آل حيدر: الخليج سيقدم كل شيء أمام النصر في الكأس    أجواء "غائمة" على معظم مناطق المملكة    إلزام موظفي الحكومة بالزي الوطني    "واحة الإعلام".. ابتكار لتغطية المناسبات الكبرى    تحت رعاية خادم الحرمين.. البنك الإسلامي للتنمية يحتفل باليوبيل الذهبي    الرياض.. عاصمة الدبلوماسية العالمية    بمشاركة جهات رسمية واجتماعية.. حملات تشجير وتنظيف الشواطيء    492 ألف برميل وفورات كفاءة الطاقة    «زراعة القصيم» تطلق أسبوع البيئة الخامس «تعرف بيئتك».. اليوم    الرياض.. عاصمة القمم ومَجْمَع الدبلوماسية العالمية    «هندوراس»: إعفاء المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول    "عصابات طائرة " تهاجم البريطانيين    كائن فضائي بمنزل أسرة أمريكية    أمير الرياض يؤدي الصلاة على منصور بن بدر بن سعود    القيادة تهنئ رؤساء تنزانيا وجنوب أفريقيا وسيراليون وتوغو    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    إحالة الشكاوى الكيدية لأصحاب المركبات المتضررة للقضاء    القتل ل «الظفيري».. خان الوطن واستباح الدم والعرض    طابة .. قرية تاريخية على فوهة بركان    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية.. استمرار الجسر الإغاثي السعودي إلى غزة    وفاة الأمير منصور بن بدر بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود    أرباح شركات التأمين تقفز %1211 في 2023    وزير الإعلام ووزير العمل الأرمني يبحثان أوجه التعاون في المجالات الإعلامية    فريق طبي سعودي يتفوق عالمياً في مسار السرطان    برعاية الملك.. وزير التعليم يفتتح مؤتمر «دور الجامعات في تعزيز الانتماء والتعايش»    العرض الإخباري التلفزيوني    وادي الفن    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    مؤتمر دولي للطب المخبري في جدة    أخصائيان يكشفان ل«عكاظ».. عادات تؤدي لاضطراب النوم    4 مخاطر لاستعمال الأكياس البلاستيكية    وصمة عار حضارية    استقلال دولة فلسطين.. وعضويتها بالأمم المتحدة !    أمير الرياض يوجه بسرعة رفع نتائج الإجراءات حيال حالات التسمم الغذائي    الأرصاد تنذر مخالفي النظام ولوائحه    التشهير بالمتحرشين والمتحرشات    زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب جزيرة جاوة الإندونيسية    (911) يتلقى 30 مليون مكالمة عام 2023    تجربة سعودية نوعية    الأخضر 18 يخسر مواجهة تركيا بركلات الترجيح    الهلال.. ماذا بعد آسيا؟    تتويج طائرة الهلال في جدة اليوم.. وهبوط الهداية والوحدة    في الشباك    انطلاق بطولة الروبوت العربية    حكم و«فار» بين الشك والريبة !    الاتحاد يعاود تدريباته استعداداً لمواجهة الهلال في نصف النهائي بكأس الملك    وزير الصناعة الإيطالي: إيطاليا تعتزم استثمار نحو 10 مليارات يورو في الرقائق الإلكترونية    64% شراء السلع والمنتجات عبر الإنترنت    السجن لمسعف في قضية موت رجل أسود في الولايات المتحدة    ألمانيا: «استراتيجية صامتة» للبحث عن طفل توحدي مفقود    واشنطن: إرجاء قرار حظر سجائر المنثول    المسلسل    إطلاق برنامج للإرشاد السياحي البيئي بمحميتين ملكيتين    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أصبحت مستهدفات الرؤية واقعًا ملموسًا يراه الجميع في شتى المجالات    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    خادم الحرمين يوافق على ترميم قصر الملك فيصل وتحويله ل"متحف الفيصل"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أطوار أوروبية قبل نهاية الحرب الباردة وغداتها كانت مصدر "مذهب" المحافظين الجدد وعجلت صوغه
نشر في الحياة يوم 29 - 06 - 2003

قبل الانتصار الأوروبي - الأميركي على "المعسكر" الشيوعي، وهو كان معسكراً داخلياً حقيقة وعلى معنى تقني وتنظيمي داخلي، تفشت الخلافات في صفوف حلف دول الأطلسي وضفتيه. فالمساعدات الاقتصادية الكبيرة التي قدمتها الولايات المتحدة الأميركية الى أوروبا الغربية وأسهمت في إخراج هذه من الركود ومن استطالة سنوات البناء العجاف" والقيادة العسكرية المندمجة لحلف الأطلسي، ومجلس السفراء الدائم" ونشر مظلة عسكرية قوامها 320 ألف جندي أميركي بأوروبا بعد هزيمة النازية نظير قوة سوفياتية برية ومدرعة ضخمة" وإعادة ألمانيا ديموقراطية الى "الجوف" الأوروبي، ورعاية هذه العودة في إطار أوروبي مستقل تنامى دوره تدريجاً - كل هذا لم يحل بين القوى الغربية المتحالفة والمتعاقدة وبين ظهور الخلاف في صفوفها.
