أطل علينا، على صفحات "الحياة" رجل أسهم بجهده في تحطيم ثورة 14 تموز يوليو 1958، واغتيال قائدها، وتيتيم شعبها، ورميه طعاماً لكل طامع غادر. أطل عبدالغني الراوي علينا، وعلى الجيل الجديد، وهو جاوز الثمانين. وبدلاً من البكاء ندماً واعتذاراً، جاءنا معتزاً ومصراً على صحة أفعاله، ومعززاً قصصه باختلاف ساذج لا ينطلي على أحد. هذا المدعي العروبة يعترف بغبطة وحبور، بتآمره مع جهات إقليمية، ومع رئيس جهاز "السافاك" الإيراني المؤمن وآية الله محمد رضا بهلوي، شاه إيران. ويذكر جذلاً تبرع جهة اقليمية ب10 ملايين دولار، إيماناً بالله وحباً بالعراق ومصلحته. والراوي اشتهر في تاريخ العراق الحديث باعتراضه على شرذمة البعث، عندما طلبوا منه إعدام حوالى 150 عراقياً اتهموا بموالاة ثورة تموز وقائدها، ومقاومة الانقلاب البعثي الأسود. فاستشاط غضباً، وقال لهم انه لن يتحرك من مكانه إلا ليعدم ما لا يقل عن 500 منهم. وإذا كان هناك أدنى شك في هذه الواقعة التي تقشعر لها الأبدان، تبدد في المقابلة، وأكده عبدالغني الراوي، حيث قال، معتزاً بإثمه، انه غير نادم، وانه تلقى فتاوى من علماء المسلمين تجيز قتلهم. ويزيد مكابراً: تصرفت دائماً كعربي متمسك بإسلامه، وكأن للعربي الحق في قتل الآخرين، وأن الإسلام لم يقل من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. وكرر تهجمه على عبدالرحمن عارف، واتهامه بالتخاذل، ومدح نفسه باطناً وظاهراً. ولست هنا بصدد الدفاع عن عارف. ولكن ما يذكره الراوي فيه من المبالغة ما لا يتفق مع ما علمنا عنه من باحثين منصفين، ومن أناس عملوا معه في أثناء رئاسته. وهو يسترسل في ذم الآخرين موجهاً إليهم تهماً قام هو بأشنع منها. فيقوم باتهام النايف والداود بعلاقتهما ب"السي آي إي" عام 1968، وينسى نفسه المتعاونة مع الشيطان الشاهنشاهي في سبيل الحكم، حتى انه سعى للتفرد بالتعاون المميز مع إيران، ورفض وضع المتآمرين الآخرين الحكيم وسعد صالح جبر توقيعهما على خطته لمهاجمة العراق من إيران. وهو كان يحلم بثورة يكون هو قائدها. ولما لم يتيسر له ذلك هاجم الآخرين، ويبدو أنه لا يزال يحلم بالحكم المطلق. ويقول ان اثنين من أمراء الأفواج المفترض مشاركتهم في الاطاحة بالملكية، في أيار مايو 1958 قد أجازا منتسبي فوجيهما، وبدلاً من مشاركتهما في الثورة ذهب أولهما الى حمام عمومي، وفضل الثاني التوجه الى السينما. وبذلك لم يتسن للراوي أن يقود الثورة. وهو كلام لا يحتاج الى تعليق. والراوي يقول ان احد العسكريين أصر على وضع القيد في يد قاسم لأن الأفندي حلف اليمين. طبعاً هذه تلفيقة مزلزلة لم يذكرها أحد غيره، سرعان ما نسيها ليقول: عندما دخل الموكب شارع الرشيد هتف الناس للجيش فظن قاسم أن التصفيق له، فراح يلوح بيده وين صار القيد؟. طبعاً الحقيقة ان شارع الرشيد في ذلك الوقت، بعد مرور أكثر من يوم كامل على الانقلاب، كان خالياً من البشر. والناس لم تهتف للجيش، بل مزقت طلائع المتآمرين إرباً بالسكاكين. وذكر الراوي، في تعليقه على من كتب بيان ثورة تموز، إنه ذكر لعبدالسلام ان الخطة يمكن أن يضعها نقيب أو رائد. وهذا كلام قريب جداً لما ادعى طالب شبيب احد رؤساء الانقلابيين قوله لعبدالسلام في ذلك اليوم. فمن نصدق؟ ويدعي الراوي ان الزعيم اتصل به عندما كان في الحبانية، وان الراوي شتمه، وقال: "الى أين ستذهب اليوم، اليوم سأذبحك". هذا الكلام، على حد علمنا، قاله متآمر آخر هو طه الشكرجي. فمن نصدق؟ وذكر الراوي انه طلب من الزعيم ورفاقه أن يتشهدوا، وان يكتبوا وصية. لم يذكر ذلك أبداً واحد من الأشخاص الحاضرين الذين كتبوا عن تلك الواقعة. وذكر ان الزعيم لم يتشهد. واعترافك ان الزعيم كان يصلي ويصوم، وكان صائماً عندما قتلتموه. ولكنه لا يتمتع بإسلام عبدالغني، وعبدالسلام، ومحمود خطاب، وجمال عبدالناصر، "إسلام" الصلاة أمام كاميرات التلفزيون. وبدلاً من التوبة وطلب الصفح من أهالي ضحاياه، يتبجح الراوي بما فعل رداً على سؤال ان كان يشعر بالندم، ويقول انه كان اتخذ المواقف نفسها لو تكررت الظروف. وبعبارة أوضح: يقتل من دون محاكمة اعداداً كبيرة ممن لا يرون ما يراه. ان لم يكن هذا اجراماً فكيف يكون الإجرام؟ وإن لم يكن هذا فعلاً يعاقب عليه القانون، فما هو عقاب القتلة مع سبق الإصرار والترصد والفخر بإنجاز الجريمة؟ الولاياتالمتحدة الأميركية - الدكتور سعد الحريري [email protected]