الذهب يستقر بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    سماء غائمة بالجوف والحدود الشمالية وأمطار غزيرة على معظم المناطق    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيس الإمارات في الشيخ طحنون آل نهيان    برئاسة وزير الدفاع.. "الجيومكانية" تستعرض خططها    الذهب يستعيد بريقه عالمياً    تيليس: ينتظرنا نهائي صعب أمام الهلال    محافظ سراة عبيدة يكرم المشاركين والمشاركات ب أجاويد2    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    سعود عبدالحميد «تخصص جديد» في شباك العميد    الهلال يواجه النصر.. والاتحاد يلاقي أحد    رغم المتغيرات العالمية.. الاقتصاد الوطني يشهد نمواً وتنوعاً متسارعاً    اَلسِّيَاسَاتُ اَلتَّعْلِيمِيَّةُ.. إِعَادَةُ اَلنَّظَرِ وَأَهَمِّيَّةُ اَلتَّطْوِيرِ    يجيب عن التساؤلات والملاحظات.. وزير التعليم تحت قبة «الشورى»    متحدث التعليم ل«عكاظ»: علّقنا الدراسة.. «الحساب» ينفي !    أشعة الشمس في بريطانيا خضراء.. ما القصة ؟    هذا هو شكل القرش قبل 93 مليون سنة !    رئيس الوزراء الباكستاني يثمِّن علاقات بلاده مع المملكة    جميل ولكن..    السعودية تتموضع على قمة مسابقات الأولمبياد العلمية ب 19 ميدالية منذ 2020    أمي السبعينية في ذكرى ميلادها    هكذا تكون التربية    ما أصبر هؤلاء    «العيسى»: بيان «كبار العلماء» يعالج سلوكيات فردية مؤسفة    زيادة لياقة القلب.. تقلل خطر الوفاة    «المظهر.. التزامات العمل.. مستقبل الأسرة والوزن» أكثر مجالات القلق    «عندي أَرَق» يا دكتور !    استشهاد ستة فلسطينيين في غارات إسرائيلية على وسط قطاع غزة    33 مليار ريال مصروفات المنافع التأمينية    لؤي ناظر يعلن عودته لرئاسة الاتحاد    «سلمان للإغاثة» ينتزع 797 لغماً عبر مشروع «مسام» في اليمن خلال أسبوع    وزير الصحة يلتقي المرشحة لمنصب المديرة العامة للمنظمة العالمية للصحة الحيوانيّة    النصر يتغلب على الخليج بثلاثية ويطير لمقابلة الهلال في نهائي كأس الملك    مدرب تشيلسي يتوقع مواجهة عاطفية أمام فريقه السابق توتنهام    طالبة سعودية تتوّج ضمن أفضل 3 مميزين في مسابقة آبل العالمية    بمناسبة حصولها على جائزة "بروجكت".. محافظ جدة يشيد ببرامج جامعة الملك عبدالعزيز    تعزيز الصداقة البرلمانية السعودية – التركية    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    في الجولة ال 30 من دوري روشن.. الهلال والنصر يواجهان التعاون والوحدة    دورتموند يهزم سان جيرمان بهدف في ذهاب قبل نهائي «أبطال أوروبا»    العثور على قطة في طرد ل«أمازون»    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    تنمية مستدامة    تحت رعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. حرس الحدود يدشن بوابة" زاول"    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    الفريق اليحيى يتفقد جوازات مطار نيوم    أمير الشرقية يثمن جهود «سند»    أغلفة الكتب الخضراء الأثرية.. قاتلة    مختصون: التوازن بين الضغوط والرفاهية يجنب«الاحتراق الوظيفي»    مفوض الإفتاء بالمدينة يحذر من «التعصب»    أمن الدولة: الأوطان تُسلب بخطابات الخديعة والمكر    مناقشة بدائل العقوبات السالبة للحرية    فرسان تبتهج بالحريد    التوسع في مدن التعلم ومحو الأميات    نائب أمير مكة يقف على غرفة المتابعة الأمنية لمحافظات المنطقة والمشاعر    سمو محافظ الخرج يكرم المعلمة الدليمي بمناسبة فوزها بجائزة الأمير فيصل بن بندر للتميز والإبداع في دورتها الثانية 1445ه    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة "37 بحرية"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد عبده وأثره الفكري والتربوي على ما روى طه حسين في كتاب "الأيام"
نشر في الحياة يوم 28 - 05 - 2005

لقد شغلت أفكار محمد عبده ومواقفه الكتاب والباحثين، حتى كتبت فيه رسائل وأطاريح جامعية، وصار درسه أشبه بقطاف ثمر شجرة بعد قطّافين محترفين. ولكنني لا أظن أن أحداً قد بحث في حضور الشيخ محمد عبده وافكاره في ما روي من مذكرات شخصية، باستثناء مذكرات محمد رشيد رضا. ولهذا اخترت أن أرى الى هذا المفكر الشهير من خلال كتاب الأيام لطه حسين، ليكون ذلك مصداقاً أو نفياً لما زعمه فيه الزاعمون، أو يكون بين ذلك، ولاكتشاف حقائق جديدة قد لا تبوح بها الا المذكرات الشخصية.
