أمير الرياض يصل لشقراء في جولة تفقدية ويدشن عددًا من المشروعات التنموية    مبادرة «يوم لهيئة حقوق الإنسان» في فرع الاعلام بالشرقية    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 34596    فيصل بن فهد بن مقرن يستقبل مدير فرع "الموارد البشرية"    تعليم عسير يحتفي باليوم العالمي للتوحد 2024    هاكاثون "هندس" يطرح حلولاً للمشي اثناء النوم وجهاز مساعد يفصل الإشارات القلبية    الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا لفض الاعتصامات المؤيدة لغزة    السعودية تدعو لتوحيد الجهود العربية لمواجهة التحديات البيئية التي تمر بها المنطقة والعالم    العدل تُعلن عن إقامة المؤتمر الدولي للتدريب القضائي بالرياض    سعود بن بندر يستقبل رئيس القطاع الشرقي لشركة المياه ويطلع على التقرير السنوي لغرفة الشرقية    محافظ الحرجة يكرم المشاركين في حفل إِختتام اجاويد2    مساعد وزير الدفاع يناقش الموضوعات المشتركة مع فرنسا ويبحث نقل وتوطين التقنية    مجمع الفقه الإسلامي الدولي يشيد ببيان هيئة كبار العلماء بالسعودية حول الإلزام بتصريح الحج    إحلال مجلس إدارة إنفاذ محل لجنة تصفية المساهمات العقارية    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    انعقاد أعمال المنتدى العالمي السادس للحوار بين الثقافات والمؤتمر البرلماني المصاحب في أذربيجان    سماء غائمة بالجوف والحدود الشمالية وأمطار غزيرة على معظم المناطق    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    الذهب يستقر بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيس الإمارات في الشيخ طحنون آل نهيان    برئاسة وزير الدفاع.. "الجيومكانية" تستعرض خططها    تيليس: ينتظرنا نهائي صعب أمام الهلال    سعود عبدالحميد «تخصص جديد» في شباك العميد    يجيب عن التساؤلات والملاحظات.. وزير التعليم تحت قبة «الشورى»    متحدث التعليم ل«عكاظ»: علّقنا الدراسة.. «الحساب» ينفي !    أشعة الشمس في بريطانيا خضراء.. ما القصة ؟    الهلال يواجه النصر.. والاتحاد يلاقي أحد    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    اَلسِّيَاسَاتُ اَلتَّعْلِيمِيَّةُ.. إِعَادَةُ اَلنَّظَرِ وَأَهَمِّيَّةُ اَلتَّطْوِيرِ    هذا هو شكل القرش قبل 93 مليون سنة !    جميل ولكن..    أمي السبعينية في ذكرى ميلادها    الدراما السعودية.. من التجريب إلى التألق    «إيكونوميكس»: اقتصاد السعودية يحقق أداء أقوى من التوقعات    هكذا تكون التربية    ما أصبر هؤلاء    «العيسى»: بيان «كبار العلماء» يعالج سلوكيات فردية مؤسفة    زيادة لياقة القلب.. تقلل خطر الوفاة    «المظهر.. التزامات العمل.. مستقبل الأسرة والوزن» أكثر مجالات القلق    «عندي أَرَق» يا دكتور !    