ففي أزمة السويس 1956، وأزمة برلين 1961، وإبان تعريف الاستراتيجية النووية الأطلسية 1966، وفي المراحل الأخيرة من حرب فيتنام التي ختمتها إدارة نيكسون على مصالحة مع الصين الشيوعية 1972 وعلى التوسل بالخلاف الصيني والسوفياتي الى إنشاء عالم كثير الأقطاب والى جبه التسلح السوفياتي غير التقليدي بنشر صواريخ قارية 1983 - تباينت المواقف الأوروبية الأميركية على مقادير متفاوتة. وعلى رغم الفروق بين هذه الأزمات، وتمييزها المواقف الأوروبية بعضها من بعض، جنحت دول أوروبية متفرقة الى مساومة السياسة السوفياتية. وسعت في مقايضة معاملة "ممتازة" وعلى حدة، من طريق الأحزاب الشيوعية الأوروبية وحركات التحرر الوطنية في المستعمرات السابقة أو من طريق ديبلوماسية طرية، بإعلان نوايا حيادية أو استقلالية.
وكان دأب السياسة السوفياتية التلويح باخراج أوروبا من الصراع السوفياتي - الأميركي والاشتراكي - الرأسمالي، على زعم هذه السياسة، ورد شرق أوروبا المحتل و"المسفيت" الى أوروبا واحدة ومحايدة. ولكن شريطة أن تخرج أوروبا الغربية القوات الأميركية التي حررتها من النازية وتقف حاجزاً بوجه التوسع الروسي والستاليني وتقتصر على المرابطة العسكرية من غير أثر سياسي مباشر في التدبير الداخلي، من أراضيها، وتضعف تحالفها معها. وصادفت هذه السياسة الحاذقة، والعقيمة على المدى الطويل، هوى في قلوب أوروبية كثيرة.
فلم يحلُ لأوروبيين كثر الإقرار باضطلاع الأميركيين، شعباً وجنوداً، بدور حاسم في حمايتهم من الطاعون الأسمر النازي، ثم في صد الطغيان الشيوعي الكلياني الزاحف على "الثغور" الأوروبية القريبة، وفي حفظ الهيئات الدستورية والحريات الأوروبية. فاضطلاع الأميركيين بهذا الدور، محل الأوروبيين، قرينة على انحسار القوة الأوروبية الذاتية، من وجه، وعلى خلل عميق ومدمر في إواليات بلورة أوروبا، مجتمعات ودولاً، لإجابات تكافئ أزماتها التاريخية، من وجه آخر. فتصور الأميركيون، بأعين بعض الأوروبيين، في صورة محدث النعمة وطريفها، نظير الأوروبي المعرق نسباً وخبرة وحكمة، وعلى الضد منه. ولا تكذب العثرات الأروبية في "إدارة" الأزمات الكثيرة، منذ عقود، الأوهام والمزاعم الأوروبية، ولا تدعو الأوروبيين، ولا سيما الفرنسيين، الى التواضع. فشأن الخرافات الامتناع من الاختبار، تحقيقاً أو تكذيباً.