توفي محمد عبده 1905، أي حين كان لطه حسين ست عشرة سنة فحسب. ولم يشر طه حسين الى أنه التقاه أو شهد دروسه، بل أومأ الى أنه قد سمع أخباره.
ترِد أولى إشارات طه حسين الى محمد عبده عند حديثه عن نفسه وهو في القاهرة التي ذهب اليها وهو في الثالثة عشرة، قبل وفاة عبده بثلاث سنين، أي سنة 1902، وكان عبده قبل ذلك في لبنان حيث نهض بتجربة إصلاحية تربوية مهمة، هي تعليمه في المدرسة السلطانية وإصلاحه مناهجها وارتقاؤه بها من مدرسة ابتدائية الى مدرسة شبه عالية، ووضعه فوق ذلك لمشروعين تربويين رفعهما الى المسؤولين الأتراك. فلا غرو أن يحمل، من بعد، مشروعاً مشابهاً الى مصر ويعمل على إصلاح الأزهر خاصة، ولا سيما أنه أصبح مفتياً للديار المصرية.
ويتحدث طه حسين عن أخيه وزملائه الطلاب في الأزهر فنعلم أنهم كانوا يجتمعون، ويتندرون بزملائهم وشيوخهم، ويروون أخبار الشيخ محمد عبده الذي يسمونه الإمام، فنجد في كلامهم دلالة على مقدار اهتمام طلبة الأزهر بدروس الشيخ، فهي موضوع جدل ومناظرة بينهم، ودلالة على المادتين اللتين كان يعلمهما، وهما: كتاب"دلائل الإعجاز"لعبدالقاهر الجرجاني و"تفسير القرآن الكريم"، وعلى أسلوبه في الدرس، فهو محلى بالنوادر، وبشيء ذاتي هو الحديث عن خصامه مع الشيوخ الآخرين، ودلالة على اتباع الشيخ المنهج الجدلي الساخر في النقاش، إذ يأتي رده على الأسئلة مفحماً ومذلاً للسائل أو المعترض، مضحكاً منه. وهذا يوحي ميلاً عند الشيخ الى النظرية البلاغية المتطورة التي أنشأها الجرجاني، لا الى البلاغة التقليدية التي تعتمد على التعريفات الجامدة والتفريعات السقيمة، كما يوحي اجتماع شيء من الأسلوب التمثيلي الحيوي ومن النمط العدواني عند الرجل، ولا عجب، فقد عرف عنه حدة المزاج و"انه اذا احتد جرح". والعدوانية كانت شائعة في أساليب التعليم في الأزهر، على كل حال، وربما بقدر ما يفوق ما عند محمد عبده، فها هو طه حسين يصف شيوخه بأنهم يفحمون الطلاب ويلجمونهم ويخجلونهم ويحقرونهم ويضحكون منهم زملاءهم ويحرضون بعضهم ليبطش ببعض، الخ. ولهذا كان أساتذة الأزهر بغضاء على طه حسين وعلى كثير من طلابهم.