33 مليار ريال مصروفات المنافع التأمينية    لؤي ناظر يعلن عودته لرئاسة الاتحاد    النصر يتغلب على الخليج بثلاثية ويطير لمقابلة الهلال في نهائي كأس الملك    مدرب تشيلسي يتوقع مواجهة عاطفية أمام فريقه السابق توتنهام    وزير الصحة يلتقي المرشحة لمنصب المديرة العامة للمنظمة العالمية للصحة الحيوانيّة    «سلمان للإغاثة» ينتزع 797 لغماً عبر مشروع «مسام» في اليمن خلال أسبوع    تحت رعاية الأمير عبدالعزيز بن سعود.. حرس الحدود يدشن بوابة" زاول"    إنستغرام تشعل المنافسة ب «الورقة الصغيرة»    العثور على قطة في طرد ل«أمازون»    أشاد بدعم القيادة للتكافل والسلام.. أمير نجران يلتقي وفد الهلال الأحمر و"عطايا الخير"    في الجولة ال 30 من دوري روشن.. الهلال والنصر يواجهان التعاون والوحدة    دورتموند يهزم سان جيرمان بهدف في ذهاب قبل نهائي «أبطال أوروبا»    اطلع على المهام الأمنية والإنسانية.. نائب أمير مكة المكرمة يزور مركز العمليات الموحد    أغلفة الكتب الخضراء الأثرية.. قاتلة    مختصون: التوازن بين الضغوط والرفاهية يجنب«الاحتراق الوظيفي»    مناقشة بدائل العقوبات السالبة للحرية    سمو محافظ الخرج يكرم المعلمة الدليمي بمناسبة فوزها بجائزة الأمير فيصل بن بندر للتميز والإبداع في دورتها الثانية 1445ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السينما الألمانية - وبضعة شرائط غيرها - حين تحاول طرح الأسئلة الصعبة . "صوفي" و"هتلر" و"غوبلز" أشباح الماضي تخلص الحاضر من آثامه
نشر في الحياة يوم 01 - 04 - 2005

يوم الرابع عشر من شباط فبراير الماضي، كان مهرجان برلين السينمائي في دورته الخامسة والخمسين لا يزال في منتصف أسبوعه الأول. وكانت الدورة وعدت الحضور بجملة من أفلام سيتبين لاحقاً انها، من دون أن تغلب عليها سمات الضخامة والاستعراضية، تكشف عن حساسيات فائقة الأهمية تعيشها سينما اليوم في انحاء من العالم كثيرة. ومع هذا كان المطلب الرئيس لعدد من النقاد والصحافيين والمهتمين بالسينما، الذهاب الى أي صالة تجارية قد يكون فيها عرض لفيلم كثر الحديث عنه خلال الشهور السابقة هو فيلم"السقوط"الذي يلعب فيه برونو غانتس دور هتلر، ليعيش هذا الأخير، تحت ملامح نجم أفلام فيم فندرز، آخر أيامه على الشاشة. فالمرء حينما يكون في برلين وحينما يمر مرتين في اليوم عند نقطة تفتيش تشارلي، التي كانت تفصل سابقاً بين برلين الشرقية واختها الغربية، ويشهد في اليوم السابق احتفالات ذكرى ستين سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية، عند نقطة تشارلي بالذات، لا شك ستخامره تلك الرغبة في مشاهدة فيلم قد تكون فيه نظرة تعاطف انسانية ما، تجاه الديكتاتور النازي السابق.
يومها، وقبل أن تصل الأنباء المفجعة من بيروت حول جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري، كانت الأنباء تتوارد حول أمر أثار دهشة - وغضب كثر من الحاضرين في المهرجان: انباء تقول ان تظاهرات صاخبة تعم مدينة درسدن، البعيدة نسبياً عن برلين، نظمها نازيون جدد، بألبستهم العسكرية التقليدية، تذكاراً لقصف الحلفاء لمدينتهم. كانت هناك تظاهرات مماثلة، وكلها"نيو نازية", للمناسبة نفسها في عدد من المدن الأخرى، غير ان تظاهرات درسدن كانت أكبر بكثير وكانت ذات دلالة، لأن تدمير درسدن ينظر اليه عارة على انه أكبر جريمة اقترفها الحلفاء ضد المانيا، بحيث لم تفقها أهمية وهمجية سوى قنبلتي هيروشيما وناغازاكي النوويتين. ذلك ان درسدن دمرت للا شيء... وتقريباً في وقت من آخر أيام الحرب العالمية الثانية، كانت المانيا فيه قد انتهت ولم يعد الحلفاء في حاجة الى أي ضربة موجعة.
احتجاج ما...
