بدأت موجة الأغاني التي يطلق عليها "هابطة"، أو "أغاني الميكروباص"، مطلع عقد السبعينات بأحمد عدوية ثم بكتكوت الأمير. وتوالت بعد ذلك سلسلة مؤدي هذا اللون الفني. ومع صعود نجم كل من هؤلاء يتجدد الهجوم عليهم جميعاً، ويستمر بعض الوقت، حتى تعتاد آذان المصريين صوته وأغانيه، ويتحول تدريجاً الى مطرب أو مغنٍ ذي صيت، ومعتمد رسمياً من أجهزة الدولة المعنية، فنياً ورقابياً. ولكن كلاً من هؤلاء "المطربين" يجدد قياساً على سلفه، بدءاً من لحن وكلمات غريبة وغير مفهومة، من شاكلة "السح الدح امبو"، الى كلمات ليست شعراً، ولا هي نثر، ولا تعدو كونها مفردات حوار بين شخصين أو حتى شخص واحد يفكر بصوت عالٍ، مروراً بكلمات شديدة في مباشرتها وغريبة في تركيباتها الدلالية، مثل: "ألو يا مانجو". وبمرور الوقت أصبحت الساحة الغنائية والفنية لوحة فسيفسائية من مفردات ثقافية يجمع بينها اندفاع يوحي بشجاعة خادعة، ورغبة في الانسلاخ من ذات في حقيقتها منكسرة. بيئة هذه سماتها من الطبيعي ان تفرز شعبان عبدالرحيم ونظراءه. فهذا هو اللون الجديد الذي لم يظهر من قبل. ولم يبق فعلاً سوى لون أو بالأحرى لا لون شعبان عبدالرحيم. إذ يصعب تطبيق أي من معايير الغناء أو الفن عموماً عليه. فليس هو نظماً شعرياً، ولا سمات للشعر الغنائي في كلمات أغانيه. ولو جردت الكلمات المغناة من المصاحبة الموسيقية لكنا أمام حوار تقليدي جداً يتكرر في مقاهي القاهرة، أو جلسات الدردشة المصرية الشعبية. وهو حوار في اتجاه واحد مونولوغ. وأغاني شعبان لها اللحن نفسه، وطريقة الأداء نفسها. وهو ليس بلحن، وليس بأداء على قدر ما هو طريقة في الإلقاء تقوم على تقطيع الفقرات الى جمل قصيرة يكررها، وجملتين أو ثلاث معاً. ويعطي تكرار الجمل فرصة للمستمع كي يهضم أو يستوعب ما يقوله شعبان على بساطته وسطحيته. ويسعى التقطيع للتماشي مع الايقاع القفّاز. وربما يضيف نوعاً من الفضول الى معرفة بقية القصة أو الموضوع الذي يتحدث فيه. ومن أمثلة هذا النمط البارزة من أول يناير هاكون إنسان جديد، ثم صمت مدته سكتة موسيقية واحدة، وبعدها يأتي التوضيح هابطل سجاير واروح أشيل حديد. وهكذا جميع فقرات أغانيه. ولا يبقى من مثلث الأغنية سوى الصوت. ولسنا في حاجة الى توضيح أن صوت عبدالرحيم منبتّ الصلة بالأصوات الجميلة، أو حتى نصف الجميلة. فهو ليس صوتاً شجياً، مثل صوت أحمد عدوية. ومساحة صوته أضيق كثيراً مما قد يظن مستمعوه. وربما كان ذلك أحد أسباب تقطيع الفقرات الغنائية الى جمل قصيرة حتى يتمكن من إلقائها من دون لهاث أو انكشاف. وإذا كان هذا هو حال شعبان عبدالرحيم وأغانيه، فما مبرر الشهرة الطاغية التي نالها؟ والرواج المتنامي لأغانيه على رغم نمطيتها؟ قد يبدو للوهلة الأولى ان عزف شعبان على وتر الحس السياسي الشعبي في جملته الشهيرة: "أحب عمرو موسى وباكره اسرائيل" هو السبب في الطفرة الإعلامية والتسويقية التي حققها. وهذا صحيح نسبياً. فما فعله شعبان ببساطة - لا أدري عن عمد أم لا - هو استخدام المشاعر القومية لترويج "لا فن"، من خلال التعبير عن الغضب المكبوت لدى المستمعين وإظهاره بدلاً منهم. فانضم الى مستمعيه الأصليين كثرة لم يسمعوه، ولم يسمعوا به قبلاً. ولكن التحول في شعبيته كمي وحسب. فالطبقات التي كانت تسمعه لم تتسع لتشمل فئات أخرى من المجتمع، أكثر ثقافة أو معرفة، إلا موقتاً لوقت محدود وذلك رغبة في التعرف الى ما يقوله هذا النجم الجديد. ولكن الزيادة الحقيقية كانت في الفئة الاجتماعية نفسها التي كانت تسمعه من قبل. وهو لم يكن مغموراً قبل أغنيته الى عمرو موسى. وكان له مستمعوه ومريدوه من الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة في مصر وخارجها. ولا يفهم انتشار الظواهر، من شاكلة شعبان أو سابقيه، من منظور التعبير عن اتجاهات سياسية، أو التنفيس عن غضب مكبوت، وحده. فنموذج شعبان عبدالرحيم ليس إلا انعكاساً معبراً عن حال الثقافة المصرية راهناً. ويمثل، في صورة ما، مرآة لشخصية الشريحة الأوسع من المجتمع المصري المعاصر. وظهور شعبان عبدالرحيم لا يدعو الى الغضب والازدراء، على ما حصل حين ظهر شعبان، في رمضان الماضي، على اثنتين من قنوات التلفزيون المصري في وقت واحد. فالخلل ليس في شعبان، وليس في من يستمعون اليه، وانما في البيئة التي أفرزت هذا النمط من المغنين والمستمعين، وفي مؤسسات وأجهزة اعلام تساعد على تعميق هذا الخلل بالترويج لتلك الظواهر، فترحب بها، وتذيعها على الجمهور. فتزيد المجتمع تجهيلاً وتعمية. * كاتب مصري.