ويتحدث طه حسين، فوق ذلك، عن شدة ضيق أخيه وزملائه بكتب الأزهر ومناهجه، متأثرين برأي الشيخ محمد عبده، الذي كانوا يشهدون دروسه في الأزهر ويزورونه في داره، فيرشدهم الى كتب قيّمة بغيضة الى شيوخ الأزهر، غريبة عنهم. ولم يكن محمد عبده الوحيد في ذلك، بل كان أساتذة أعلام آخرون ينافسونه ويدلون طلابهم على كتب قيمة أخرى، لم يألف الأزهريون قراءتها. ولم تكن هذه التوجيهات بغير غد، فقد كان الطلاب يسارعون الى شراء تلك الكتب، إذا استطاعوا ذلك، ولو حرموا أنفسهم متعاً أخرى بسببه، وربما استعاروها من مكتبة الأزهر، ثم تدارسوها معاً. وباعثهم على ذلك حبهم الصادق للشيخ محمد عبده"ورغبتهم الصادقة في العلم والاطلاع"، وربما شيء من غرور الشباب، إذ كانوا يباهون بتلمذتهم لعدد من كبار الأساتذة على رأسهم محمد عبده نفسه، وبكونهم مقرّبين من هؤلاء، يزورونهم في بيوتهم"وربما شاركوهم في بعض البحث، وربما استمعوا منهم دروساً خصوصية"حتى توصلوا الى التفوق على زملائهم، وعُرفوا"بأنهم أنجب طلاب الأزهر وأخلقهم بالمستقبل السعيد"، والمستقبل السعيد هو النجاح المميز الذي يؤهل للتدريس في الأزهر، ولذلك كان يتقرّب منهم أوساط الطلاب من زملائهم.
هذا الوصف يدل على أن محمد عبده لم يكن يغرّد خارج سربه، بل كان جزءاً من حركة تطويرية تنافسية، ذات صدى قوي بين طلاب الأزهر أنفسهم، وذات نتائج مثمرة هي تفوّق من آمنوا بها من الطلاب، وذات قدرة اجتماعية تغييرية إذ نشأت عنها علاقات تربوية اجتماعية ودية مختلفة، عوّضت من العدوانية التي لمسناها في علماء الأزهر، وإذا صحت رواية طه حسين، فإن الأزهر قد عرف في مطلع القرن العشرين، نحو السنة 1902، أعمالاً بحثية، وهو أمر لن نسمع به إلا بعد نشوء الجامعة الأهلية سنة 1908، وبفضل المستشرقين خاصة، وعلى الأخص كارلو ألفونسو نلّينو الايطالي 1872 - 1938، وطه حسين لا يوضح طبيعة البحث ومستواه، لكن إشارته توحي تطوراً فكرياً في الأزهر سبق دخول المستشرقين، ونتج عن حركة علمية مصرية ذاتية، لا عن تلمذة لأولئك، وإن كان بعض علماء مصر، ولا سيما الشيخ محمد عبده، على صلة بعلماء الغرب، وعلى اطلاع على كتاباتهم وآرائهم. بل يوحي الأمر وكأن هذه الحركة قد انتصرت على العقلية الأزهرية التقليدية بدليل انها أصبحت محل حماسة وفخر، ومجال تضحية عند الطلاب المنتمين اليها، ومحل غبط من أوساط الطلاب، فيما بدت الحركة التقليدية محل ضيق ونفور من أولئك الطلاب أنفسهم. فتلك الحركة التطويرية أشبه بإيديولوجيا جديدة، لها جنودها المحاربون في سبيلها، الموعودون بالمستقبل، فيما حصون الحركة الأخرى ترمى بالنبال، وتبدو معزولة عن الحياة العقلية النامية، غريبة عن الفكر الحديث، كريهة الى العقول الشابة.
ثم يشير طه حسين الى ارتقاء حياة هؤلاء الشبان قليلاً بعد سنوات، لذكائهم"وجِدّتهم وتفوقهم، ورضا الشيخ محمد عبده عنهم، وتقريبه إياهم"، وقد سمح لهم ذلك بالاتصال بأبناء الأسر الغنية من طلاب الأزهر، ووجدوا ذلك طبيعياً مألوفاً لا يستحق الفخر. هذه الإشارة توحي كم كانت مكانة الشيخ عالية في المجتمع، وكم كان رضاه والقرب منه يرفع من قدر من نعم بذلك منه، وكيف أن العلوّ في العلم يملأ النفس باكتفاء يجعلها تشعر بالتكافؤ بين غنى المال وغنى الفكر، أو تشعر بزوال الفروق بين الطبقات الاجتماعية. وهذا شيء قد يبدو عادياً جداً في مطلع القرن الواحد والعشرين، لكنه غير ذلك في مطلع القرن العشرين، وفي مصر بالذات حيث كان التمييز الطبقي على أشدّه. وبالتالي فإن التطور الفكري الذي كان محمد عبده من أكبر قادته آنذاك، أدى الى تطور في سلم القيم الاجتماعية، والى تضييق للفروق الطبقية. وهو ميل كان قائماً في نفوس عدد من المصريين، وسيعبر عنه، بعد سنوات، في 9 آذار مارس 1907، أحمد لطفي السيد، في افتتاحية العدد الأول من صحيفة"الجريدة".