فطي صفحة الحرب الباردة لم يطو صفحة الخلافات الأوروبية الأميركية في مسائل سابقة ومستمرة مثل كوبا والعراق وإيران وفلسطين وإسرائيل وتايوان وكوريا الشمالية، ولا في مسائل متجددة مثل شبكة الدفاع الصاروخي وضبط بعض مفاعيل العولمة. ففي المسائل هذه تميل السياسة الأوروبية - على قدر ما تجمع على نهج أو على قدر ما تستخلص وجهاً غالباً - الى تلقين السياسة الأميركية، وهذه بدورها تتنازعها منازع متقلبة، دروساً في "الاعتدال"، وفي اعتبار رأي الطرف الخصم. وحملت أوروبا رغبتُها في موقف متوازن من المسألة الفلسطينية، والصراع العربي - الاسرائيلي، الى التهوين من شأن "أساليب النضال" الفلسطينية، ورعايتها وتمويلها العربيين، ومسؤوليتها الراجحة، منذ اتفاق أوسلو على أقرب تقدير، عن إصابة السياسة والمفاوضة والتحكيم بالعقم والدوران في حلقة مفرغة ودامية. وتكاد تدخل بعض المواقف الأوروبية التسلح النووي الكوري الشمالي، وتطوير الصين الشيوعية صواريخها البعيدة المدى والمحملة رؤوساً نووية، في باب الاحتياجات الدفاعية "المعقولة".
وتترتب على الحكم في الشبكة الأميركية المضادة للصواريخ - ومسوغها الأميركي هو انتشار السلاح الصاروخي وغير التقليدي في "دول" تتنازع حكمها، والسيطرة على هذا السلاح تالياً، جماعات لا قيد على "غريزة الموت" فيها - بالإدانة، أو بالمبالغة الأمنية، تهمة الاجراءات الديبلوماسية والعسكرية الأميركية، كلاً وجميعاً، حاضراً وماضياً، بالنشوة الامبراطورية. وكأن سائق الخطط والإجراءات الأميركية، منذ الحرب الثانية ربما، هو اصطناع عدو متوهم يضطلع بتسويغ "الامبراطورية" الأميركية، ولا وجود له إلا في دوائر البنتاغون.
ظلال مقلقة
وانساقت بعض السياسات الأوروبية، بعد انقشاع التهديد السوفياتي، الى التضامن مع روسيا على الحليف الأميركي الأطلسي وسياسته الأمنية، وهو ضامن الأمن الأوروبي الى اليوم أو الجزء الأعظم من ضمانه. فندد جاك شيراك، الرئيس الفرنسي، جنباً الى جنب مع فلاديمير بوتين، عميل الاستخبارات السوفياتية "القادم من الصقيع" الى ألمانيا وبطل تطويع الشيشان، بعزم الحليف الأطلسي الخروج من معاهدة حظر الصواريخ المضادة للصواريخ المعقودة في 1972. وجعل شيراك من الإدانة المشتركة، الفرنسية والروسية وكانت روسيا تفاوض حلف الأطلسي على موقفها من عمارته الجديدة الناجمة عن انضمام بلدان شرق أوروبا اليه، على رغم تحفظ روسيا "محوراً" استراتيجياً يجمع البلدين. وتضطلع الولايات المتحدة بإزاء دول شرق أوروبا ووسطها، شأنها في شبه الجزيرة الكورية وجنوب شرق آسيا، بمعظم تبعات الأمن والدفاع العسكرية والمالية والسياسية في شأن المسألة الألمانية. ولا تنهض أوروبا، بعقر دارها، إلا بأقل هذه التبعات. ولا تنهض بشيء منها في المسرحين الآسيويين. ولم تدعها هذه الحال الى التحفظ في الإدانة.
ولا شك في أن تناول العلاقات الأوروبية الأميركية من جهة وضع ألمانيا، على حدة، وفي ضوء "المشكلة الألمانية" وتاريخها الطويل والمزمن، ينبه الى مضاعفات بعيدة، حظها من التجدد طفيف، ولكنها لا تنفك تظلل بظلال مقلقة مجرى الموازنات الأوروبية. ولعل الحرج الذي أصاب سياسيين ومعلقين أوروبيين جراء تواتر الكلام على "محور" ألماني روسي وفرنسي قبيل حرب العراق ثم غداتها، قرينة على الظلال هذه. فالعلاقات الروسية والألمانية "المتميزة"، إذا تولت ألمانيا منفردة الدور الذي يفترض بأوروبا أن تتولاه مجتمعة في إطار تنسيق أطلسي، قد لا تعدم بعث سياسات قوامها تقاسم نفوذ بين قوتين كبيرتين أورثهما تاريخهما وموقعهما من القارة "قصوراً" ديموقراطياً ينطوي، على رغم الفرق الكبير بين الدولتين والمجتمعين منذ نصف قرن الى اليوم، على مخاطر محتملة.
