"الجوابات" وتعني النوتات الغنائية العالية التي بات يتقنها المغني وائل كفوري من دون أي خلل، وباحترافية غير مسبوقة لدى أبناء جيله اللاهثين في أغلبهم خلف النوتات الوسطية التي لا تحتاج جهداً كبيراً، تكاد تصبح ماركة مسجلة باسمه، بل تكاد تحفر له في ذاكرة هذا الجيل من الجمهور موقعاً استثنائياً مختلفاً تماماً عن الآخرين. لا بد من المقارنة بين طاقة أدائية خصبة وقوية عند كفوري، وما يسمعه الجمهور من أترابه ورفاقه وزملائه. هي طبيعة الأشياء التي نريد معرفتها، نضعها أمام أشياء أخرى، فيظهر الفارق. "بالغرام رح غني أنا"أغنية من مزاج تركي. المزاج التركي واضح في الأغاني المدوزنة على علوّ شاهق التي يختارها وائل منذ"تبكي الطيور". وليس مصادفة ان الأغنيتين، في لحظة أدائية متوهجة، تتطلّبان نفساً مرتفعاً وطريقة ذات تقنية عالية في إخراج الصوت من الحنجرة، وطواعية رشيقة: القوة إلى جانب الليونة والحنان. الشدّة إلى جانب العصب الطيب. وفي الأغنيتين لا يُخفى استعراض الصوت، لكن لا يُخفى أيضاً المدى المشرق من الموهبة الكبيرة التي يتحرك كفوري بها لبناء موقع غنائي متميّز: مزيج من الرومانسية والإيقاعية، بل مزيج من ألوان غنائية عدة مرقّقة ومخففة وتمر كالنسيم... وائل كفوري ليس طليعة المغنين الذين يهتمون بالرومانسية، لكنه قطعاً واحد من أبرزهم. استطاع تكوين تركيبة غنائية راحت تُعرف به، وهنا الدور الأهم. المغني رامي عياش مثلاً يهتم بأداء الأغاني الرومانسية، وهو أيضاً يسعى جاهداً في سبيل إيجاد"تركيبة"خاصة به، لكنه لم يصل تماماً. وصل إلى ذائقة الجمهور في عدد من الأغاني الكلاسيكية الطابع، الهادئة، التعبيرية، إلا ان المشكلة كانت باستمرار نزوعه إلى تقليد أحد أو على الأقل التشبه بأحد. ولعل الفنان ملحم بركات هو أبرز من يمكن"رؤيتهم"في أداء عياش. معجب رامي بملحم إلى حدود قصوى، ومهما قيل بل قال ان أداءه يختلف عن أداء ملحم بركات، فإن تدقيقاً بسيطاً في أدائه أغنية"حبيتك أنا"يميط اللثام عن تماثل يكاد يُلغي فيه رامي شخصيته وما بناه واجتهد فيه في مجال الأغنية التعبيرية لمصلحة بركات. وربما طبيعة لحن الأغنية حتّمت طبيعة أداء"بركاتي"، فالملحن جان ماري رياشي ليس بعيداً، هنا، عن التأثر ببركات، بأسلوبه في التلحين، بحرفيته في الأداء، وهذا واضح تماماً في مقاطع الأغنية، في مندرجاتها ونغماتها وانتقالها من فكرة عاطفية شعرية إلى أخرى، وأيضاً في"القفزات"الصوتية التي يصورها عياش فتأتي نُسخاً عن قفزات صوتية سابقة في أغان لبركات. حتى الطبقة الصوتية الغالبة على الأغنية تشي بوجود بركات فيها من حيث يدري أو لا يدري، والأرجح انه يدري ولو قال في الإعلام إنه لا يرى بركات حاضراً في ألبومه الأخير. أمّا لماذا ذَكَرَ ملحم بركات دون غيره لينفي عياش فكرة التأثر بل التقليد، فذلك ما يحتاج تفسيراً أكثر مما يحتاج نفياً! وإذا كان الأمر عبارة عن سباق بين المغنين في اتجاه إعادة الرومانسية إلى الأغنية اللبنانية التي تفرقت أيدي سبأ أنواعاً وألواناً وأنماطاً هجينة، فإن لوائل كفوري قصب السبق في هذا المجال أكثر من الآخرين. غير ان حضور المغني فضل شاكر في هذا النوع الغنائي الرومانسي بالتحديد يبرز جلياً مضيفاً إلى تجربة الرومانسية الغنائية نكهة خاصة جداً. لا يقلد فضل شاكر أحداً من مجايليه ولا حتى أحداً ممن سبقوه في الغناء. يبتكر مساحة دافئة ويمضي قُدُماً في توسيع مجالها. يصيب أحياناً ويخيب أحياناً. يصيب في الأغنية التي تحمل نبرة جديدة، ويخيب في الأغنية التي يكرر فيها نفسه. وفي كل الحالات لا يمكن وضعه في مواجهة وائل كفوري ولا رامي عياش، بل في مواجهة نفسه فقط . لم يكن عيباً على وائل كفوري ان يستحضر أغنية تركية ويردفها بأخرى. العيب إذا استمر يستحضرها لدى الآخرين وصولاً إلى التكرار. وليس عيباً على رامي عياش التأثر بأداء ملحم بركات، العيب إذا لم يخلّص نفسه. وليس عيباً على فضل شاكر حصر أغلب صوته حالياً في لون غنائي محدد. العيب إذا حصر مستقبله في هذا اللون.