها"المقاومة"الفلسطينية، ولذا يتوجب على كل محاولة لحل الازمة الفلسطينية أن تأخذ هذا المعطى المهم في اعتبارها، من دون أن تتهيب فض ملفاته التي طال السكوت عنها تحت وطأة الإرهاب الفكري أو الإكراه السياسي الذي تمارسه الفصائل الفلسطينية على الآخرين. 5- الازمة الفلسطينية باتت أكثر تداخلاً وتأثراً بالوضعين العربي والاقليمي، ولذا لم تنجح - وقد لا تنجح أيضاً - كل المحاولات التي تجاهلت تحقيق أو تحييد مصالح أو مخاوف الأطراف الاقليمية الأخرى. ومن المؤسف حقاً ملاحظة تجاهل غالبية الاطراف لهذه المكونات الاساسية في بنية الازمة الفلسطينية، والتمويه عليها باختلاق تحليلات متحيزة او مغلوطة تعزو لها أسباب هذه الازمة المزمنة. وفي ضوء استمرار الفصائل الفلسطينية في اعتماد منهجها المراوغ، وكذا في ظل استمرار امتناع النظام العربي أو عجزه عن إمساك الثور من قرنيه ومواجهة الأسباب الحقيقية العميقة للازمة الفلسطينية المزمنة، فإنه لا يمكن ولا يجب ان نتوقع الحصول من المبادرة المصرية الجديدة إذا استمرت بعد الأحداث الأخيرة في غزة على ما هو اكثر أهمية أو نجاعة من اتفاق مكة، هدنة هشة جديدة قد يطول او يقصر فتيلها وتشتعل جولة أخرى من مسلسل المواجهات ربما على نحو أكثر بشاعة ودموية. ولكن، منذ متى كان النجاح في إطفاء النار يمنع اندلاع المزيد من الحرائق، او النجاح في إبرام هدنة يمنع أمراء الميليشيات من استدراج الجميع الى جبهة الحرب؟ لذلك نقترح على المبادرة المصرية قبل ان تستنزف نفسها في تدوير الازمة الفلسطينية مجدداً، أن تضع نفسها والفصائل الفلسطينية، ولو لمرة واحدة، أمام الحقائق السياسية التالية والتي يتهرب الجميع من مواجهتها: أولاً: ان مبنى النظام السياسي الفلسطيني تقادم ويعاني من اختلالات فادحة بما يستدعي إعادة النظر فيه وتغييره من أساسه، ليس على طريقة شعار"التفعيل"الذي ترفعه فصائل منظمة التحرير وتقصد منه إعادة تقاسم الحصص بينها، وذر الرماد في العيون برمي حجر في هذه البركة الآسنة، وليس أيضاً على طريقة حماس التي يتراوح موقفها ما بين اشباع شهيتها لاقتطاع قضمة كبيرة من هذه الحصص وبين مشروعها للاستيلاء على كل هذا المبنى من داخله. قد لا تكون هناك وصفة جاهزة الآن لصوغ هندسة سياسية جديدة لمبنى النظام الفلسطيني المتقادم والآيل الى السقوط، لكن التوقف الآن أمام هذه الحقيقة والتفكير فيها قد يكون أفضل ألف مرة من الادعاء بمواصلة الرحلة على رغم انهيار الجسر الذي ينقل طموحات الفلسطينيين من ضفة المراوحة في الانحلال والتآكل الذاتي الى ضفة التحقق والانعتاق من الاحتلالات. ثانياً: البرنامج السياسي الفلسطيني الذي تتوافق عليه كل الفصائل الفلسطينية من أبو مازن لمشعل ومن دحلان للزهار وما بينهما، قد يكون برنامجاً عادلاً من وجهة النظر الحقوقية وقد يكون أيضاً مشروعاً ومحقاً من وجهة النظر السياسية، لكنه مع ذلك برنامج غير قابل للتحقق، ليس فقط في ظل موازين القوى الراهنة ولكن، بالأساس، في ظل الاستراتيجية المعلنة التي تتبناها كل الفصائل الفلسطينية، هذا البرنامج ينص على ما يأتي: إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة في حدود الأراضي الفلسطينية التي جرى احتلالها عام 1967 وعاصمتها القدسالشرقية وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة طبقاً للقرار 194 لسنة 1949. ويبدو الأمر متناقضاً لأن الاستراتيجية الفلسطينية تقبل إقامة دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل، فيما البرنامج السياسي يدعو في الحقيقة إلى إقامة هذه الدولة الفلسطينية الى جوار دولة فلسطينية أخرى ستنشأ على الفور إذا تمكن الفلسطينيون من الجمع في برنامج واحد ما بين إقامة هذه الدولة وتحقيق العودة فقط لنصف عدد اللاجئين الفلسطينيين المقدر بنحو خمسة ملايين لاجئ الى داخل اسرائيل، والتي أعلن مكتب الإحصاء المركزي الاسرائيلي رسمياً انها باتت في مطلع عام 2007 تضم 1423500 مواطن عربي بنسبة 20 في المئة من مجموع السكان، في مقابل 5393600 يهودي نسبتهم 76 في المئة من مجموع سكان دولة اسرائيل. ولا حاجة هنا إلا الى الاشارة فقط الى دراسات أهم علماء الديموغرافيا هناك، ارنون سوفير وسرجيو دي لابراغولا وغيرهما ممن يرون ان هوية وربما وجود اسرائيل سيكونان محل سؤال اذا ما تجاوز العرب في اسرائيل هذه النسبة، وانه لن