نائب أمير الرياض يرفع التهنئة للقيادة الرشيدة بمناسبة إنجازات مستهدفات رؤية المملكة 2030    أمين الرياض يحضر حفل السفارة الأميركية    تحول تاريخي    87 % من رؤية 2030 مكتملة    الأخضر تحت 23 عاماً يواجه أوزبكستان في ربع نهائي كأس آسيا    "أوبرا زرقاء اليمامة" تبدأ عروضها بحضور عالمي    الهمس الشاعري وتلمس المكنونات    تشجيع الصين لتكون الراعي لمفاوضات العرب وإسرائيل    خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»    فلسطين دولة مستقلة    محمية الإمام تركي تعلن تفريخ 3 من صغار النعام ذو الرقبة الحمراء في شمال المملكة    الفيحاء يتجاوز الطائي بهدف في دوري روشن    الكشف عن مدة غياب سالم الدوسري    أرامكو السعودية و«الفيفا» يعلنان شراكة عالمية    ريال مدريد في مواجهة صعبة أمام سوسيداد    العين يكشف النصر والهلال!    الدوري نصراوي    اختتام فعاليات منتدى المحميات الطبيعية في المملكة العربية السعودية «حمى»    أمير جازان يُدشّن مهرجان المانجو والفواكه الاستوائية ال20 بمحافظة صبيا    تفكيك السياسة الغربية    القيم خط أحمر    لو ما فيه إسرائيل    نائب أمير الشرقية يستقبل نائب رئيس جمعية «قبس»    مقال «مقري عليه» !    الهجوم على رفح يلوح في الأفق    مانشستر سيتي يضرب برايتون برباعية نظيفة    النواب اللبناني يمدد ولاية المجالس البلدية والاختيارية    أمير القصيم يثمن دعم القيادة للمشروعات التنموية    حزمة الإنفاق لأوكرانيا تشكل أهمية لمصالح الأمن الأمريكي    وزير الدفاع يرعى حفل تخريج الدفعة ال82 من طلبة كلية الملك عبدالعزيز الحربية    رئيس الشورى يرأس وفد المملكة في مؤتمر البرلمان العربي    سلمان بن سلطان يرأس لجنة الحج والزيارة بالمدينة    إطلاق برنامج تدريبي لطلبة تعليم الطائف في الاختبار التحصيلي    جائزة الامير فهد بن سلطان للتفوق العلمي والتميز تواصل استقبال المشاركات    مريض سرطان يؤجل «الكيماوي» لاستلام درع تخرجه من أمير الشرقية    "سلطان الطبية" تنفذ دورة لتدريب الجراحين الناشئين على أساسيات الجراحة    "ذكاء اصطناعي" يرفع دقة الفيديو 8 أضعاف    مستشفى ظهران الجنوب يُنفّذ فعالية "التوعية بالقولون العصبي"    «رؤية 2030»: انخفاض بطالة السعوديين إلى 7.7%.. و457 مليار ريال إيرادات حكومية غير نفطية في 2023    كاوست ونيوم تكشفان عن أكبر مشروع لإحياء الشعاب المرجانية في العالم    استمرار هطول أمطار رعدية مصحوبة برياح نشطة على المملكة    أمير عسير يعزي الشيخ ابن قحيصان في وفاة والدته    تراجع النشاط الأمريكي يدفع النفط للانخفاض    تسليم الفائزات بجائزة الأميرة نورة للتميُّز النسائي    أدوات الفكر في القرآن    «النقد الدولي» يدشن مكتبه الإقليمي في السعودية    إنشاء مركز لحماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا    اللي فاهمين الشُّهرة غلط !    النفع الصوري    إجراء أول عملية استبدال ركبة عبر «اليوم الواحد»    «سدايا» تطور مهارات قيادات 8 جهات حكومية    تحت رعاية الأمير عبد العزيز بن سعود.. قوات أمن المنشآت تحتفي بتخريج 1370 مجنداً    تجهيز السعوديين للجنائز «مجاناً» يعجب معتمري دول العالم    أسرة البخيتان تحتفل بزواج مهدي    انطلاق "التوجيه المهني" للخريجين والخريجات بالطائف    "أم التنانين" يزور نظامنا الشمسي    بعضها يربك نتائج تحاليل الدم.. مختصون يحذرون من التناول العشوائي للمكملات والفيتامينات    تجاهلت عضة كلب فماتت بعد شهرين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ازمة شاطئ العاج تشارف اللبننة ... وتمزج العصبيات الداخلية بالمطامع الخارجية والإقليمية . السياسة الفرنسية "الكولونيالية" تنقذ دول غرب افريقيا من حدي الإبادة والنزف المزمن
