الفارق بين المغني المصري شعبان عبدالرحيم والمغني السوري علي الديك، هو ببساطة أن الأول أوصلته إلى الشهرة في مصر والعالم العربي أغنية"سياسية"ساخرة خص بها وزير الخارجية المصري حينذاك عمرو موسى معلناً حبه له في موازاة كراهيته لإسرائيل،"أنا بكره إسرائيل وبحب عمرو موسى". أما الثاني فقد دخل الأغنية"السياسية"الساخرة بعدما حقق شهرة واسعة في الأغنية ذات النفس الفولكلوري أولاً. وتأتي أغنيته الجديدة الموجهة إلى المحقق الألماني في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ديتليف ميليس لتعطيه بعداً"سياسياً"آخر يستفيد من البعد الفني الشعبي المعروف. الأول أي شعبان عبدالرحيم كان مغموراً ولم يكن يفكر في الشهرة ربما عندما ردد كلمات منسّقة تتناغم مع مزاج جمهور مصري رأى في مواقف عمرو موسى ما يستحق التنويه. أما الثاني، أي علي الديك، فاعتمد على شهرته كي يردد الكلمات المنسّقة التي تتناغم مع مزاج جمهور سوري يرى في لجنة التحقيق الدولية، بشخص رئيسها ديتليف ميليس، أهدافاً أخرى غير التحقيق في الجريمة! ومثلما انتشرت أغنية"أنا بكره إسرائيل وبحب عمرو موسى"لعبدالرحيم انتشار النار في هشيم رأي عام مصري استساغ بساطة الكلمة وبساطة اللحن وبساطة الأداء، ثمة من يعتقد بأن أغنية"ميليس"لعلي الديك ستلاقي الانتشار نفسه ولكن بدعم مباشر من الإعلام السوري - الأمر الذي لم يكن عبدالرحيم حصل على مثله في بلاده. ولم يتلقف الإعلام المصري اغنية عبدالرحيم إلا بعد حصولها على تأييد ملايين المصريين الذين قيل انهم ابتاعوا ملايين النسخ منها... قبل وصولها إليه! ثمة إشارة يمكن الانتباه إليها في ظاهرة شعبان عبدالرحيم وظاهرة علي الديك هي خروج الأغنية"السياسية"العربية السا خرة من خانة التلميح إلى خانة التصريح، ومن موقع النصوص الشعرية المثقفة مبنى ومعنى، والألحان الاحترافية، إلى موقع النصوص الترفيهية في المبنى والمعنى والألحان الفطرية، من دون أن يعني ذلك مطلقاً تكسير مجاذيف الفكرة السياسية - الوطنية التي تنطلق منها الأغنيتان. فما نعني هو انحياز الأغنية التي توصف بأنها"سياسية"إلى الفن الأقرب إلى الارتجال منه إلى التفكر، واعتماد لغة فنية مباشرة جداً وتصويرية جداً وانفعالية جداً في حين كانت الأغنية السياسية العربية عموماً قد حسمت توجهها إلى ما هو اعمق في الصياغة والأسلوب والهدف. لم يكن شعبان عبدالرحيم قادراً على إنجاز أغنية"أقوى"فنياً من أغنيته التي... ذهبت مثلاً، وكذلك لم يكن علي الديك قادراً على أغنية أفضل من أغنيته لميليس. وكذلك أيضاً لا يبدو المغنون والمغنيات وشركات الإنتاج وربما الجمهور معهم، قادرين على"طلب"أغنية اكثر انتماء إلى سيد درويش أو زياد الرحباني أو مارسيل خليفة. فخلق البساطة التي جمعت درويش والرحباني، هناك ما يشبه"الفلسفة"الإنسانية الساخرة الموجعة، وخلف المستوى الاحترافي الذي اختاره خليفة هناك ما يشبه بساطة العمق. وكانت الأغنية السياسية أو هكذا توهمنا قد عقدت العزم على ألا تغادر هذه المساحة، فإذا بها تغادر إلى ما نرى في اتجاه آخر لا يمكن إنكار ما له من مدى جماهيري فوري، إذا اعتمدنا الصدق في القياس. بعد محاولة إحراق المسجد الأقصى في أواسط الستينات صدرت أغان كثيرة، كانت وما زالت أبرزها"زهرة المدائن"حتى ليمكن القول إنها الأغنية الوحيدة التي صدرت... وفي العالم العربي اليوم أحداث سياسية كثيرة وساخنة، وقد صدرت أغان كثيرة تتحدث عن تلك"المناسبات"، لكن الأغنية التي تستطيع أن تقول موقفاً فنياً إبداعياً حقيقياً لم تصدر... وحتى ذلك الوقت، بمقدور سورية الاعتماد على شاميات فيروز والأخوين رحباني، فهي تستحضر التاريخ لتلهم الحاضر - وبمقدور العالم العربي البحث عن سيد درويش جديد أو زياد رحباني أو مارسيل خليفة على رغم أن الأخيرين غادرا ولم يغادرا! وليس كل من يغادر بطلاً، بل مكره أخاك...