في اليوم التالي سيكون الكاتب المجري ايمري كيرتش جائزة نوبل للآداب 2003 من أول المحتجين الغاضبين على التظاهرات، اذ رأى فيها"يقظة جديدة ومفزعة للفكر النازي", وعودة ضارية ل"الشياطين القديمة"... وهو في طريقه، خلال حديثه، عرج على فيلم"السقوط"ليرى فيه مظهراً آخر من مظاهر تحاول أن تضفي على هتلر وجرائمه ونازييه بعض ملامح العادية. بالنسبة الى كيرتش، يجب أن يظل هتلر استثنائياً. والنازيون استثنائيين. والهمجية استثنائية. وإلا فإن التاريخ سيعود الى الوراء. وكيرتش كان في برلين يومها، ليواكب عرض فيلم"بلا مصير"المأخوذ عن واحدة من أقوى رواياته، ويتحدث تحديداً عن النازية و... معسكرات الاعتقال التي حشرت باليهود، في المجر - وطنه - أيام الحرب العالمية الثانية. اذاً، حينما يتكلم كيرتش حول هذا الموضوع، وحينما يعلن فزعه وغضبه أمام تظاهرات درسدن، كان يعرف عما يتحدث، هو الذي دار قسم كبير من أدبه، كما حال بريمو ليفي في ايطاليا، حول معسكرات الاعتقال والهولوكوست ولا يفوته ان يقول دائماً ان"الذاكرة يجب أن تبقى حية لئلا نعود الى ذلك الماضي".
ولكي تبقى"تلك الذاكرة حية"نعرف ان الفيلم المأخوذ عن رواية كيرتش حشر حشراً في المسابقة الرسمية للمهرجان، من دون اعلان مسبق، ولم يعرف أحد بوجوده الا في اليوم الأول للدورة.
غير أن مهرجان برلين لم يكن، في الحقيقة، في حاجة الى كيرتش وفيلمه ليسهم في ابقاء الذاكرة حية. احتاج"بلا مصير"، فقط لكي يقيم ذلك التوازن - المطلوب دائماً وربما لاعتبارات سياسية راهنة، أكثر مما لاعتبارات تتعلق بالذاكرة - بين الحديث عن النازية وحربها العالمية الثانية بصفتها جريمة ضد الانسانية جمعاء. وأكثر من هذا: جريمة ضد المانيا والعقل الألماني، والحديث عنها بصفتها مجرد مذبحة لليهود كان من نتائجها تحطيم اليهودية الأوروبية ذات يوم.
اذاً، حتى لو لم تكن النيات على ذلك النحو، أتى"بلا مصير"وحضور كيرتش وتصريحاته، فقط, كعملية ضبط... وتحديداً وسط دورة شهدت، على خطى"السقوط"، عدداً كبيراً من الأعمال السينمائية التي تحاول أن تنبش الذاكرة الجماعية الألمانية، في اتجاهات متنوعة. وكأن ثمة تنسيقاً معيناً في هذا المجال.
طبعاً يمكن القول منذ الآن ان معظم ما عرض من جديد حول الحقبة النازية، كان مندداً... لكن الظاهرة في مجملها أتت أشبه بتعويذة لافراغ الأجساد والأرواح، من ذلك الماضي الشبح، المخيم على صدر المانيا كلها. هل نتحدث هنا عن"عقدة ذنب"، ربما ليس بالمعنى الكلي للكلمة. ولكن على الأقل بمعنى السعي الى خرق محظورات ما، في هذا المجال.
ذلك الدرك!
اذ، على رغم أن السينما الألمانية، ومنذ أيام"معجزة اديناور"أي حينما بدأت المانيا والفكر الألماني والفنون الألمانية، تفيق من صدمة الهزيمة، بدأ الألمان يتحسسون ماضيهم ويسألون: أين الخطأ؟ ونعرف أن أدباً كبيراً كتب حول هذا الموضوع، وان أفلاماً رائعة تناولته دائماً من موقع الادانة وربما السؤال: كيف حدث لبلاد العقل والمنطق والفكر والفنون ان هبطت الى ذلك الدرك؟
أعمال كثيرة طرحت السؤال. وأعمال كثيرة قدمت اجابات، بعضها مقنع وبعضها أقل اقناعاً. غير ان ظلال العاطفة والمشاعر الغاضبة ظلت مهيمنة. وكان واضحاً ان المانيا لا تزال في حاجة الى انتظار زمن ما، قبل أن تجابه ماضيها كمرآة حقيقية، لا كنافذة يُطل منها على آخر. قبل أن تكتشف أن هتلر والنازية والهمجية والمذابح لم تكن حدثاً عارضاً في تاريخها. ماضياً نلغيه بفضحه باعتباره ماضياً آخر...
وفي يقيننا ان هذا الطرح الجديد، كان في حاجة الى انتهاء الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين، وتحول المانيا من دولة قابعة بين أفكاك الحلفاء الى دولة تقود أوروبا. كان الأمر في حاجة الى المانيا من دون عقد، ومن دون الاضطرار الى الاعتذار لاسرائيل بمناسبة ومن دون مناسبة على المذابح اليهودية، حتى تجابه التاريخ في عاديته و... في استمراريته أيضاً.