لكن رضا محمد عبده عن تلاميذه لم يكن بالأمر اليسير، على ما يشعرنا به طه حسين، فقد كان الأستاذ شيخاً لرواق الحنفية في الأزهر، وكان الانتساب الى هذا الرواق صعباً، ويفرض امتحان دخول. وذلك يعني ان محمد عبده كان متشدداً في قبول التلاميذ، وكان يريد النخبة منهم وليس عامتهم، فلا غرو ان يفخر المتفوقون من هؤلاء بالانتماء اليه، وأن تفتح لهم أبواب الأسر الغنية.
ويتحدث طه حسين بعد ذلك عن خروج الشيخ محمد عبده من الأزهر سنة 1905، واصفاً ذلك ب"المحنة السياسية المعروفة"، مومئاً الى اضطراب الازهر حينذاك، والى دخول السياسة في ذلك الاضطراب، والى اختصام السلطتين، ويوحي بقيام اضرابات، مشيراً الى"تلك الخطبة المشهورة التي ألقاها الخديوي على بعض العلماء"وذلك فور قبول طه حسين في الازهر، اذ ما كاد طه حسين يدخل الى الازهر في ما سماه"مرحلة المنتظر"حتى أُخرج محمد عبده منه، فلم يكتب للرجلين ان يلتقيا. والحق ان طه حسين يشير بذلك الى تلك الحركة التي دعت"الى الشغب في الازهر"، وشكت من شيخه ومن مجلس ادارته، وذلك بتحريض من الخديوي، وانتقاماً من محمد عبده وحسن عاصم لخلاف بينهما وبينه، وقد خطب الخديوي بعد ذلك في عدد من العلماء ملمحاً لمحمد عبده بضرورة الاستقالة، فاستقال الشيخ من الازهر وقد أيقن بعجزه عن اصلاحه.
وهنا يقف طه حسين موقفاً عاطفياً من الحدث، اذ كان يرجو ان يثور تلاميذ الشيخ الكثيرون على الخديوي، وذلك ليعبروا عن تغير الازهر، لكنهم اكتفوا بالحزن، وبزيارة بعضهم للشيخ في داره، وبانصراف اكثرهم عنه، فاغتاظ طه حسين وحزن وساء رأيه في الشيوخ. ثم يشير الى وفاة الشيخ بعد ذلك بقليل، والى اضطراب مصر لوفاته، والى كون البيئة الازهرية"أقل البيئات اضطراباً لهذا الحادث الجلل". وبنوع من التهكم الحزين يؤكد ان تلاميذ الشيخ اسفوا"ولعل قليلاً منهم سفحوا بعض الدموع"، لكنهم اقبلوا في مطلع العام الدراسي على دروسهم"كأن الشيخ لم يمت"أو لم يكن، إلا خاصته الذين كانوا يذكرونه بالخير بين الحين والحين. وتنشأ في نفسه نظرية قاتمة عن علاقة الناس بالعظماء ووفائهم لهم. فهو يلمح إذن الى تنكر الازهريين، وينعاه، ويوحي خنوعهم ورياءهم، ولا يتردد في الايحاء بأن ذلك كله من انحراف الازهر، وأن الذين بكوا الشيخ صادقين هم اصحاب الطرابيش لا العمائم، فمال اليهم، مؤكداً ان الحياة الازهرية قد فرضت عليه فرضاً. فهو يعلن إذن ميله الى المدنيين الذين يبدو انهم كانوا انصار التطوير الحقيقيين.