يطول الأمر بتحول اسرائيل الى دولة ثنائية القومية ومن ثم تحللها واضمحلالها او انهيارها تماماً. هذا الإيضاح لا يرمي أبداً الى التلميح للفلسطينيين بضرورة التخلي او إسقاط الحق المشروع للاجئين في العودة، لكنه يرمي بكل صراحة ووضوح الى مكاشفة الفلسطينيين بما يعرفونه حقاً ولكن لا يجرؤون أبداً على الإفصاح عنه او التصريح به، وهو انه من غير الممكن لهم الحصول في صفقة سياسية واحدة على الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية وعلى حق اللاجئين في العودة الى داخل إسرائيل، وأن حل مشكلة اللاجئين وفقاً للتصور الفلسطيني ليس وارداً بأي حال في إطار الاستراتيجية التي تعتمدها الفصائل كافة. وهذه الحقيقة التي يتهرب الفلسطينيون والعرب من مواجهتها تستوجب منا إعادة النظر اما في برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني، بإعادة ترتيب أولوياته، او إعادة النظر في الاستراتيجية الفلسطينية المعتمدة، وتغييرها من استراتيجية دولتين لشعبين الى استراتيجية الدولة ثنائية القومية او الدولة الواحدة، او البقاء في استراتيجية المراوحة في الوضع الراهن، هذا اذا جاز لأحد ان يعتبرها استراتيجية أصلاً. ثالثاً: هناك إشكالية عميقة في الاستدلال على العلاقة ما بين الحل الموقت والحل الدائم في الفكر السياسي الفلسطيني أو العربي، إذ لا يوجد في الواقع أي أثر يذكر لرؤية أو دراسة أو مقال أو نقاش أو ما شابه من أجناس تحت هذا العنوان، وفيما توافقت الفصائل على ما تسميه ببرنامج الحد الأدنى، فإنه لا يوجد في المقابل ادنى اتفاق في ما بينها على ماهية ما يسمى في القاموس السياسي بالحل النهائي، ومن العبث أصلاً التفتيش على أي إشارة ولو عابرة او مختزلة للعلاقة الناظمة بين ما يسمى بالحل المرحلي وهذا المسمى بالحل النهائي. ولا تبدو هذه المسألة المركزية ترفاً يثقل على المهام النضالية التي ترهق كاهل الفصائل الفلسطينية ومفكريها ومحازبيها من العرب، لأن التفتيش عن هذه العلاقة الغائبة والعثور على صياغة عقلانية لها سيحل الاشكالات المعقدة التي يتوحل فيها الوضع الفلسطيني، وليس أقلها مثلاً، امكانية حل الاختلافات الحادة حول ما يسمى بالتنازلات، لأنه إذا ما كان واضحاً للفلسطينيين كنه العلاقة بين المرحلي والنهائي، فإنه لا يعود هناك معنى للاختلاف او الاقتتال على تلك"التنازلات"التي قد يضطر الفلسطيني لتقديمها في إطار صفقة او تسوية الحل الانتقالي، مقارنة بما يمكن الحصول عليه في الحل النهائي. رابعاً: المسألة الفلسطينية كانت منذ نشأتها الاولى في عام 1915تحديداً، مسألة دولية، لا يمكن حلها إلا في هذا الاطار، على الاقل كما جرى حل المسألة اليهودية، مع الاحتفاظ بكامل اعتبارات التمييز والخصوصية بين المسألتين. كانت حركة فتح - عرفات وعت جزئياً هذه الحقيقة السياسية، لكنها لم تقطع ما تبقى لها من مسافة للربط ما بين وعيها هذا الجزئي وبين استخلاص العبر والرهان بكل رصيدها على هذا الخيار، ربما على النسق الذي كان اعتمده بن غوريون في مؤتمر بلتيمور، ومرة اخرى، مع الاحتفاظ بكل اعتبارات التميز والخصوصية بين المسألتين. لكن عرفات عاد فجفل أمام هذه الحقيقة في منعرجين مفصليين: انهيار الاتحاد السوفياتي وانهيار البرجين في 11 أيلول سبتمبر. وفي المقابل فإن حماس تبدي قدراً من التلعثم وهي تتعلم على جلدها أهمية استيعاب هذا العامل الدولي، لكنها قد لا تستطيع أن تذهب لما هو أبعد من ذلك لأنه لا يبدو أنها قادرة على أن تتجاوز نفسها ووعيها التقليدي المحافظ. خامساً: لم تعد ممكنة المراهنة على حل المسألة الفلسطينية في إطار النظام العربي وحده، لأن وجود هذا النظام بات محل شك أصلاً، وان استمراره يعزى ربما الى قانون القصور الذاتي، وقد لا تكون هناك امكانية لحل هذه الاشكالية سوى بإيجاد صيغة واقعية لتوظيف الامكانات العربية او على الاقل دول محورية منها في إطار الحل الدولي للمسألة الفلسطينية. ولا تراودنا بالطبع أية أوهام عن استعداد الفصائل الفلسطينية او أي من الدول العربية، لوضع هذه التحديات الاساسية على مائدة البحث والنقاش، ربما بسبب الادمان على حصر البحث عن مخارج لهذه الازمة في المعطيات النمطية والمعتادة: حرمة الدم الفلسطيني، التشديد على الوحدة الوطنية، الدعوة الى تفعيل منظمة التحرير... الخ. * كاتب مصري. مدير "منتدى الشرق الأوسط"