ومجابهة التاريخ لا تكون الا من داخل ذلك التاريخ. وهكذا، اذاً، حينما يأتي فيلم، عرض في"البانوراما الوثائقية"ليتحدث عن ضابط نازي كبير سابق هو هانس إيلارد لودن، تعاون مع هتلر باكراً، بل كان واحداً من الضباط الشبان المتآمرين في فايمار، لحساب النازيين، من المؤكد ان هذا الفيلم المعنون"شيئان أو ثلاثة أعرفها عنه"، لا يتخذ أهميته من موضوعه، ولا من الشكل الذي يقدم به هذا الموضوع: حديث في نحو 87 دقيقة عن ثلاثة أجيال من عائلة هذا الضابط تتجادل وتتحاور مخلية الساحة من أي محظور... بل من واقع ان مخرج الفيلم وكاتبه هو مالتي لودن، ابن الضابط وهو سينمائي معروف، حقق عدداً كبيراً من الأفلام الوثائقية... لكنه، في فيلمه الجديد هذا، يقدم على الخطوة الأساس: مجابهة تاريخ أبيه كمرآة له، ومن خلال نظرة عائلية داخلية اليه.
من الجانب الآخر
ترى، هل حدث للضابط لودن ان التقى ذات يوم بالمدعو والتر شفارتزي؟ لن يعرف أحد طبعاً، لأن الرجلين ماتا. وهما كانا على ضفتين مختلفتين خلال الحرب، وفي كل المقاييس: ذلك ان شفارتزي، الذي يحكي لنا عنه فيلم"حياة من أجل لا شيء"، لم يكن نازياً... بل لم يكن مسيساً اطلاقاً. كان مثقفاً مثليَّ الجنس. ولأن اليهود لم يكونوا وحدهم ضحايا النازية، بل كل من هو خارج السياق، وضع النازيون شفارتزي في المعتقل طوال خمس سنوات، خرج بعدها ليكتشف كم انه لم يعش حياته، وكيف ان تلك السنوات الخمس الغت وجوده تماماً"من دون أن أكون قد اقترفت أي ذنب"كما قال ذات يوم للمخرج روزا فون برونهايم. شفارتزي مات بداء السرطان في العام 1998 واليوم في هذا الفيلم الذي لا تزيد مردة عرضه على ربع الساعة، يأتي المخرج ليحيي ذكرى ذلك الانسان، ومن خلاله ذكرى تلك المرحلة من حياة المانيا.
روزا فون برونهايم نفسه، حينما كان يفكر في شفارتزي، طرح على نفسه سؤالاً يتعلق بحقيقة العلاقة بين النازية وبين المثليين جنسياً، فوصل الى اكتشاف يعبر عنه في فيلم آخر له، عرض في الدورة نفسها لبرلين، وعنوانه"رجال، أبطال ومثليّون نازيون"... هذا الفيلم البالغة مدة عرضه ساعة ونصف الساعة، ليس عن الماضي تماماً، ولكنه يطل عليه من خلال تأكيدات تتحدث، على رغم كل شيء، عن أن كثراً من القادة النازيين كانوا مثلييّ الجنس. ولعل خير من يعبر عن هذا، الكاتب النيو نازي مايكل كوهنن، الذي، قبل موته بالسيدا في آخر سنوات الثمانين، كتب نصاً يقول فيه ان"المثليّين هم أفضل المقاتلين، لأنهم، من دون أُسر، ومن دون ارتباطات عائلية ما يجعلهم شجعان مقدامين لا يأبهون بالنساء...". وكوهنن، هذا، واحد من أشخاص كثيرين يقدمهم فون برونهايم في فيلمه الذي يؤكد ان ما بين 10 و15 في المئة من قيادات اليمين النازي المتطرف في العالم، اليوم، هم من المثليين. ولعل الخلاصة الأساسية التي يصل اليها الفيلم هي تلك التبسيطية التي تقول:"لقد طورد المثليون واضطهدوا في كل نظام وزمن... فلماذا لا يكونون يمينيين متطرفين... أيضاً".
