ماذا تستطيع اللغة في زمن الحرب؟ منذ عشرات السنين وهذا السؤال يقض مضاجع الشعراء والكتاب والنقاد ولا يقود الجميع إلا الى سؤال يليه. على ان مشروعية السؤال تكمن في كون الحقائق التي تجسدها الحروب أو تتمخض عنها تفوق في بعدها الكارثي كل ما يمكن اللغة ان تتمثله أو تكشف عنه. فما الذي يمكن اللغة أن تقدمه لرجل ثاكل فقد زوجته وأولاده جميعاً وجلس وحيداً فوق أنقاض بيته الذي تهدم. وما الذي يمكن القصيدة أن تضيفه الى مشهد الطفلة القتيلة التي راح رجل مصاب بالهلع يرفعها كالخرقة البالية أمام عدسات المصورين. وكيف يمكننا أن نرتق بالكلمات الأوصال المقطعة لأجساد الهالكين تحت ركام الملجأ الذي أووا اليه في ليل قانا المضرج بالدم وبقايا الأحلام؟ إن اللغة في الحرب تُمتحن في أعز ما تملكه، وأعني به القدرة على التشبيه وتحويل الكناية والاستعارة والمجاز الى أدوات مناسبة لصوغ عالم يرتفع عن الواقع ويذهب به التخييل الى أقصى حدوده. لكن حرب لبنان الأخيرة لا تدفع الشعراء وحدهم الى الذهول بل تجعل الأمر نفسه ينسحب على الرسامين والروائيين والمشتغلين بالسينما وسائر الفنون البصرية. ثمة تحت كل زاوية وجدار وفي ثنايا كل بيت ما يضيِّق الفروق بين الواقع والخيال بحيث يشعر المتعاطون بالكلمة والفن بعجزهم عن الإفصاح وبعودة اللسان الى مرحلة التأتأة أو الخرس الكامل. إذ لم يعد من قبيل المجاز الحديث عن الدم الذي يسيل كالأنهار والمرتفعات المعبدة بالجماجم والأماكن المضروبة بالزلزال. وليس للسينمائيين في هوليوود أن يجاروا، مهما برعوا في استخدام التقنيات تلك المشاهد التي رآها الناس بأم العين فوق شاشات الفضائيات. ولا للرسامين ان يرفعوا على جدران المتاحف جداريات فريدة تضاهي فرادة الصور المقبلة من أحياء الضاحية والكثير من مدن لبنان وقراه. وليس للواقعية السحرية التي عرفتها الرواية المعاصرة ان تنافس التحقيقات المؤثرة التي أنجزها صحافيون عرب ولبنانيون وأجانب حول المجازر التي ارتكبها العدو بحق المدنيين كما بحق المدن والقرى في ما يشبه هيروشيما القرن الحادي والعشرين. ليس على الكتّاب والفنانين أن يصمتوا بالطبع. وليست هذه المقالة دعوة صريحة الى البطالة الأدبية في هذا الزمن العصيب. ذلك انه في ذروة الحروب التي ضربت العالم قبل عقود كان ثمة من يجترح لغة تقاوم الموت وتحثُّ على الصمود وتؤرخ يوميات العذاب البشري. يكفي في هذا السياق أن نتذكر تولستوي وغوركي وماياكوفسكي وأراغون وايلوار ونيرودا ولوركا وناظم حكمت. ولكن إذا كان لنا أن نسلم بجدوى الكتابة والفن في زمن الحرب، فما لا ينبغي أن نسلم به هو تحويل الحروب الى مشجب لتعليق النصوص الرديئة والقصائد الغثة والى متكأ إجباري لمنع النص من السقوط. فالكتابة التي لا تستطيع اختراق الواقع من طريق تحويله الى سؤال وجودي من جهة والارتقاء باللغة الى ذراها الأخيرة من جهة أخرى هي كتابة العجزة والمتسلقين، والباحثين عن بطولة مزعومة على حساب الدم المهدور والآلام العصية على الوصف. ان استعراضاً سريعاً لمعظم النصوص المتناسلة كالفطر على صفحات الجرائد اليومية منذ أسابيع تكاد تدفع القارئ الى الإحباط وتشعره بالمرارة، ان لم نقل بالغثيان. أقول معظم النصوص ولا أقول كلها كي لا أظلم بعض الاشراقات والقصائد والتجليات الإبداعية التي تنتصر لكرامة الإنسان وعذاباته بقدر ما تنتصر لكرامة الكتابة ودورها الرائد. لكن السواد الأعظم من النصوص المنشورة هو أقرب الى الانشاء البارد والوصف الرديء والانفعالات"المفتعلة"من أي شيء آخر. ثمة نصوص للتضامن مع المقاومة وبطولاتها بطريق ساذجة، ونصوص للتفجع الأجوف ونصوص لمداراة الحرج، ونصوص للتعزية ونصوص لإثبات الذات. ولو كان الأمر يتعلق بالنثر وحده لأمكن تفهمه ووضعه في إطار النيات الحسنة المرسلة عبر"البريد السريع". ولكن ما لا يمكن فهمه هو اندفاع بعض الشعراء، وليس كلهم بالطبع، الى ضخ قصائد ومقطوعات حماسية شبيهة بتقارير المراسلين الحربيين أو بمقدمات نشرات الأخبار في الإعلام المرئي الايديولوجي أو بخطب التهديد والوعيد التي يطلقها بعض الزعماء والمعلقين الغاضبين في خضم المعارك. قد يقول قائل بأن عدداً من شعراء العالم الكبار قد نزلوا من أبراجهم اللغوية وانخرطوا زمن الحرب في كتابة الشعارات والأناشيد والملصقات الداعية الى الصمود في وجه الأعداء، ولكن نسبة هذه الكتابات بالقياس الى مجمل دواوينهم هي نسبة ضئيلة وتكاد لا تذكر. كما ان الكثير منهم لم ينسب هذه النصوص الى الشعر ولم يعمد الى نشرها في كتب، وهي الآن شبه مجهولة ولا يكاد يذكرها أحد. ان احترام دماء الشهداء وتضحيات الشعوب لا يتم عبر إهدار هذا الدم وتلك التضحيات في كتابة سطحية ومبتذلة ومعدومة الايحاء بل عبر الارتفاع به عالياً في فضاء اللغة المبتكرة والرؤى الحاسة والألق الإنساني. وهو ما ننتظره بالطبع.