وجرت السياسة الألمانية على موازنة توجهها الى الشرق بتوثيق روابطها بواشنطن. وضَمِن خفوتُ النزعات القومية الألمانية، ولجمُها بلجام احتساب الماضي الوطني وأوزاره الثقيلة والمدمرة، ضمنا الموازنة السياسية هذه. فإذا ضعفت الموازنة جراء طي الناخبين الألمان عاملاً من عوالمها، أصاب طيها الرسم الاستراتيجي الأوروبي بالخلل على حين غرة. ولم يسبق أن حدث مثل هذا في قلب أوراسيا من غير نتائج عامة وآثار في الرسوم الاستراتيجية الأخرى. فإذا تنافست ضفتا الأطلسي على تحليق الأنصار خسرت الرابطة الأطلسية مقوماتها وتصدعت، من غير أن يظهر إطار علاقات وأحلاف يحل محلها، وينوب عنها في حفظ الاستقرار والأمن والرخاء التي حظيت بها الضفتان طوال نيف ونصف قرن.
وقد تكون المنافسة الأوروبية الفرنسية، الألمانية والروسية الأميركية على استمالة دول الأوروبتين، القديمة والجديدة، في أثناء الأزمة العراقية شتاء 2003، من نذر ضعف الرابطة هذه. وتصدر النذر، إذا صحت صفتها، عن تناول مسألة الأمن، وأركانها، على نحوين مختلفين ومتغيرين. فالشكوك الأوروبية، إذا استثنيت بريطانيا أو معظم نخبها، تتطاول الى اشتراك ضفتي الأطلسي في قيم الديموقراطية. فيندد أوروبيون كثر، على ما جهرت تظاهرات شباط فبراير وآذار مارس العام الجاري، بمداومة النظام القضائي على أحكام الإعدام وإنفاذها، وبقصور الرعاية الاجتماعية بأميركا قياساً على الضمان الصحي ونظام التقاعد والقيود على الصرف من العمل في معظم دول أوروبا، والليبرالية "المتوحشة". ويلخصون "أميركا" في هذه السمات، ويردونها إليها. ويحملونها التبعة عن تظاهرات اقتصادية واجتماعية وثقافية تنزل من أطوار العالم المعاصر منزلة الركن والقلب.
والحق أن التحفظ الأوروبي عن الشراكة الديموقراطية يلازم تحفظاً آخر، ليس أقل خطراً ومكانة، يتطاول الى الدولة - الأمة السياسية، ويطعن في إسناد الديبلوماسية والسياسة الدفاعية الى الأمة - الدولة، وفي حملهما عليها. فالتراث الأوروبي عموماً، واختبار النصف الأول من القرن العشرين خصوصاً، حمّلا بروز الأمة - الدولة، وغلبتها على الأشكال السياسية، واحتكارها مكانة الفاعل السياسي، المسؤولية الأولى عن عصف العنف وفشو الحرب في العلاقات الدولية، وفي العلاقات السياسية الأهلية، على حد واحد. وما كان مضمراً ربما غداة الحرب الأولى، وهو وَلَد الثورات التقدمية والمحافظة في روسيا وإيطاليا وألمانيا، بعثته حركات الاحتجاج على السياسات الأميركية في ستينات القرن العشرين وسبعيناته بآسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، وعلى القمع الروسي السوفياتي بشرق أوروبا. وملأت الحركات الاجتماعية السياسات الداخلية الدولة ب"الرعاية" و"العناية" والحقوق الاجتماعية.
وأرست حركات الاحتجاج هذه ثقافة رفض واحتجاج ومؤاخاة نزعت الى إخراج السياسة من الدولة - الأمة والسيادة، والى اطراح القوة ولو على صورة الدفاع عن النفس من السياسة. فعلقت السياسة، أو ما بقي منها، إما في فضاء أخوة إنسانية وصوفية "جمعية" على قول انطونيو نيغري الإيطالي يحول رأس المال الشامل والمتعولم بينها وبين التعين والتحقق في "العالم"، أو علقتها في فضاء الحق والقانون على مثال ألماني يدعو الى "سن القانون وليس شن الحرب" عوض الشعار "الفيتنامي" أي "الوود ستوكي" الأشهر: "افعلوا الحب، لا تذهبوا الى الحرب". وجمعت هذه الحركات قبل أربعة عقود، ومعظم النخب الأوروبية وبعض الأميركية تنتسب الى جيلها، بين السياسة والقوة والمعالجة الاستراتيجية وبين الدولة - الأمة. وعارضت هذه بالأخلاق والحق القانون، ودعت الى طرح مفهوم "السيادة" من مضامير النظر والعمل جميعاً، ونسبت إليه "مروقاً" حتمياً أو "زعرنة" ضرورية على ما ذهب إليه جاك دريدا، الفرنسي.