صور وذكريات
... وهنا يعود المكوك بنا الى الماضي، ولكن هذه المرة من خلال فيلم"مصور هاوٍ"لايرينا غدروفتش، وهو فيلم يقدم لنا ضابطاً نازياً سابقاً، لا يزال حتى اليوم يعيش وسط الصور البطولية والملاحظات التي كان يدونها يوماً بيوم خلال الحرب. فيلم"مصور هاو"محايد في مظهره... لكنه في مضمونه يرسم صورة معمقة للكيفية التي تشتغل بها الذاكرة على العقول... وتحديداً عبر الكليشيهات.
كليشيهات أيضاً، ولكن من نمط مختلف تماماً، هي تلك التي تطالعنا في فيلم هو الأول - على حد علمنا - الذي يخصص لواحد من أكثر الكتب مخاتلة وتلاعباً بالعقول في التاريخ:"بروتوكولات حكماء صهيون"تشكل الموضوع الرئيس للفيلم الذي يحمل الاسم نفسه، والآتي من أميركا، لا من المانيا، هذه المرة. ومخرجه هو مارك ليفين. هذا الفيلم هو عبارة عن تحقيق... ويتألف من مجموعة كبيرة من الحوارات. أما الدافع الى تحقيقه فكان، كما نفهم في مقدمة الفيلم، ان الحديث عن"المؤامرة اليهودية"الضخمة التي تريد تدمير العالم والسيطرة عليه، والتي تتجذر في ذلك الكتاب، عاد في أميركا - خصوصاً - من جديد اثر العمليات الارهابية في 11 أيلول سبتمبر وعاد معه ذكر الكتاب، بعدما كان النسيان قد طواه وآمن كثر في جميع أنحاء العالم، بأنه من ابتكار الاستخبارات القيصرية الروسية آخر القرن التاسع عشر، حين بدأت حربها ضد اليهود رالروس، الذين راح أكثرهم ينضوي تحت لواء تنظيمات وأحزاب ثورية، وأحياناً في موقع القيادة. اليوم اراد المخرج أن يعرف ما اذا كان للكتاب أثر في الناس. ولذا قام بجولة في طول الولايات المتحدة وعرضها، سأل خلالها عشرات الأشخاص ومن كل الأديان والأعراق ? ومن بينهم عرب أميركيون ونازيون وما شابه -، ليكتشف في نهاية الأمر أن هذا الكتاب لم يمت وان عدد الذين يصدقون ما فيه، يكاد يزيد على عدد مكذبيه!
واذا كان هذا الفيلم، يعيد المسألة النازية، في جانب منها، الى بعد"معاداة السامية"والمذابح اليهودية، فإن ثمة ثلاثة أفلام أخرى، وأخيرة، عرضت في برلين. منها واحد وثائقي أيضاً يستغرق عرضه قرابه الساعتين عنوانه"تجربة غوبلز"وهو فيلم محيو... لا تعليقات فيه، ولا أحكام مسبقة حتى على جوزف غوبلز 1897 - 1945 وزير دعاية هتلر، الذي انتهى مثل زعيمه، انتحاراً. ان من يتحدث عن غوبلز هنا، هو غوبلز نفسه... اذ ان الفيلم يقدم لنا حياته كمنظومة بسيكودرامية، من خلال يومياته التي بدأ يدونها في العام 1924، وظل يواظب على ذلك حتى أيام قبل انتحاره. صحيح ان هذا الفيلم قد لا يشعرنا بأدنى تعاطف مع ذاك الذي أًُثر عنه قوله:"أنا كلما سمعت كلمة ثقافة امتضيت مسدسي"، ولكن مجرد ان نراه ونرى حياته على الشاشة، وقد اضفي عليه وعلى حياته وأفكاره طابعاً فردياً سيكولوجيا، معناه ان النازية تُفرغ هنا من بعدها السياسي السلطوي لتعطى سمات شديدة الخصوصية. وفي هذا قد يكون من المنطقي القول ان غوبلز هنا يلتقي مع هتلر"السقوط"في عملية توصل - حتى من دون ارادة صنّاع الفيلمين - الى شيء من التفهم للشخصيتين، يجعل من"فرديتهما"تأشيراً على"الحادث العرضي"في التاريخ الذي"كانته"النازية.
