"منشآت" تطلق خدماتها في منطقة القصيم    «التعاون الإسلامي» تُرحّب باتفاق وقف إطلاق النار بين باكستان وأفغانستان    جمعية شفيعًا تنظم رحلة تكريمية لطلاب الحلقات الحافظين لكتاب الله من ذوي الإعاقة للمدينة المنورة ومكة المكرمة    تخصصي الملك فهد بالدمام يطلق مؤتمر "الابتكارات المتقدمة في الطب المخبري"    إصابة فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي شمال مدينة القدس    بعد إنجاز بولندا.. الصين والدمام تجهّزان منتخبي الشباب والأولى للتايكوندو    فريق جراحة مستشفى صبيا ينقذ شابًا من تمزق خطير في الكبد    انطلاق المؤتمر العالمي لإنترنت الأشياء 2025 في الرياض    منتخب المغرب يتوج بكأس العالم للشباب بفوزه على نظيره الأرجنتيني    سيرة من ذاكرة جازان    مدرب نيوم : كنا نعلم ان المباراة ستكون صعبة    سماء السعودية تشهد زخة شهب الجباريات من 2 أكتوبر حتى 7 نوفمبر    شموخ وطن يكرم الدكتور أحمد حمود الغامدي    تلوث الهواء يبطئ نمو دماغ الأطفال حديثي الولادة    تباطؤ التضخم العقاري في المملكة إلى 1.3% خلال الربع الثالث 2025    بالتعاون مع الشريك الأدبي نادي ثقات الثقافي يُفعل الثقافة الأدبية في مدارس القلعة الحجازية    اللجنة الإعلامية ترفع جاهزيتها لانطلاق فعالية البلوت بنجران    تكريم الكلية التقنية للبنات بشرورة لمشاركتها في اليوم الوطني 95    جمعية رعاية الأيتام بنجران تواصل ‏برامجها ‏التوعوية    نائب أمير مكة يترأس اجتماع محافظي المنطقة لمتابعة مشاريع التنمية وتحقيق مستهدفات رؤية 2030    سعود بن بندر يستقبل مشرف البعثة التعليمية في البحرين ومدير تعليم الشرقية    نائب أمير نجران يُدشِّن أسبوع مكافحة العدوى    شراكة مع الخزانة الأمريكية وصندوق أوبك لإعادة البناء.. سوريا تعزز التعاون مع واشنطن والمجتمع الدولي    سمو ولي العهد والرئيس الفرنسي يستعرضان هاتفيًا تطورات الأوضاع في قطاع غزة والجهود المبذولة لإنهاء الحرب في القطاع    المنتخب السعودي.. من «منتخب النتائج» إلى «منتخب المنهج»    «كينونيس» يقود القادسية لعبور نيوم واستعادة وصافة روشن    8.8 تريليونات دولار أصول الصناديق السيادية بالشرق الأوسط في 2030    «النقل»: 39 مليون راكب استخدموا قطارات السعودية    ضبط مواطنين يصيدان بدون ترخيص    محافظ الأحساء يستقبل مساعد قائد قوة أمن المنشآت في الشرقية    سعود بن نايف يشدد على التعاون لخفض الحوادث المرورية    عُقل الزلفي.. الأطلال والذكريات    التعليم.. رحلة تبدأ من الجودة    «المساحة» : زلزال الخليج العربي بعيد عن أراضي السعودية    ولي العهد يعزّي رئيس وزراء اليابان في وفاة توميتشي موراياما    من «النساج» إلى «الوروار».. الطيور تبهر زوار المدينة    طالبات جامعة نورة يتألقن في مسابقة الترجمة الصينية    الأزياء الجازانية.. هوية تنسجها الأصالة وتطرّزها الذاكرة    حين تسرق الثمرة.. ويبقى الجذر صامداً    دعوة إلى استعادة نعمة الملل في زمن الضجيج    مهرجان البحر الأحمر يكشف أفلام دورته الخامسة    51 قتيلاً و150 مصاباً منذ إعلان وقف الحرب    بهدف تعزيز الشفافية والحوكمة في جمع التبرعات.. لائحة جديدة لتنظيم إنشاء وتمويل الأوقاف    مناورات عسكرية إسرائيلية على حدود لبنان    ترمب يهدد بنزع سلاح حماس    ولي العهد يعزي رئيس وزراء اليابان في وفاة توميتشي موراياما    بطاقة الأولوية لم تعد أولوية !!    الرياض تحتضن ختام مؤتمر رؤساء وأمناء الاتحادات الآسيوية لكرة القدم 2025    أسعار النفط تتراجع    "التحالف الإسلامي" يعقد دورة تدريبية وورشة عمل حول "التعامل مع التطرف الفكري في البيئة التعليمية" في المالديف    أفغانستان وباكستان : ملتزمون بوقف النيران    رئيس الشورى يرأس الاجتماع التنسيقي العربي    نائب أمير جازان يزور الأديب إبراهيم مفتاح للاطمئنان على صحته    لا مال بعد الموت    فرع الشؤون الإسلامية بجازان ينفّذ حملة وقائية ضد الإنفلونزا الموسمية في صبيا    «911» يتلقى 83 ألف مكالمة في يوم واحد    «ابن صالح» إمام المسجد النبوي ومربي الأجيال.. توازن بين العلم والعمل    لائحة لإنشاء الأوقاف وتمويلها عبر التبرعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كلام في برلين على توضيح التباس مشاهد إسلامية في مجتمعات علمانية