نشر في الحياة يوم 22 - 01 - 2003

بعد زيارتين قام بهما وزير الخارجية الفرنسي، دومينيك دوفيلبان، الى ابيدجان، عاصمة شاطئ العاج الاقتصادية، نجح الوزير في جمع "مؤتمر" يمثل القوى السياسية العاجية المتقاتلة، على اختلافها وتنازعها. ويتولى 32 مؤتمِراً انتدبتهم سبع منظمات سياسية 4 و"عسكرية" 3، منذ 15 كانون الثاني يناير الجاري الى 24 منه مساء، مناقشة جدول اعمال تلخص بنوده خلافات العاجيين المتفاقمة منذ عشرة اعوام، على أقرب تقدير. وتتصدر جدول الأعمال هذا مسائل تعريف الهوية العاجية، وسن قانون للملكية العقارية الريفية، وحسم شروط الترشح الى الانتخابات الرئاسية.
ويترتب على تعريف الهوية العاجية البت في "وطنية" نحو 26 في المئة، يعدون 5،3 ملايين من سكان شاطئ العاج وأهله، هم من "المقيمين" منذ اكثر من جيل في احيان كثيرة والمهاجرين الى المناطق الشمالية من بوركينا - فاسو التي كانت تعرف بفولتا العليا. ومعظم هؤلاء هم من المسلمين، ومن قوم مالينكي - ديولا، وغورو، على حين ان الجنوب، شأن نظيره السوداني، معظمه مسيحي وإحيائي اي يتدين بدين الأرواح الحية. وينزل المقيمون والمهاجرون منزلة ثانية ومتأخرة عن منزلة العاجيين الأصليين، وهم من قومي بيتيه وباوليه - آكان. ولا تلحظ لوائح القيد الانتخابية ولا لوائح قيد النفوس، معظم هؤلاء.
وينبغي ان يحسم قانون الملكية العقارية الريفية المنازعة على المزارع التي استصلحها المهاجرون، وأورثوها اولادهم، منذ ان قدموا الجنوب، في اربعينات القرن العشرين، وجعلوا اراضيه المتروكة ارض الكاكاو الأولى، برضى المحليين وقبولهم وفي الأثناء "صعد" هؤلاء الى وظائف ابيدجان القليلة، وإلى اعمال المدينة التي عادت عليهم بالمال السائل والنقدي النادر يومها.
وأما قانون الانتخابات الرئاسية فهو العقدة، والسبب المزمن والمباشر في اضطراب الأحوال العاجية. فاشتراط عاجية المرشح الى الرئاسة منذ جيلين ابعد من الرئاسة الحسن وترة أو وطارا، أو أُووَتارا، الشمالي المسلم، وآخر رئيس الحكومة في عهد فيليكس هوفويت - بوانيي 1960- 1993، "أبي" الاستقلال العاجي والدولة والحزب الواحد وصاحب سياسة الإبقاء على علاقات ود وتعاون مع المستعمر السابق. والحسن وترة هذا كان حاكماً على مصرف دول افريقيا الغربية "الفرنسية" المركزي. و"اقترحه" صندوق النقد الدولي، في 1990، وهو كان مندوب فولتا العليا في إدارته، إبان ازمة شاطئ العاج الاقتصادية، رئيساً للحكومة. فرضي هوفويت - بوانيي به، ووالاه من غير عسر قادة الحزب الواحد الحاكم. فلما اراد خلافة الرئيس الاستقلالي الأول، غداة وفاته، ثم في 1995، حين تجديد الولاية الرئاسية، وفي انتخابات تشرين الأول اكتوبر 2000 الأخيرة، أبطل ترشحه وألغي. وتعلل المبطلون بجرح عاجيته، وحداثة عهده بها، للطعن فيها واستبعاده.