لكن طه حسين لم يعدم أثر الشيخ، وإن بصورة كاريكاتورية بعض الشيء، فقد كان أخوه قد عهد به الى شيخ جديد، خليط من العالم المتفوق والانسان الأبيقوري المضطرب، الغريب الصوت متكسره، المثير لضحك الشيوخ والزملاء في لبسه ومشيه واصطناعه الوقار وهرولته، حتى انه قد عثر مرة بطه حسين نفسه وكاد يسقط. لكنه يمدح براعته في العلوم الازهرية وسخطه"على طريقة تعليمها"متأثراً تأثراً غير عميق في ذلك بالشيخ محمد عبده، فهو بين المجدد والمحافظ، ومع ذلك كان الشيوخ يرتابون منه. وأول ما فعله ان امتنع من القراءة في كتاب فقهي او نحوي بعينه، كسائر الشيوخ، بل أعلن انه سيأخذ من غير كتاب، وان على التلاميذ ان يستمعوا اليه، وان يكتبوا عنه عند الضرورة، ولذلك جاء درسه قيّماً سهلاً ممتعاً. وقد تأكد ذلك من فحص أخي طه حسين وزملائه، لطه، بعد ذلك، ورضاهم عما استوعبه وعن المنهج وطريقة التعليم اللذين اعتمدهما الشيخ الجديد. والظاهر ان بدء ذلك كان قبل خروج الشيخ محمد عبده من الازهر، لأن طه حسين يشير بعد صفحات، وغير مرة، الى ذهاب أخيه وزملائه الى درس الشيخ محمد عبده وعودتهم منه بعد صلاة العشاء.
وقد حرص طه حسين على المواظبة على دروس الفقه والنحو التي يلقيها ذلك الشيخ المتوسط بين المحافظة والتجديد، وبدا معجباً بطريقته، ولكنه طمع في الوقت نفسه في حضور دروس شيخ جديد آخر لكن محافظ، مع ان شيخه الاول وأخاه وصحب اخيه قد سخروا من ذلك الشيخ وسخطوا عليه، وقد وجد طه حسين في درس هذا المحافظ مجالاً للهو بالمادة وبالشرح وبصوت الشيخ المضحك، الشبيه بالغناء، الملقى بلهجة صعيدية خالصة، ويلحظ انه لم يكن بين الشيخ وبين تلاميذه أي سؤال او جواب، حتى انه انهى شرحك كتابين، على حين لم يتجاوز غيره الكتاب الواحد، ولم يتجاوز الشيخ الجديد الآخر المتوسط بين المحافظة والتطوير بطلابه القليلين إلا الابواب الاولى من النحو. وهذا نقد تربوي من وجهين: من حيث طريقة التعليم الفاسدة التي تقطع الصلة بين الاستاذ وتلميذه، وتجعل الدرس أقرب الى القراءة والتلقين منه الى التعليم التفاعلي، ومن حيث ميل الازهريين آنذاك عن التطوير. ولهذا لا نستغرب ان يثوروا على محمد عبده، ثم ان يكونوا سبباً في طرده من الازهر.
فطه حسين ليس ميالاً الى التطوير فحسب، بل كان ثائراً ايضاً، ولهذا تسامع الناس في بلدته ب"إنكاره لكثير مما يعرفون، واستهزائه بكرامات الاولياء، وتحريمه التوسل بهم وبالأنبياء. وقال بعضهم لبعض: إن هذا الصبي ضال مضلل، قد ذهب الى القاهرة فسمع كلام الشيخ محمد عبده الضار، وآراءه الفاسدة المفسدة، ثم عاد بها الى المدينة ليضلل بها الناس".