فما كان مناط السياسة والأحلاف والحرب والسلم، وإطارها اللازم، أي الأمة - الدولة السياسية على خلاف الاجتماعية والتوزيعية، أمسى مثار شكوك وتحفظ وتهمة. وترددت أصداء هذه الثقافة في الصياغات الاستراتيجية نفسها. فحل محل الأحلاف وعللها الاستراتيجية وانقساماتها، وتقلبها بين أطوار الحرب والسلم والمهادنة، مفهوم "الأمن المشترك". فأغفل الرئيس السابق، كلنتون، وهو ابن جيله من هذا الوجه، علة انضمام بولندا والمجر والجمهورية التشيكية الى حلف الأطلسي، حين أحصى في ربيع 1997، في العلل الموجبة، جبه المنازعات الاثنية التي تهدد السلم، وحفظ الديموقراطية، وحل المنازعات بالوسائل السياسية، وضم شطري أوروبا اللذين فرق بينهما ستالين واحدهما الى الآخر، وسكت عن العلة الاستراتيجية و"القومية" وهي أن انضمام الكيانات السياسية والوطنية المتنازعة والصغيرة "البائسة" على قول المجري استيفان بيبو في أمم أوروبا الوسطى، وتمترسها بالحلف، يملأ فراغاً استراتيجياً طالما كان داعياً، طوال القرن العشرين، الى التوسع الألماني والروسي.
إحصاء وطرح
والعلل التي يعدها الرئيس الأميركي تدخل في باب علل الأمن الجماعي، على خلاف العلة التي يسكت عنها. فالأمن الجماعي، على مثال الأمم المتحدة وقبلها عصبة الأمم، "نظام" حقوقي وقانوني طوعي ومحايد. فلا ينص على حدود إقليمية يوجب الدفاع عنها، ولا يفصِّل الوسائل والأواليات التي تلزم عن هذه الغاية. ويترك الأمن الجماعي مصدر التهديد المحتمل غفلاً من غير تعيين، وينيط معالجة التهديد بوقوع الفعل ولا يتوقعه. ويجمع نظام الأمن الجماعي هذا الخصوم والأعداء في إطار واحد ومشترك. ويحول هذا بين هيئة النظام مجلس الأمن وبين تسمية المعتدي، وبينها وبين التصدي للعدوان، وسجل الأمم المتحدة مليء بأمثال هذا.
وعليه، فقبول بولندا والمجر والجمهورية التشيكية في هيئة الأمم المتحدة، لو كان هو الذي حصل في 1997 وكان بيل كلينتون محل كوفي أنان أو قبله بطرس بطرس غالي، لدعا الى التذكير ببنود الأمن الجماعي في كل مكان وزمان: حصر المنازعات الاثنية والحؤول بينها وبين جر الدول "الكبيرة" الى الحرب، ومديح الديموقراطية حاجزاً بين الدول المتحاربة ف"الديموقراطيات لا يحارب بعضها بعضاً"، على خلاف ملاحظة ماكيافيلي "الرومانية"، وتقديم المفاوضة والديبلوماسية على القتال... فما يفترضه الأمن الجماعي من تواضع وإجماع على معايير مشتركة يجعل "نظامه" نافلاً أو أقرب الى النافل. وإذا لم يتحقق الافتراض أبطل ذلك نفاذ أحكامه، وترك الدول الضعيفة، أو الجماعات الضعيفة في الدول والكيانات الكثيرة الجماعات، تحت رحمة القوي وفي قبضته.