نشر في الحياة يوم 20 - 07 - 2002

"آفاق إسلامية في مجتمعات علمانية" كان موضوع ندوة عقدت اخيراً في دار الثقافات العالمية في برلين، وشارك فيها كتّاب عرب من تونس ومصر ولبنان والمغرب ومن العالم الاسلامي أندونيسيا ومن اوروبا ألمانيا وهولندا وبريطانيا ومن بلاد افريقية تضم أقليات اسلامية جنوب افريقيا. وكانت عناوين المحاضرات: "الإسلام المدني: دور الإسلام في العملية الديموقراطية في أندونيسيا" ألقاها مجيد نور خالص رئىس جامعة بارامندا موليا في أندونيسيا، "التعدد الديني والسياسي: المفهوم الإسلامي للدولة والمجتمع في العصر الحديث" ألقاها أبو العلاء مهدي مدير المركز الدولي للدراسات في القاهرة، "صورة المسلمين في دولة علمانية تعددية" ألقاها عبدالقادر الطيب مدير مركز الإسلام المعاصر في كيب تاون، "معنى الشريعة في مجتمع حديث" ألقاها أبو يعرب المرزوقي استاذ الفلسفتين اليونانية والعربية في جامعة تونس الأولى... وطرحت الى مائدتين مستديرتين ندوتان هما: "قضايا مطروحة على الغرب: وجها الحداثة" و"المسلمون في العالم الغربي: دور الأجيال الجديدة".
في ما يلي يعرض الكاتب أجواء الندوة ومساهمته فيها:
انقسمت محاضرات الندوة ومائدتاها الى محورين اساسيين هما عرض تجارب العلمنة في العالم وتقويمها أندونيسيا ومصر والكشف عن وضع الأقليات الاسلامية في بعض بلاد العالم وتقويمه افريقيا الجنوبية وألمانيا وهولندا وبريطانيا وفرنسا. لكن الندوة لم تخل من البحث الجذري المعمق في دلالات ازمة الحضارة الانسانية الحديثة المائدة الاولى وعلاقة ذلك بمنزلة المسلمين ودورهم في لحظتها الراهنة معنى الشريعة في مجتمع حديث. وقد امكن تحديد هذه المنزلة تاريخياً وفلسفياً. فتاريخياً لا يمكن اغفال العلاقة بين آخر محطات حرب تحرير العالم الثالث من الاستعمار التوطيني في صلته بأزمتي اوروبا الاستعمارية والعنصرية وأولى مراحل حرب تحرير الانسانية من تحالف ذروة العنصرية التي تدعي تمثل الروحانية الدينية اسرائىل وذروة العنصرية التي تدعي تمثيل العقلانية الفلسفية أميركا وتحالفهما على قاعدة الغزو المادي والروحي لكل المعمورة. اما فلسفياً فيمكن الإحالة الى تناظر الربط الهيغلي بين الاصلاح المسيحي والإسلام في غاية حركة النهضة الغربية وبداية الحداثة
مع الترابط بينهما في غاية الحداثة وبداية ما بعد الحداثة، من خلال إعادة النظر في المنزلة التي يحددها الفكر الفلسفي للإنسان ومدى مسؤوليته في رعاية العالم حفاظاً على الطبيعة والحياة والقيم.
تلك هي الاشكالية التي كانت محور مساهمتي في هذه الندوة في عنوان: "دلالة الشريعة في مجتمع حديث: الإسلامي والانساني". إذ حاولت دراسة الازمة الانسانية الحالية بعد ان تبين لكل ذي بصيرة يأس البشر من الثوابت العقلانية الفلسفية في فلسفة النسبية القيمية المطلقة بعد يأس فلاسفة الحداثة من الثوابت الدينية في فلسفة التنوير مبيناً تعذر تأسيس حقوق الإنسان وحماية البيئة وأخلاق الحياة على هذين السلبين المتواليين اللذين آل اليهما الفكر البشري. فهما أديا الى التسليم الضمني بسلطان التحكم الخفي لمافيات المضاربات العالمية في مجالي الربا المادي سوق السلع والخدمات العالمية التي اعادت بتوحشها عبودية جسد الانسان باسم التنافس المتوحش والربا الروحي سوق الثقافة والإعلام العالمية التي اعادت بتدنيها عبودية نفس الانسان باسم المتعة السائبة.