ذلك يدلك على مقدار تأثر طه حسين بفكر الشيخ محمد عبده الذي قال لبعض اصدقائه:"انني وهبت حياتي لاصلاح العقيدة الاسلامية وتنقيتها مما علق بها من الخرافات والاوهام"، وبفكر تلميذه وصديقه محمد رشيد رضا الذي يقول، في تاريخ له:"وشرّ من ذلك كله تمكّن الخرافات والاوهام في اكثر القوم حتى إن الشيخ حسونة الذي كان يعده الاستاذ الإمام أمثلهم، كان يقبّل يد احد ادعياء الولاية من الدجالين الذين كانوا يخدعون العوام، بما يلبسون عليهم ويوهمونهم من المكاشفات والكرامات، فيأمنونهم على نسائهم، حتى انهن كن يدخلن معهم الحمام، ناهيك بما يفعلونه في احتفالات الموالد المبتدعة ومشاركتهم لسدنة القبور في ما يُندر لها من المال...". الخ
كما يدلك ذلك على مقدار تعبئة الرأي العام المصري على الشيخ محمد عبده، بحيث اصبح الشعب مستعداً لمحاربته وطرده من الأزهر، ولا سيما ان الوطنيين المصريين قد ثاروا عليه لصلته الوطيدة بالإنكليز، ولعل هذا ما يفسر سكوت اللورد كرومر، صديق الشيخ، عن اخراجه من الازهر، مع انه كان حامياً له، ومنع من قبل اقالته من الإفتاء، فالظاهر ان الضغط الشعبي المصري تجاوز طاقة الانكليز في الدفاع عن الشيخ، ولا نستبعد ان يكونوا قد تواطأوا مع الخديوي عليه، لأن من طبع المستعمر ان يفيد من اصدقائه، اذا صح التعبير، حتى اذا أيقن انهم صاروا عبئاً عليه، ولم يعودوا مؤثرين في الشعب والمجتمع، تخلى عنهم، وربما قدمهم هدية الى من صار اكثر تأثيراً في الجمهور، ويلوح لي ان الخديوي نجح في كسب الناس في هذا الشأن. ولهذا لا بد من التساؤل عن قصر الفترة بين خروج الشيخ من الازهر ووفاته، وعن سبب تلك الوفاة العاجلة بعد أشهر قليلة، أكان السرطان حقاً، كما يزعمون، أم شيئاً آخر... انه مجرد سؤال.
وثمة مسألة اقل اهمية وهي زعم احمد امين ان خطبة الخديوي في العلماء كانت موجهة الى محمد عبده ومحمد رشيد رضا معاً، موحية لهما بالاستقالة من الازهر، لكننا لم نظفر في كتاب الايام، حتى وفاة الشيخ، بأي اشارة الى محمد رشيد رضا، ولم نجد في كل ما قرأناه عن الرجل ما يدل على انه علّم تلك الفترة في الازهر، وكل ما نعرفه انه ذهب الى مصر سنة 1897 ليلازم الشيخ محمد عبده ويتتلمذ له، لا ليعلّم في الازهر.
ثم نعلم من طه حسين ان الشيخ رضا قد أنشأ عند افتتاح الجامعة الاهلية سنة 1908، او قريباً من ذلك التاريخ، مدرسة الدعوة والإرشاد، وأن الخديوي عطف على هذه المدرسة وأعانها ودعا شيوخ الازهر الى تأييدها، فغضب الازهريون المجددون وارتابوا، ورأوا في لجوء محمد رشيد رضا اقرب تلاميذ محمد عبده اليه الى من اخرجه من الازهر وآذاه تنكراً، ولذلك نفروا الناس من المدرسة"وأطلقوا ألسنتهم فيها"، ثم ادعوا ان الشيخ رضا سمح بشرب الخمر في حفل اقامه في بعض الفنادق، ولا ينكر طه حسين انه كان اطول المهاجمين لساناً"وأجرأهم قلماً، وأجرحهم لفظاً".
ومن عجب انهم انكروا على الشيخ رضا تعاونه مع الخديوي، ولم ينكروا على الشيخ عبده تعاونه مع البريطانيين. انهما حلقة من الصراع بين الخديوية والبريطانية، بين التشريق والتغريب، وربما بين الشام ومصر، وكان طه حسين، كما هو معروف ميالاً الى التغريب والمصرية، حتى انه انتهى الى اعتبار مصر جزءاً من اوروبا، وذلك في كتاب"مستقبل الثقافة في مصر".
أياً تكن الحقيقة فإن طه حسين رسم لنا صورة محمد عبده بطريقة حية، وإن كان قد تكلم عليه بصيغة الغائب، لأنه لم يلقه. وهذه الصورة تشبه صورة طه حسين نفسه، او لعل طه حسين اراد ان يجعله على صورته في ما كان يطمح اليه من تطوير العلم في مصر. فتصور محمد عبده التعليمي يبدو مقدمة لتصور طه حسين في تطوير التعليم الجامعي وما قبله، وقد ابتدأه في كتابه المشهور: في الشعر الجاهلي ثم وسعه في مقدمة النص المعدل للكتاب نفسه، وهو: في الأدب الجاهلي.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.