"ظهور" الحركات و"الدول"
وصوغ جدول الأعمال هذا بمسائله الشائكة، ليس إنجازاً ديبلوماسياً. فهذه المسائل متداولة ومعروفة وحاضرة في اذهان العاجيين وجيرانهم، من بلدان خليج غينيا غانا وغينيا ونيجيريا وليبيريا وبنين وبلدان الساحل الداخلية بوركينا فاسو ومالي وسيراليون ونيجر. وهي الى اسباب اخرى لا تقل عنه خطورة مثل الأزمة الاقتصادية المتطاولة منذ 17 عاماً - العوامل البعيدة في الأزمة المتفجرة منذ 19 أيلول سبتمبر 2002. ففي 19 هذا، شَغَب عسكرٌ مسرحون وجنود تأخر سداد رواتبهم، على ما كان يحصل في الحوليات العثمانية والمملوكية قبلها. وتحول شغبهم، وسقوط العشرات من القتلى في تبادل النار وجراء الاغتيالات وأعمال الخطف بأبيدجان وبعض مدن الداخل، الى محاولة انقلاب.
فقتل وزيرا الدفاع الجنرال غي، من قوم دان في الغرب "الأقصى" والداخلية بوغا دودو، في بيتيهما، ومع بعض اسرتيهما. ويرجح ان تكون جماعات وعصابات من الجنود، السابقين والحاليين، تولت اغتيال الرجلين. والحق ان القوات المسلحة العاجية كلها، وتعد ثمانية عشر ألف رجل، انحلت الى جماعات وعصابات، وتحلقت حول "قيادات" طارئة تربطها بأقطاب السلطة، وببعض اقطاب المعارضة، علاقات مختلفة.
وتقوم بعض الجماعات والعصابات بأعمال القتل والتصفية والخطف والاحتجاز والسرقة التي تنسبها الى "ألوية الموت". ولعل المظهر الأوضح لانحلال القوات المسلحة الى عصابات تسرح وتمرح تحت لواء "الوطنية" العاجية نظير عصابات شمالية وغربية هو لجوء الرئيس لوران غباغبو الى نحو مئتي مرتزق، من البلقان وأوكرانيا وجنوب افريقيا، يقودون مروحياتهم "السوفياتية" م اي -24، ويقصفون من الجو صفوف المسلحين وحواجزهم، ويقاتلون محل الجنود النظاميين.
فلم يكد المتمردون بأبيدجان يخرجون الى الطرق والشوارع، وتقع المواجهات الدامية والاغتيالات، وتظهر المقابر الجماعية في ضواحي المدينة الكبيرة، حتى برزت المنظمات المسلحة. وكان اولها الحركة الوطنية في شاطئ العاج. وعلى رأسها عرفاء ورقباء شماليون سابقون، سرحوا من القوات المسلحة، ولجأوا الى بوركينا - فاسو. فأقاموا في بلدات قريبة من حدودها مع شاطئ العاج. وكانوا يتنقلون بين ملاجئهم وبين بلدات الشمال العاجي ومدنه في سيارات دفع رباعي، على قول شاهد صحافي، ويوزعون سلاحاً مصدره الرئيس البوركيناوي بليز كومباوري، وضباط جيشه.
ويقيم في الشمال العاجي نحو مليوني بوركيناوي من المليونين ونصف المليون الذين تعدهم "الجالية" الكبيرة وهي الشطر الأعظم من الثلاثة ملايين ونصف المليون الذين يعدهم "المقيمون" المهاجرون من بلدان الساحل التي تحوط المرفأ العاجي المزدهر "على البحر"، على ما كان كمال جنبلاط يقول في لبنان. وتولت سلطات بوركينا - فاسو اجلاء بعض رعاياها من شاطئ العاج، حال انتشار الاضطرابات، في عملية سميت "عملية باييري". وعندما هاجم متظاهرون بأبيدجان ديبلوماسيين بوركيناويين كاد ضباط جيش البلد الجار و"الشقيق" ينقلبون على رئيسهم، آخذين عليه رخاوته ومهادنته في معالجة اضطهاد مواطنيهم وظلمهم.
