Vincent Baudrant. les Elements Cles de la Mondialisation. مفاتيح العولمة Studyrama, Paris. 2002. 210 pages. كل كلام عن العولمة لا بد ان يبدأ بمصدر اشتقاقها. فهذا المفهوم، الذي لم يكن له وجود في المعاجم حتى مطلع التسعينات من القرن العشرين المنصرم، ما زال مشتتاً بين مفردتين: العولمة Mondialisation بحسب التعبير الذي كتبت له الغلبة في الفرنسية وفي العديد من اللغات الأوروبية اللاتينية الأصل. والكوكبة Globalisation بحسب التعبير الذي درج من البداية في العالم الاميركي والأنغلو - ساكسوني. وعلى رغم بعض التردد الذي رافق ولادة المفهوم في الثقافة العربية المعاصرة، انتصرت في نهاية المطاف ترجمته بالعولمة، على ما في هذه الترجمة من جرأة اشتقاقية. فالعولمة قد تقبل التعريف بأنها نزوع العالم المعاصر الى ان يصير واحداً، وهذا ليس فقط من وجهة نظر اقتصادية كما يغلب الاعتقاد، بل كذلك اعلامياً وثقافياً، وحتى قانونياً. ومثل هذا التعريف للعولمة، حتى وان يكن مرفوضاً من قبل من يؤبلسونها من خصومها، يتمتع بميزة أساسية: فهو يجعل من مفهوم "العالم" بالذات المدخل المنطقي والتاريخي الذي لا غنى عنه لفهم هذه الظاهرة الجديدة التي لا تزال - كأشعار المتنبي - شاغلة الناس ومالئة دنيا الايديولوجيين الجدد. وبالفعل، ان مفهوم "العالم" نفسه ليس معطى طبيعياً، بل هو مفهوم تاريخي وحديث الولادة نسبياً. فالعالم لم يصر هو العالم فعلاً الا مع الكشوف الجغرافية الكبرى في مفصل القرنين الخامس عشر والسادي عشر. فالفتوحات البحرية للملاحين الاسبانين والبرتغاليين هي التي أطلقت سيرورة عولمة العالم: فمن جهة أولى استكلمت رسم صورة الأرض بإضافتها الى القارات الثلاث للعالم القديم قارتي العالم الجديد، ومن جهة ثانية أقامت الدليل المادي على دائرية الأرض، وبالتالي على تناهيها وترابطها. فقبل تلك الفتوحات كان عالم البشر شتاتاً من الممالك والدول والدساكر الضائعة، وجزراً من الحضارات والثقافات والهمجيات المنعزلة بعضها عن بعض. لكن مع اكشاف محدودية الأرض والطبيعة الدائرية لترابطها، أمكن لوعي جديد في التاريخ ان يرى النور: الوعي بوجود مستوى اضافي وجديد للانتماء هو المستوى العالمي العابر لاختلافات البشر الدينية والقومية واللغوية. وليس من قبيل الصدفة ان يكون مفهوم "الانسان" نفسه قد رأى النور في تلك الحقبة المفصلية. فكما تعولم العالم، كان لا بد ايضاً ان يتعولم مُواطن هذا العالم الذي هو الانسان بألف ولام التعريف. وعلى هذا النحو فقد اكتشف مستوى جديداً وأعلى لانتمائه هو المستوى الانساني الكوني العابر هو الآخر لخصوصيات البشر وانتماءاتهم الجزئية. ومن هنا كان مولد المذهب الانساني الذي تحكم - ولا يزال - بكل مسار الحداثة، وصولاً الى أحدث مراحلها: العولمة. ولسنا بحاجة هنا الى التوقف مطولاً عند جميع مقدمات العولمة، مثل الثورة الصناعية التي عممت على مستوى العالم أجمع نمط الانتاج الرأسمالي، وحركة الاستعمار التي عممت بدورها النمط الحضاري الأوروبي سواء عن طريق المثاقفة أو عن طريق المقاومة، والحرب العالمية الثانية التي اتخذت بالفعل من العالم كله مسرحاً لها، والثورة الديموغرافية التي ضاعفت تعداد البشرية في نصف القرن الممتد بين 1950 و2000 من بليونين ونصف البليون الى ستة بلايين من البشر وتسببت في نمو خارق للمألوف للطلب العالمي على السلع والخدمات، وأخيراً ثورة المواصلات والاتصالات التي ضغطت المسافتين المكانية والزمانية وأتاحت، مع تكنولوجيا الأقمار الاصطناعية والألياف البلورية البحرية، لكل العالم ان يكون حاضراً في كل العالم في الزمن الفعلي. بيد ان دفوقات العولمة، بحصر معنى الكلمة، كانت دفوقات اقتصادية في المقام الأول، وكان عاملها الأول الشركات المتعددة الجنسية التي تضاعف عددها من نحو 7 آلاف شركة في أواخر الستينات الى 54 ألف شركة رئيسية و450 ألف شركة فرعية في ختام القرن العشرين. وفي الوقت الذي تضاعف فيه حجم التجارة العالمية بأكثر من عشرة أضعاف، خلال حقبة الثلاثين عاماً هذه، فإن الشركات المتعددة الجنسية باتت تسيطر على نصف المبادلات التجارية العالمية، وتتحكم بنسبة 90 في المئة من تجارة القمح والحديد والخشب، و75 في المئة من تجارة النفط، فضلاً عن هيمنتها شبه التامة على صناعة الالكترونيات