وأما الانتساب الى إطارين مختلفين، مرجع واحدهما هو الأمن الجماعي. ومربع الآخر هو حلف عسكري دفاعي، وضمان الأمن الوطني أو القاري بواسطة الثاني، والتوسل بالأول الى ديبلوماسية مسرحية "تكرز" وتعظ، وتحجم حين تقع الواقعة، فهو "سياسة" متناقضة تنذر بمخاطر كثيرة. فأوروبا، على اختلاف مكوناتها، مهددة بتردي عدد سكانها بعد هرمهم، على نحو ما تمثِّل على الأمر إيطاليا" وتحوط أوروبا، جنوباً الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية والبلقان وشرقاً، بلاد لا حيلة لها في تصدير الشطر الغني من سكانها الى غرب أوروبا وشمالها حيث تقبع في "حارات" أهلية قد تنقلب الى بؤر متفجرة" ولا يزال مستقبل روسيا المتردد مصدر اضطراب قد يعم أوروبا إذا تداعت الأبنية السياسية الهشة التي خلفت "الدولة" السوفياتية البوليسية" ويتنازع الناخبين الأوروبيين عموماً نازعان: واحد الى الدعة والحقوق الفردية، من طريق الاقتطاعات والاستثمارات الاجتماعية، وآخر الى المصلحة الوطنية، على معنى يشتمل على المصالح الاتحادية ولكنه يخالفها كذلك، وتكلفتها باهظة، وقد يستحيل الجمع بين النازعين خارج الحلف بين ضفتي الأطلسي، على ما حصل الى اليوم.
صفحة "الغرب"
ويدعو المحافظون الجدد - شأن أنصار المركَّب الويلسوني والجاكسوني والهاميلتوني - الريغاني من غير إغفال "الواقعيين" الأوروبيين، وكيسنجر حامل لوائهم وراء جون كوينسي آدامز "الحياة" في 21 حزيران/ يونيو - الى استخلاص جملة الوقائع المتشابكة هذه الخلاصات الاستراتيجية التي تترتب عليها، ولو أدت الى فصم عرى الرابطة الغربية، أو مفهوم "الغرب" على النحو الذي تخلف عن الحرب الباردة، وطوت صفحة "الغرب" الواحد والموحد في حربه على الشيوعية.
فالمنازع التي تقدم إّحصاؤها ليست، على زعم كبار الموظفين والمستشارين المتحدرين من ناشطي الريغانية، شذرات اتفق اجتماعها في وقت واحد مصادفة، فثمة رابطة قوية تشد المنازع هذه واحدها الى الأخرى، قوامها مسألة السلطان على معنيي الكلمة السياسي، سلطان الدولة، والحربي، أو صدور القوة العسكرية عن سلطان الدولة. ويذهب روبرت كاغان، أحد "دعاة" المحافظة الجديدة، في الأسطر الأولى من كتيبه أو بيانه الموسوم بوسم "في الجنة والسلطان - أميركا وأوروبا في النظام العالمي الجديد" ونقل الى الفرنسية في تصرف: "السلطان والضعف - الولايات المتحدة..."، حال طباعته بأميركا في شباط/ فبراير 2003 - يذهب الى التقابل بين طرفي الرابطة الأطلسية: فأوروبا، على ما يرى، تزمع التخلي عن السلطان، والانصراف عنه الى "عالم مغلق من القوانين والقواعد، ومن المفاوضة والتعاون بين الدول والأمم"، هو "جنة السلم والرخاء النسبي" التي وعد بها "ما بعد التاريخ". وفي الأثناء تبقى الولايات المتحدة "أسيرة التاريخ"، وموكولاً بها إنزال سلطانها في فوضى عالم لا يقيم اعتباراً للقوانين والقواعد الدولية إلا إذا حملته القوة العسكرية، مِلكاً أو إعمالاً، على اعتبارها والاستنان عليها.
والفلسفتان السياسيتان والتاريخيتان هاتان هما عصارة اختبارين طويلين، ودورين اضطلعت بهما كلتا القارتين، كل واحدة على حدة قبل أن يقترن مصيرهما في الحرب "العظمى" الأولى، ثم في الثانية. وآلتا، في العقد المنصرم والأخير من القرن السابق، الى بنيتين مختلفتين للعوامل الفاعلة والمؤثرة في السياسة والاجتماع. وتدعو المقارنة التاريخية السريعة، أو الخاطفة، الى قصر التباين على استبدال الدورين واحدهما بالآخر، وتداولهما.
فأوروبا، اليوم، لا تعدو الأخذ بما كان تأخذ به الولايات المتحدة يوم كانت ضعيفة: فكانت تعوِّل على التجارة والازدهار والتقيد بالقوانين والاتفاقات والمعاهدات، وتظن في الدول الأخرى خيراً، حين كانت أوروبا تعد للحرب عدتها، ولا تأنف من تهديد خصم مراوغ إذا طاول المراوغة والتملص من الالتزامات. وتضافر الفرقُ بين القوتين، والفرق بين "الثقافتين الاستراتيجيتين"، على حفر "هاوية استراتيجية" يلوح كاغان باستحالة الرجوع عنها. ولا يصده عن التلويح ما قد يترتب على اتساع الهوة - الى انبعاث المنازعات الأوروبية وخسارة دول أوروبا عوامل اتحادها وازدهارها ودورها - من تحول الولايات المتحدة الى جزيرة معزولة في ضاحية العالم، على ما يخشى كيسنجر "الأوروبي" على رغم "غرضيته" الجمهورية ويتخوف.