وتواقت ظهور الحركة من اجل العدالة والسلم، وهي حركة "غربية" مع ظهور الحركة الوطنية. وآذن استيلاؤها على مدينة مان، عاصمة الغرب المحاذي غينيا الى الشمال وليبيريا الى الجنوب، غداة مقتل الجنرال غي ابرز ابنائها وممثلي قومها الدان بأبيدجان، آذن بولادتها. وتنافس الحركة الشعبية العاجية في الغرب الكبير الحركة الغربية الأولى من اجل العدالة والسلم. وهي سوغت ولادتها، في تشرين الثاني نوفمبر، اي غداة شهرين على انفجار الأزمة الأهلية، بالثأر للجنرال غي، وتعزو اغتياله الى الرئيس غباغبو. وتربطها بليبيريا المجاورة التي يحكمها منذ عشرة اعوام "سيد" الحرب الأهلية تشارلز تايلور، روابط اهلية وعسكرية. وتدعو، شأن الحركتين الأخريين، الى خلع لوران غباغبو، وبت "الإصلاحات" المعروفة، والتعديلات الدستورية، من غير الإلماح الى إجراء انتخابات، أو الى أحكام المرحلة الانتقالية.
ولم تمض ايام قليلة على اضطرابات ابيدجان، والإعلان السريع عن الحركتين الأولين ونشأت بعدهما مباشرة منظمات مسلحة صغيرة كثيرة، حتى كان شاطئ العاج انقسم ثلاث "دول" "قومية"، او "أقوامية، وإقليمية: الأولى هي النواة الجنوبية، بين الواجهة البحرية ومرفأيها ابيدجان وسان بيدرو وبين يامو سوكرو العاصمة الإدارية ومسقط رأس هوفويت بوانيين ودالوا ودويكوي، في وسط البلاد، وفيها ما يسمى "عقدة الكاكاو"، نتاج البلاد الأول وثلث نتاج العالم، ويسيطر عليها غباغبو، الرئيس "المعترف به دولياً" على قول الديبلوماسية الفرنسية بعد ان كان "الرئيس الشرعي"، والثانية "دولة" الشمال الفسيحة، وبلاد الديولا، وتسيطر عليها الحركة الوطنية العاجية، والثالثة "دولة" الغرب، وبلاد الدان.
طريق الكاكاو
ووقعت معظم الأعمال العسكرية في الأسابيع الأولى من الانفجار الأهلي، على طول خط يقسم شاطئ العاج من الشرق الى الغرب، ويمر بياموسوكرو قريباً من الشرق وبدويكوي، الى الغرب، وينعطف شمالاً ليحاذي "عقدة الكاكاو" ويضمها. ولكن الأعمال العسكرية لم تتجاوز المناوشات، وأعمال الخطف والقتل والتهجير. ولم تلبث القوات العسكرية الفرنسية، ويرابط نحو 600 منها في شاطئ العاج على الدوام، ان تولت حماية خط وقف النار، بعد ثلاثة اسابيع على اندلاع "القتال". فرفعت عديدها الى 1600، ثم الى 2500 في اواخر كانون الأول ديسمبر، ورابطت على طول الحدود الأقوامية والإقليمية والاقتصادية. وحالت بين المتقاتلين الجنوبيين "الشرعيين" والشماليين والغربيين، وبين تخطي الحدود هذه، والقيام بما يستتبع التخطي من اعمال ترويع وتهجير وقتل كان عثور الجنود الفرنسيين على مقبرة جماعية، في قرية مونوكو- زوهي في الوسط الغربي، في اوائل كانون الأول المنصرم، من القرائن عليها.
وفي النصف الأول من كانون الثاني الجاري، اي قبيل عقد مؤتمر الأحزاب والمنظمات العاجية بضاحية باريس وعشية زيارة وزير الخارجية الفرنسي وغداتها جرت الزيارة في 3 و4 كانون الثاني، انفجرت اعمال عسكرية وقع معظمها في جوار بويكوي، عقدة طرق "الدول" الأهلية الثلاث. وأظهرت الاشتباكات المتعاقبة، في 1/1 و6 و9، بِنِكا ودويكوي، على الطريق من دويكوي الى مرفأ سان بيدرو، ومعظم الكاكاو العاجي يحمّل منه، على عزم المنظمات المسلحة "الغربية"، ومن ورائها المسلحون الليبيريون المرتزقة والأهليون، على السطو على طريق الكاكاو.