والسيارات والسلع المعمرة. وترتبط بنشاط الشركات المتعددة الجنسية ظاهرة التوظيفات الاجنبية في الخارج. فحجم هذه التوظيفات سجل نمواً خارقاً في السنوات العشرين الأخيرة، اذ ارتفع من نحو 50 بليون دولار في 1983 الى 200 بليون دولار في 1989، الى 830 بليون دولار في 1999، الى 1200 بليون في 2002. وتصاعد مد هذه التوظيفات المباشرة في الخارج فكك - أو كاد - المفهوم التقليدي عن السوق القومية. فجميع التدابير الحمائية التي كانت تتخذها الدول المتقدمة صناعياً باتت عديمة المفعول منذ ان صارت هذه الدول تستورد قسماً متعاظماً من وارداتها المصنوعة من نتاج الفروع الاجنبية لشركاتها القومية. فأية تدابير حمائية ضد الخارج من شأنها ان تنعكس سلباً على نشاط الشركات الأمهات في الداخل، لا سيما ان دول المثلث الأميركي - الأوروبي - الياباني الأكثر تصنيعاً في العالم هي التي تتحكم بنحو 90 في المئة من المخزون العالمي من التوظيفات الاجنبية في الخارج الذي يزيد اجمالي حجمه اليوم على 5 آلاف بليون دولار. وبموازاة حركة عولمة الرساميل هذه، فإن سوق الصيرفة المعولمة لا تني تضرب رقماً قياسياً تلو الآخر. فقد تضاعف حجم المبادلات في سوق العملات ثمانية أضعاف منذ 1985 ليبلغ 2000 بليون دولار في اليوم الواحد في عام 1999. وطبقاً لآخر تقرير متاح لبنك التسويات الدولية، فإن الحجم اليومي للمبادلات المالية يصل الى مئة ضعف الحجم السنوي للتجارة العالمية في 1998. على ان ظاهرة العولمة لا تقتصر على الدفوقات الاقتصادية والمالية، بل تتجلى ايضاً في الدفوقات البشرية. فعلى رغم التدابير الحمائية التي لا تزال سارية المفعول في المجال البشري، بلغ عدد الذين هجروا أوطانهم الأصلية ليقيموا في أوطان بديلة 50 مليون نسمة خلال الفترة الممتدة من 1950 الى 1990. ولئن تكن هجرة الأفراد تتحكم بها بالإجمال أسباب اقتصادية، فقد تدخلت في ظاهرة الهجرة العالمية خلال السنوات الأخيرة العوامل السياسية. فعدد اللاجئين، أي المهاجرين لأسباب سياسية قد ارتفع، طبقاً لتقديرات المفوضية العليا للاجئين، من 2.4 مليون نسمة عام 1975 الى 5.7 مليون نسمة في 1980 ليبلغ اكثر من 18 مليون فرد في 1995. ولئن يكن الاتجاه التقليدي للهجرة هو من بلدان الجنوب المتخلفة الى بلدان الشمال المتقدمة التي استقبلت في نصف القرن الماضي 40 مليون مهاجر، فإن اتجاهاً جديداً للهجرة من الجنوب الى الجنوب فرض نفسه ابتداء من مطلع السبعينات، طرداً مع الاغتناء المتسارع للدول المصدرة للنفط. ففي البلدان العربية وحدها ارتفع عدد العمال المهاجرين الى الدول المصدرة للنفط من 1.7 مليون فرد عام 1975 الى اكثر من 7 ملايين فرد في نهاية التسعينات. وبالإجمال، فإن تعداد المهاجرين في العالم يقدر، في مطلع القرن الحادي والعشرين هذا، بنحو 150 مليون نسمة، أي ما يعادل 2 في المئة من سكان العالم. والى هؤلاء ينبغي ان يضاف المهاجرون الموقتون الذين هم السياح الذين شهدت دفوقاتهم ارتفاعاً منقطع النظير في العقود الأخيرة: من 25 مليون سائح عام 1950 الى 69 مليون سائح عام 1960 الى 176 مليوناً عام 1970 الى 443 مليوناً عام 1990 الى 657 مليوناً عام 1999، أي ان العدد تضاعف بمقدار 26 مرة خلال نصف القرن. وطبقاً لتقديرات المنظمة العالمية للسياحة، فإن إجمالي تعداد السياح الاجانب يقدر له ان يرتفع الى 1.2 بليون عام 2010، والى 1.6 بليون عام 2020. وقد شهدت حركة عولمة السياحة هذه انعكاساً في الاتجاه في السنوات الأخيرة. فبعد ان كان الجنوب لا يستأثر إلا بسدس التعداد العالمي الاجمالي للسياح في السبعينات، بات يستأثر بنسبة الثلث في نهاية التسعينات. وبعد ان كانت الولايات المتحجدة وأوروبا الغربية هي المستقطبة الأولى، فإن اتجاه السياحة تحول نحو آسيا الشرقية في السنوات الأخيرة، لا سيما الى الصين التي قدر لها ان تتبوأ المركز السياحي الأول في العالم في عام 2020. يبقى ان نقول ان هذا التسارع المذهل في ايقاع السياحة في عصر العولمة يحمل معه دلالة مزدوجة: فالعولمة، التي تنزع الى توحيد العالم، تعولم ايضاً اختلافاته. فالسياحة قابلة للتعريف بأنها حركة كونية لاكتشاف الخصوصية. والعولمة تتيح للبشرية الفرصة النادرة التالية: ان تكون معملاً كبيراً لانتاج الوحدة، ومعملاً كبيراً ايضاً لانتاج التنوع.