تزايد الجدل في الآونة الأخيرة حول ما سماه البعض تجديد الخطاب الديني، ومدى مواءمته للباعث على إطلاقه، فربطه البعض بحملة الولاياتالمتحدة الأميركية ضد "الإرهاب"، واعتبروا أن طرح الإدارة الأميركية هذا الموضوع الشائك يدل الى رغبتها في تخريب العقيدة الإسلامية وتقويض البنية التحتية للمسلمين، بإثارة اللغط حول مفاهيم التطرف التي تقول إنها تتسرب وتساهم في تكوين اللبنة الأولى لأفكار المسلمين ورؤاهم من خلال تدريس مفاهيم الجهاد والغزوات والفتوحات وغير ذلك. ورأى هؤلاء المتوجسون أن تناول أميركا مفاهيم الخطاب الديني أو تطويره داخل العالم الإسلامي يؤكد رغبتها في فرض سطوتها على مقاليد الأمور في العالم الإسلامي عقب أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 بإسقاط نظام "طالبان" في كابول، وما تلا ذلك من أحداث وصلت إلى إسقاط نظام صدام حسين في بغداد، ورصد كولن باول وزير الخارجية الأميركي بضعة ملايين من الدولارات لتحقيق التغيير داخل الدول العربية وتطوير الممارسات الديموقراطية فيها. وغنيٌّ عن البيان أن أحد أهم أسباب ضعف موقف دعاة تجديد الخطاب الديني سواء داخل المؤسسات الدينية أو الهيئات الفكرية، ما يعمدون إليه من الربط بين الحداثة والتطوير وبين رفض قبول التراث السلفي ورموزه ومفكريه. وما يزيد الطين بلة اشتباك نخب علمانية مستغربة مع الموضوع ودعوتها الملحة إلى إعادة النظر في ثوابت إسلامية مثل حكم الردة في الشريعة وفروض الإرث والمساواة بين الرجل والمرأة وحجاب المرأة المسلمة. وغير ذلك من القضايا التي تعد من صميم الشخصية المسلمة، وحينما تصل الأمور إلى دواعٍ تتصل بواقع بعض البلدان إلى حد ضم المساجد الأهلية إلى وزارات الأوقاف والشؤون الدينية ومنع أئمة من الخطابة والوعظ، فإن هواجس قطاعات كثيرة من المسلمين تتزايد إزاء مثل هذه التدابير، ويندفع البعض إلى حصر الخطاب الديني في الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة، ومن ثم تصبح المطالبة بتجديد الخطاب الديني تبديلاً لشرع الله، وفي هذا السياق يفسرون الدعوة إلى الحوار مع أصحاب العقائد المخالفة للأديان ومقررات مؤتمرات النساء والسكان وأي حديث عن فقه الواقع وفقه المقاصد. وعلى رغم توافر مثل هذه المخاوف إلا أن ذلك لم يمنعهم من القناعة بضرورة الاجتهاد لتجديد قطاعات الحياة الإسلامية، وأيضاً ضرورة الربط بين التجديد والاجتهاد بمدلولاته الواسعة. ويعتبرون أن غياب التجديد يضع الأمة في حرج شديد لجهة تعطل مصالحها، ما تأباه مقاصد الشريعة ذاتها، وإن احتفظوا بثوابتها وأصولها وتحفظوا عن المساس بها، باعتبار أن التجديد والاجتهاد يقتصران على فقه الشريعة وآليات فهمهما. أما أصول الدين من قرآن وسُنة وبالجملة كل ما هو قطعي يقيني لا يجوز إنكاره أو مخالفته أو تغييره، فهي محفوظة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وإلى ذلك ذهب الشيخ طارق الشامخي وآخرون يرون المجال واسعاً للتغيير في "المتغيرات" وهي الأحكام والمسائل الظنية التي يندب الاجتهاد فيها لملاءمة الزمان والمكان. والحقيقة أن جوهر التجديد والاجتهاد يقتضي إعطاء الفرصة للمجدين المجتهدين المعاصرين في كل وقت بعينه لمواكبة أوجه التطور في الأمور والعلوم الإنسانية كافة أكثر من مجرد الارتكان إلى اجتهادات السلف، من دون أن يعني هذا إهدار قيم السلف واجتهادهم، بقدر ما لا تتغول على اجتهادات المعاصرين باعتبارهم أدرى بمتطلبات الزمان والمكان. ولعل هذا هو ما توخاه المشرّع الحكيم من ترك المجال واسعاً أمام التفصيلات والجزئيات بحيث تتواءم الفتوى مع زمانها ومكانها. وعلى هذا لا يجوز إغلاق الطريق أمام التجديد والاجتهاد، فذلك أمر يوصل إلى استبداد الحكام ويعطي الفرصة لكثيرين لإغلاق الباب أمام الحداثة والتطوير. والبون شاسع بين الحداثة والأخذ بمقتضيات التطور والإحاطة بوسائل التقنية الحديثة وبين الذين يربطون بين معاني الحداثة والانحلال الخلقي