وفي الأول من كانو ن الثاني، ثم في التاسع منه، شنت القوات "الحكومية"، بواسطة المروحيات، غارتين على بويكي، الى الشمال من خط وقف النار، وعلى غرابو، على الحدود العاجية والليبيرية القريبة من مرفأ سان بيدرو، لصد تقدم الحركة "الشمالية" والحركة "الغربية". ولما حاول حلف الحركة الشمالية وإحدى الحركتين الغربيتين، في 6 كانون الثاني، فتح قفل دويكوي الاستراتيجي، ومنه يسع المعارضة الأهلية المسلحة الاستيلاء على الواجهة البحرية، غداة زيارة دوفيلبان الثانية، ردت القوات الفرنسية المرابطة فقتلت نحو ثلاثين مقاتلاً.
وآذن ذلك بموقف فرنسي، ديبلوماسي وعسكري، حازم وواضح. فمن وجه اول، جهرت السياسة الفرنسية عزمها على تجميد الأعمال "العسكرية" الأهلية، والحؤول بين المتقاتلين وبين المضي على التهجير والتنكيل والقتل، وردع آمال المتقاتلين، وفيهم السلطة "المعترف بها دولياً"، في إحراز نصر عسكري "وتحرير" شاطئ العاج. ولا شك في ان السياسة الفرنسية، في الأثناء، تحمي 25 ألف فرنسي يقيمون في البلد، ويعملون فيه، ويستثمرون ما قيمته الإجمالية فوق بليوني يورو، وتحمي مصالحهم. ومن وجه ثانٍ، باشرت السياسة الفرنسية فتح "حيز سياسي" على قول دوفيلبان، حملت المتنازعين على الدخول فيه.
ولا شك في ان السياسة الفرنسية، في آن، إنما تحامي عن تماسك بلدان غرب افريقيا وخليج غينيا والساحل. وهي بلدان ضعيفة المُسكة الأهلية والأقوامية والسياسية، وبعضها نهب لحروب اهلية مزمنة. والخط الفاصل بين الشمال، وكثرة سكانه من المسلمين، وبين الجنوب، وكثرة سكانه من المسيحيين والأحيائيين، على ما مر، إنما هو خط افريقي يجتاز القارة من غربها الى شرقها و"قرنها"، ويمر بغانا وبينين ونيجيريا...ولم تعد فرنسا اكبر حملة عسكرية تعدّها منذ عقدين، ولم تعقد العزم عليها، إلا غداة مسعيين افريقيين، احدهما قمة في توغو، أثمرا دعوة فرنسا الى التدخل السريع، وإنشاء قوة فصل افريقية من 1400 رجل لم تصل إلا طلائعها، ومساندة ديبلوماسية لدى المتقاتلين، ومباركة ما قد تنجم عنه مفاوضات المؤتمرين في 25 و26 الشهر الجاري.
والأرجح ان بديل التدخل الفرنسي حرب ابادة اهلية، على شاكلة رواندا في 1994 التي خلفت حرب قومي الهوتو والتوتسي فيها نحو 600 ألف ضحية معظمهم من التوتسي، أو لبننةٌ دابة وطويلة تفاقم منازعات الأقوام، وفرزهم، وثاراتهم، وتدخّل بلدان الجوار في شؤونهم. وفي كلا الحالين لا تأمن بلدان الجوار القريبة، مثل بوركينا - فاسو وغانا وليبيريا وسيراليون وغينيا، والبعيدة مثل نيجيريا شرقاً والسنغال غرباً، انتقال عدوى الحزازات الأهلية، الأقوامية والدينية، إليها. وبعضها إما تعصف فيه حرب اهلية مزمنة، وتمزقه منازعات طائفية حادة ونيجيريا سددت ثمن مقال صحافي في انتخابات ملكة جمال العالم نحو مئتي قتيل، او تتربص به مثل هذه الحروب والمنازعات.
فالجوار الافريقي كله، من القرن الإفريقي الى البحيرات الكبرى، وفي وسطها الكونغو، جوار "مُمْرِض". وعلى رغم ماضي شاطى العاج الزاهر، شأن ماضي لبنان، فعوامل اللبننة، ومزجها الخلافات والعصبيات الداخلية بالأطماع والاضطرابات الإقليمية والخارجية، كثيرة. والحدود الافريقية وتوصف ب"الكولونيالية" تنديداً، رخوة. ولا يمكن ان تكون غير كذلك. فالأواصر التي تربط الأقوام، والجماعات الأقوامية بعضها ببعض، عصية على التذويب والضعف. وذلك لعلة مفهومة وواضحة هي ان الجماعات الوافدة، حين تحل بين اظهر جماعات مستقرة وقديمة، لا تضعف أواصرها وروابطها الداخلية والعصبية بتقادم الزمن على وفادتها. فإلى رابطتها السابقة تزيد روابط العمل والإقامة والدونية وجبه الهوية المتماسكة والغالبة. وهذه روابط تغذي الرابطة القديمة، وتجددها إذا ارتخت ومالت الى الاضمحلال.