وعلى نحو التواريخ الاسترجاعية عموماً، يميل ناشطو المحافظة الجديدة الى تبكير علامات الأفول الأوروبي وظهورها. فالركون الأوروبي، غداة الحرب الثانية، الى القوة الأميركية، وضمانها أمن أوروبا وحدها بإزاء التحفز والحشد السوفياتيين، رعى "نفسية قدرية". وبعثت هذه الدولَ الأوروبية، من غير إغفال حيازة بريطانيا القنبلة الذرية قبل فرنسا بعقد من السنين، على التعويل على الحليف القادم من وراء البحار والمحيطات، والتخفف من تبعات الدفاع عن النفس. وهذه التبعات مالية واقتصادية وتقنية واجتماعية وثقافية تربوية، وسياسية في نهاية المطاف، في آن.
والحق أن أوروبا، أي غربها في انتظار وسطها وشرقها، لم تضطلع بهذه الأعباء، لا في أثناء العقود الخمسة تقريباً التي تلت وضع الحرب أوزارها، ولا غداة تصدع الكتلة السوفياتية وانهيار الاتحاد السوفياتي. وأسهم دور المسرح الأوروبي البارز في المجابهة الدولية بين القطبين العسكريين والاستراتيجيين، ودوران المجابهة على هذا المسرح أولاً، في الاستمرار على توهم مكانته، الآفلة حقيقة وفعلاً. وعلى مثال قريب، أوهمت أزمات البلقان في العقد العاشر من القرن الماضي بدوام الدور الأوروبي، وثقله في العلاقات الدولية وميزانها. ولكن انشغال دول الاتحاد الأوروبي بإرساء تعاونها، وتنسيقها فيما بينها، ثم تقديمها المشاغل "البيتية" على تحصيل أسباب القوة حين انحسر التهديد السوفياتي، استنفدا الانشغال والتقديم طاقات أوروبية عظيمة. ولم يبق من هذه الطاقات لأجل بناء "السلطان" الأوروبي إلا القليل.
وتم ذلك باختيار مزدوج. فمن وجه أرادت القارة القديمة قياساً على "العالم الجديد" جبه القوة الأميركية بوحدتها، ومكافأتها، سلطاناً، بهذه الوحدة. واستعجلت نشوء قطب مستقل عن القطب الأميركي، وهو لا يزال ضامن أمن أوروبا، يضارعه وينافسه. ومن وجه آخر، قضت أوروبا إذا استثنيت بريطانيا من الاختيارين، في العلاقات الدولية بالغنى عن أسباب السلطان والقوة أو جواز الاستغناء عنها. وينزع هذا الى الجواب بالنفي، لحساب أوروبا، عن سؤال كيسنجر في وسم كتابه عن بلده: هل تحتاج أوروبا الى سياسة خارجية؟ فالجواب هو بالنفي. ولا تحتاج أوروبا الى سياسة خارجية لأن الاقتصاد والتشريع، أو الاقتصاد والقانون ينوبان مناب السياسة الخارجية، ويقومان مقامها. والاختيار المزدوج هذا يطرح السلطان والقوة من التدبير ومن السياسة، ويزن الأمور بميزان الموارد والتوزيع والتعاقد والتعاهد وحده. وهو يفترض عالماً آمناً انقطع من "مخلفات" العدوان وطبائعه. ولم تحمل أزمات البلقان المتعاقبة والمتناسلة، على رغم انفجارها في خاصرة أوروبا الجنوبية، ولا حمل دخول روسيا وشعوبها وأقوامها ودول جوارها القريب دائرة اضطرابات متناسلة تتهدد بالعدوى بلداناً لصيقة بأوروبا تركيا وحوض البحر الأسود وتنذر بالتعطيل مصالح غربية حيوية في أوكرانيا وأذربيجان وقوس آسيا الوسطى وصولاً الى باكستان، بحسب إحصاء بريجنسكي - لم تحمل هذه الأزمات التي سبقت 11 أيلول سبتمبر 2001 دول الاتحاد الأوروبي على النظر في تعويلها على وحدتها مكافئاً للقوة الأميركية ونداً لها، وضماناً لدور استراتيجي مستقل ومنافس، وبديلاً عن سياسة خارجية "تقليدية" لا تنتسب الى "ما بعد التاريخ" وجنته.