ولكن - ولله الحمد - يبقى فيلمان آخران، روائيان، شعبيان وكبيران لاعادة الأمور الى نصابها. فيلمان يحدثاننا عن النازية كحركة سياسية خطرة، لا علاقة لها بفقدان العقل، ولا بالدراما السيكولوجية: فيلمان يشددان على المنظومة السلطوية القمعية للنازية، وكما تجلت بخاصة خلال الأيام الأخيرة للحرب العالمة الثانية. أول الفيلمين، وأقلهما أهمية بالتأكيد، هو"قراصنة ادلفاسي". والثاني"صوفي شول"الذي عرض في المسابقة الرسمية، ونالت بطلته جوليا جنتش، جائزة أفضل ممثلة على دورها الرائع فيه.
عن الذين قاوموا
ولعل القاسم المشترك الرئيس بين الفيلمين، حديثهما معاً - وكل على طريقته - عن أمر كان مسكوتاً عنه طويلاً: المقاومة الألمانية البطولية ضد هتلر ونازييه. فالحال ان التاريخ ظل لفترة طويلة من الزمن يروى وكأن الألمان كلهم - باستثناء المنفيين وأهل الأقليات وبعض المثقفين - كانوا مناصرين لهتلر. هذان الفيلمان يقولان: لا... لقد كانت هناك مقاومة عنيفة، وكان هناك شهداء وضحايا. و"قراصنة ادلفاسي"، المبني على وقائع حقيقية حدثت في مدينة كولونيا في خريف العام 1944، يروي تلك الوقائع"حتى وان كان الواقع أكثر جنوناً وتعقداً مما تقوله في الفيلم"بحسب ما قال مخرجه نيقو فون غلاسّو. والوقائع تتعلق بمجموعة من المقاومين الذين ظهروا في تلك المدينة وعرفوا بالاسم الذي استعاره عنوان الفيلم. هؤلاء خاضوا معارك مذهلة ضد نازيي الشبيبة الهتلرية... وكانت معارك تخاض أحياناً داخل البيت الواحد كارل، أحد أبطال الفيلم"قرصان"بينما شقيقه بيتر عضو في شبيبة هتلر... والنهاية في المعتقل. ذلك ان التحرير كان لا يزال بعيداً.
بالنسبة الى"صوفي شول"كان التحرير أقرب، ولكن نظرياً فقط. فصوفي، بطلة الفيلم الذي يحمل اسمها، هي عضو في مجموعة مقاومة أخرى في ميونيخ، تسمى"فاسي روز"يخيل اليها اذ خسر النازيون معركة ستالينغراد ان الهزيمة النازية باتت في الأفق. ومن هنا تزيد المجموعة من تكثيف عملياتها، مغرقة المدينة بشعارات معادية للنازية، راسمة الخطط للعمليات. لكن النازيين كانوا لا يزالون مسيطرين. وهكذا يقبض على صوفي وعلى شقيقها... والفيلم يحدثنا عن محاكمتهما، ومحاولات صوفي، على الأقل، انقاذ شقيقها... مرتبطة في سبيل ذلك بعلاقة مع موهر، رجل الغستابو. بيد ان هذا يعدها بانقاذ الأخ ان هي قالت انها لا تلعب دوراً أساسياً في المقاومة، لكن الفتاة ترفض وتجابه عشيقها بموقف أخلاقي - بطولي يشكل ركيزة الفيلم الأساسية. غير ان هذا لا ينقذ الأخ، بل يشدد حتى من محاكمة صوفي، التي سيكون الاعدام مع أخيها، هو المصير الحتمي، في وقت كان النازيون يعيشون فيه أيامهم الأخيرة.
"صوفي شول"بدوره مأخوذ من أحداث حقيقية. غير ان المهم هنا، المهم في هذا التزامن المدهش، في انتاجات سينمائية تقول ما كان معظمه خارج نطاق البحث لعقود خلت. تماماً كما لو ان ثمة شيئاً داخل الضمير الألماني، ينحو مع انتهاء القرن العشرين، الى الخروج من تلك الاستثنائية التي وضعت فيها المانيا طوال أكثر من نصف قرن، ولو لطرح سؤال بسيط: ماذا لو كنا نحن أيضاً أناساً عاديين, نحب ونقاوم ونطرح أسئلة، من حول تلك الجريمة الكبرى التي ارتكبت باسمنا جميعاً... وربما تهيأ لترتكب باسمنا من جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.