الحداثتان والعصبيات
واغتذت العصبيات الأقوامية العاجية من الحداثة الاقتصادية والسياسية، على حد سواء. فهي بقيت ساكنة وجامعة ما بدت غلبة الجماعات الجنوبية، من بيتيه وآكان وكرو، منيعة ومتينة. فهذه الجماعات هي الأصلية، وهي العدد والقوة الاقتصادية والعلاقات الوثيقة بفرنسا والمراتب الإدارية. فلم تكن وفادة الأقوام الضعيفة، من الشمال والغرب خصوصاً، للعمل في الأرض، وفي المهن الوضيعة، تتطاول الى مرتبة الأقوام المستقرة. وبعد الاستقلال، في 1960، واتى ازدهار اقتصادي دام ربع قرن، شفعته ليبرالية نسبية في اطار دولة متسلطة قريبة من النموذج السوفياتي، سيطرة العاجيين الأصليين.
فقامت اللحمة العاجية على إغفال الفروق الاجتماعية والسياسية بين الروافد الأقوامية الكثيرة. وهي لا تقل عن عشرين رافداً او قوماً، تتصدرها خمسة اقوام او ستة. وأتاحت فرص الحراك والارتقاء الاجتماعيين - من طريق التعليم وتبلغ نسبة المتعلمين الجامعيين 3،7 في المئة، وهي اضعاف مثيلها في بلدان خليج غينيا، والهجرة الى المدينة ونسبة اهل المدن من السكان 8،45 في المئة، وهي الأعلى بين بلدان الجوار كلها، والإنفاق العام والدين الخارجي العاجي مقسوماً على الفرد الواحد كان الأعلى في العالم، في منتصف التسعينات، والتأطير التجاري والمالي والإداري الفرنسي - اتاحت الفرص هذه سلماً داخلياً وأهلياً بارداً انسى العاجيين الفروق الكبيرة بين الجماعات والأقوام والمناطق.
وكان عمدة هذا البنيان انتاج زراعي مزدهر، مصدره زراعتا الكاكاو والبن، وبعض الصناعات التعدينية، وتجارة مرور بواسطة المرفأين على خليج غينيا، استيراداً وتصديراً. ولكن عام 1985 آذن ببداية انهيار اسعار المواد الأولى الزراعية، ومنافسة الزراعة الآسيوية المتطورة الزراعة الافريقية. وظهرت اعراض ازمة عامة في 1987، وتراجعت قيمة الناتج الإجمالي. فاضطرت الحكومة الى صرف 20 ألف موظف، في 1990، وخفضت الرواتب والأجور. وتركت بدايات الخصخصة آلاف العاملين من غير معيل، ورجعت الحكومة عن ضمان اثمان المحاصيل الزراعية التجارية. فوقعت المالية العامة في عجز بنيوي تولت الدولة الفرنسية تمويله. وبلغ الدين العام، في مطلع التسعينات، 18 بليون دولار، وكان السكان لا يتجاوزون 12 مليوناً إلا بقليل واليوم يبلغ 12 بليوناً، خدمته 25 في المئة من قيمة الصادرات. فاضطرت الدولة الى تخفيض قيمة العملة.
وتصيب هذه الحال، وهي ثمن الحداثة الاقتصادية، اول ما تصيب فرص الحراك والارتقاء الاجتماعيين، فتضعفها وتبعث الجماعات الغالبة على الانكماش والتقوقع، والدفاع عن مصالحها الخاصة وتهمة الجماعات الأخرى بشتى التهم. وتبعث الجماعات "الوافدة" على طلب المساواة، والتنديد بالظلم والغبن، طلباً وتنديداً ملحين وحادين. فتحول الطلاب والجنود والعاطلون عن العمل وسكان الضواحي الى مادة تحريض اقوامي طيعة ومنقادة. وكل قيادات الحركات المسلحة، اليوم، هم من هذه الجماعات والفئات، وتحمل حربهم وأعمالهم "العسكرية" طابعها الانتقامي والثأري.