والانحطاط الاجتماعي والذوبان في نمطية الغرب الاباحية وإضاعة الفواصل وإلغاء الضوابط الدينية والاخلاقية. فذلك أمر لا حداثة فيه ولا مواكبة للتطور، إنما هي ردة للجاهلية الأولى، فالإسلام هو الأحق بكل ما يعمل على تنمية العلوم الإنسانية التى ترتفع بتفكير الإنسان وتقدمه العلمي بما يخدم البشرية عموماً. فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها. وحساسية البعض تجاه تطوير الخطاب الديني ينبغي ألا ترتهن بمؤامرات المتآمرين أو نيات المستغربين، فالله سبحانه يحفظ الشريعة ويحمي الدين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وإنما علينا أن نبني على شرع الله ابتناء فنشرع ما يتواءم مع أصل الدين ومقاصده في ظل إطار عام وضوابط حددها لنا في الوقت الذى أعطى الإنسان حرية واسعة في اتباع ما يتواءم مع تفاصيل حياتهم الدنيوية. وضرورة الفصل بين مرامي تجديد الخطاب الديني وأصل الشريعة لازم، فالدمج بينهما، كما أسلفنا، تعطيل للتجديد وغلق لأبواب الاجتهاد. فالخطاب الديني وسيلة توصيل المعنى الذي قصده الشارع إلى المخاطب به وهنا تبرز الدعوة إلى المجادلة بالتي هي أحسن كما فسرها المحدثون من السلف بالقدرة على الاقناع ولإقامة الحجج والبراهين، فالإخلاص وحده غير كاف لأداء وظيفة الدعوة بل يلزم معه العلم والاحاطة بواقع الناس وحاجاتهم. وفي ظل تعرض العالم الإسلامي لتحديات معاصرة كثيفة وخطيرة يكون تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة لا لخدمة أغراض الولاياتالمتحدة أو الغرب في تقويض مناهجنا التعليمية أو إضعاف عقيدتنا الدينية وإكساب الأمة حيوية افتقدتها في ظل سباق رهيب يدور لاستلاب زمام ريادة في الدنيا كنا أسبق في مضمارها ولدينا الفرصة لاستعادتها ببذل الجهد وليس بالأماني وحدها. وعلى هذا فالمؤسسات الدينية الرسمية في حاجة ماسة لتطوير أدائها وتجديد خطابها، وقدر كبير من التجديد يكون باتباع وسائل قديمة، فوقت أن تم تعويق دور الأزهر تحت مزاعم تطويره تم تغيير نظامه بوقف الحيوية فيه بإلغاء انتخاب شيخ الأزهر بين هيئة كبار العلماء وجعل تبعيته للحكام بجعل ولائه يكمن في تعيينه بقرار رئاسي. والنعي هنا لا يبدو، كما يحلو للبعض أن يصوروه، استخفافاً بمجرد تقاضي راتبه من الدولة فذلك أمر لا نعي فيه، إنما النعي على استلاب إرادة مشيخة الأزهر وصفوة علمائه وجعلها في يد إرادة الحاكم إن شاء عيّنه وإن شاء عزله. والأمر نفسه في هيئة كبار العلماء التي تحولت إلى "مجمع البحوث الإسلامية" الذي صار يضم فنانين وكتاباً للسيناريو والقصص وموظفين، وتحت مظلة التطوير أيضاً شغل طلاب الأزهر بعلوم إنسانية وتجريبية، لها مجال واسع في الجامعات المدنية، فغاب عن خريج الأزهر أهم ما كان يتمتع به من الجودة في تحصيل العلوم الشرعية، فصار الوعاظ في المساجد لا يجيدون فنون التلاوة أو علوم النحو والصرف إلا من رحم ربي وكان موهوباً بفطرته متديناً برغبته. ولهذا أيضاً أصبحت الهوة واسعة بين رواد المساجد ووعاظ المؤسسة الرسمية في الأزهر وغيره في الدول الإسلامية الأخرى، واتجه المستمعون إلى الدعاة غير الرسميين والتمسوا الصدق فيهم. وأدى غياب مواضيع مهمة تتعلق بالحكم والحكام من أجندة العلماء الرسميين إلى صرف اهتمام العامة عنهم، ولم يجد صدام حسين من يقف في طريقه من العلماء حتى صار عبئاً على شعبه وأمته. وإذا كانت المطالبات للمؤسسات الدينية الرسمية بضرورة تغيير أو تجديد خطابها الديني فإن الحركات الإسلامية أيضاً وبالقدر نفسه تحتاج إلى تطوير خطابها واتباع استراتيجية جديدة تتواءم حتى مع جدية التحديات التي تواجهها هذه الحركات من نزعات استئصالية لم تعد إقليمية بقدر ما أصبحت دولية، فيما لا يزال الصراخ يغلف خطاب قطاعات واسعة من فصائلها والدعاء على الطغاة والمستبدين لا يكاد يجاوز الحناجر، لأن اللعنات لم تعد تصب على الطغاة وإنما اختلطت لتطول رموزاً وقادة ودعاة من المسلمين. * محام مصري وكاتب إسلامي.