فأحجمت الدول الأوروبية عن تطوير آلات حربها. وقصرت في مضامير الذخائرالموجهة والدقيقة، والقصف المنسق من مصادر متفرقة ومتباعدة، والاتصالات، والرصد البعيد، ونقل الرجال والعتاد الى مسارح بعيدة. فالدور الدفاعي التي ارتضته دول أوروبا في عقود الحرب الباردة اقتصر على صد الهجوم البري السوفياتي المتوقع على الأرض الأوروبية، ولم يتخطه الى تعطيل جهاز الحرب الضخم الذي لم يفتأ "المركز" الروسي يلوح به ويبنيه لبنة لبنة. واقتفى الدفاع الأوروبي، تجهيزاً وتخطيطاً و"رغبة"، على رسم المهمة التي ارتضاها، وقنع بها. وعوامل الرضا والقناعة تتصل، على ما مرّ، بالوجهة التي توجهها التاريخ الأوروبي عموماً، وأضعفت مكانة الدولة - الأمة، والقيم الجمعية وأولها القيم الدينية، والروابط والأواصر التقليدية والموروثة - وهي ما يلابس "التاريخ" المجبول بالمنازعات -، وأعلت شأن "القبائل" الطوعية، والقيم الفردية على خلاف القيم الدينية، والروابط التلقائية والإرادية.
فانخفضت موازنات الدفاع في الدول الأوروبية الى أقل من 2 في المئة من الناتج الإجمالي، على حين لم تقل الموازنة الأميركية عن 3 في المئة، بعد أن زادت عن 4 ثم عادت الى الزيادة مع انتخاب بوش الابن. وقنعت القوات الأطلسية غير الأميركية من حربي البوسنة وكوسوفو بواحد في المئة من الأهداف المختارة، وأقل من 8 في المئة من الطائرات، وأقل من 7 في المئة من الذخيرة. وأصر الأوروبيون، في حملة كوسوفو، على ألا يتجاوز القصف مستوى من العنف احتسبه الأميركيون غير واضح الدلالة، وهذا ما دعا القيادة الأميركية الى الاستغناء عن المساندة الأوروبية في حملة أفغانستان، أواخر 2001. وفي الأثناء احتاج الأوروبيون الي ما حسبوه "عوائد السلام"، وهو فائض الانفاق العسكري، ليسدوا به عجز موازنات الرعاية الاجتماعية، ويحافظوا على مثال "اقتصاد السوق الاجتماعي"، على ما يسمي الألمان عمارتهم الاقتصادية والاجتماعية.
وعادت نفقات توحيد ألمانيا على ألمانيا أولاً، وعلى أوروبا ثانياً، بتكلفة لم تنهض بها اقتصادات أوروبا الى اليوم. ونجمت عنها بطالة عالية، ومنافسة متردية، ونقص في الاقتطاعات والاستثمارات. ولا ريب في أن ما نجم عن جملة الأحوال الأوروبية، كذلك، هو تقدير مختلف للمخاطر، وذلك تبعاً للقدرة على الرد عليها ومعالجتها. ومرآة اختلاف التقدير سلما الأولويات الأوروبي والأميركي للمخاطر ومصادر التهديد. فما يتصور في صورة التهديد نظام الدفاع ضد الصواريخ، شبكة الصواريخ القارية، الحرب على عراق صدام حسين... في عين أميركية، وينبغي رد الجواب عليه، تكاد العين الأوروبية لا تراه، وتقدم عليه مسائل مثل التلوث والبيئة والمؤتمرات الإقليمية المتفرقة.
وبعض التبعة عن هذه الحال يقع على عاتق السياسة الأميركية. فهي حملت الأوروبيين على الظن أن السلطان ليس الحل. ورضيت طوال نيف ونصف القرن أن تتحمل من المشكلات الشطر الذي يعود حله الى السلطان المسألة الألمانية، الوحدة الأوروبية، الحرية الأوروبية، المنازعات في البلقان.... وهذا ما يود الأوروبيون نسيانه، ويودون لو أنه لم يكن.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.