ولم يكن حظ الحداثة السياسية احسن من حظ نظيرها الاقتصادي. فحل الحزب الواحد محل الحياة السياسية السوية. وانفردت حاشية الرئيس بالمصالح والمنافع وتوزيعها. وحل الولاء محل العلاقة الحرة، والعصبية محل الاجتماع على المصالح المعقولة والبرامج المعللة والسياسات المقترحة. فلم يكد يتوفى الرئيس الاستقلالي الأول حتى سبق رئيس الجمعية الوطنية المجلس النيابي المحكمة العليا الى إعلان خلافته سلفه، على خلاف نص الدستور. وقدم بيدييه، الرئيس المعلن، تعديل الدستور، وجمع الصلاحيات الواسعة اصلاً بيده، على المهمات الأخرى.
فاستعدى الحسن وترة، ولوران غباغبو، والجماعات السياسية والمهنية المختلفة. وتوسل بفساد مستشر وعميم الى إرساء رئاسته على بعض الحظوة. و"اشترى" ذمم فئات اجتماعية واسعة بزيادة الرواتب والأجور. فعلق البنك الدولي وصندوق النقد قروضهما وتسهيلاتهما، في 1998. وحذا الاتحاد الأوروبي حذوهما بعد ان كشف عن اختلاس 180 مليون يورو كان قدمها منحة لتحسين الشروط الصحية واللامركزية. فتحولت الفرص والمناسبات كلها، الانتخابية والنقابية والصحافية، الى فرص استهانة بقواعد السياسة الديموقراطية. فرفض بيدييه، في اواخر 1998، انشاء لجنة مراقبة الانتخابات الرئاسية، وحول تحقيقاً قضائياً في التزوير الى مذكرة توقيف في حق الحسن وترة. وأوقفت السلطات قادة حزبه، وغرمتهم، وقاضت صحافيين وطلاباً وسجنت بعضهم، وزادت اسعار المحروقات. وعندما انقلب الجنرال روبير غي على بيدييه في اواخر 1999، لم يلبث ان اخرج من الحكومة الائتلافية كل الوزراء الشماليين. ووقع انقلاب عسكري جديد، بعد ستة اشهر على الانقلاب السابق، والباعث عليه تحسين شروط الائتلاف. وأنجز مشروع دستور طرح على الاستفتاء، ونال 88 في المئة من المقترعين. ولكن انتخابات تشرين الثاني نوفمبر 2000 التي حملت غباغبو الى الرئاسة أخلت بشروط الدستور. فأبطل ترشيح السياسي الشمالي عنوة. وزورت لوائح الشطب والقيد الانتخابيين.
وعلى هذا فلجوء القوى السياسية والأهلية المختلفة الى احلافها وعلاقاتها الخارجية والإقليمية، وتوسل بعضها بالمرتزقة وعصابات الاغتيال والخطف، وثأر بعضها من بعض من طريق التهجير، "تفهم" وتعقل في ضوء بعض السياقات السياسية والاجتماعية والإقليمية التي ارتسمت في الأعوام السبعة عشر الأخيرة، وخصوصاً منذ انقلاب الجنرال غي الأول. ولكنها تشترك كلها في الدلالة على مماشاة النخب السياسية والثقافية، او معظمها، اهواء جماعاتها الظرفية والمتقلبة وعصبياتها الجامحة.
ولا شك في ان وقوف الدول الافريقية موقف المتفرج، حين لا يلغ بعضها في المعمعة العمياء، ليس قرينة على رشد سياسي وتاريخي تزعمه المستعمرات السابقة لنفسها زعماً محموماً. ولا تفي الموافقة على تعديل المادة الدستورية التي تشترط "ابوين" عاجيين على المرشح للرئاسة، والاقتصار على "أب" واحد، بتبعات المشكلات المتراكمة والمتفاقمة. وحين ذهب قائد الأركان الفرنسي الى ان قواته قد تضطر الى المرابطة "اعواماًش في البلد المنكوب، لم يعدُ حقيقة مرّة هي نكوص "الواجهة" الافريقية الى حال الانتداب الآفلة.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.