هاتان العبوديتان اكدتا لفكر الحداثة ما جعل الانسانية تصبح ما بعدها. فالحرية والحقوق لم تبق حقوقاً ولا حرية بل صارت امتيازات تقسم البشرية الى اقل من سدسها في الشمال والبقية في الجنوب وتقسم كلا قسمي البشرية الى اسياد وعبيد بنسبة اكثر بشاعة من النسبة السابقة. وثنائية مستويي السيادة والعبودية هي التي جعلت تعين العبودية الأتم يتحقق في عبيد العبيد، اعني غالبية الشعوب المنتسبة الى الجنوب. فهم عبيد عبيد مستعبدي الانسانية كلها او المافيات التي في يدها مقاليد العولمة. وذلك بحكم ما انتهت اليه العبوديتان من نفي مطلق للأساس الديموقراطي نفسه، الاساس الذي من دونه لا معنى للقانون الوضعي البديل من الشريعة. فالحق الطبيعي الذي تستند اليه حقوق الانسان لا يمر من منزلة الحق الطبيعي الكلي الى منزلة الحق الوضعي الكلي الا اذا ترجمته سلطة مشرعة كلية ذات شرعية ديموقراطية تنقله من المبادئ العامة الى صيغ القواعد والاحكام الضابطة للسلوك الانساني في علاقته بغيره وبسلطة بلاده وعلاقة السلطة القومية بسلطة عالمية يكون الاحتكام اليها متحرراً من المعايير المزدوجة.
لكن فشل التمثيل الديموقراطي قومياً في العالم العربي ولا مبالاة الغالبية بالعملية الانتخابية إما بسبب التزييف السابق التلاعب بالرأي العام او اللاحق التلاعب بالنتائج من نواب سادة العالم عندنا، او بالتدخل المباشر لهؤلاء السادة كلما كانت النتائج على غير ما يشتهون، ليس دالاً الى ازمة تخص العرب والمسلمين وحدهم بل هو عام في المعمورة كلها شمالها وجنوبها. لذلك فالأمر لا يتعلق بدلالة الشريعة بقدر ما يتعلق بدلالة البحث عن بديل في شرع متعال عن التلاعب بالقانون الوضعي، دلالتها التي تعبر عن يأس من العدل الوضعي يؤدي الى الوهم المطلوب من العدل السماوي: لكأن هذا العدل ليس هو ايضاً موضوعاً للتلاعب. لكن وصول ظاهرة التلاعب الديموقراطي الى حد الكاريكاتور عندنا ليس هو في الحقيقة الا احد مظاهر بلوغها هذا المستوى في العالم الذي يزعم العمل بها عملاً نزيهاً وشفافاً.
أليست أميركا تعد افضل ديموقراطيات الغرب حيث صارت مثالاً تحاكيه كل الديموقراطيات الغربية اليات ومضمونات وفلسفة؟ ألم يتبين فيها بصورة لا جدال فيها، كما رأينا في آخر انتخابات، ان ربع المنتخبين فقط عينوا رئىس الولايات المتحدة وعينوه ليكون ديكتاتور العالم كله؟ أليس همه الأسمى هو ان يرضي المتعصبين من اصوليي حزبه وأصوليي اسرائىل؟ وقد يتصور البعض ان التحكم والتدخل السافرين مقصوران على بلادنا الضعيفة والمستضعفة والمستعمرة وعلى التابع من قياداتنا. لكن الامر يصح على اوروبا واليابان وحتى على الصين التي لا يمكن لأحد ان يقنع بتنديداتها التي تخرج من الشفاه تتبعها صفقات مقصورة على المصلحة الوطنية الضيقة في التعامل مع اسرائىل وأميركا. اما بقايا الاتحاد السوفياتي وأميركا اللاتينية وبقايا مستعمرات اوروبا في افريقيا وآسيا فحدث ولا حرج. فطلب اللقمة اليومية يغنيها عن كل الحقوق. وبينت احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر كذلك ان هذه الديموقراطية الأميركية مستعدة لإلغاء كل ما يعد من اساسيات حقوق الإنسان من اجل ما تسميه امنها ما يعني ان الأميركي نفسه صار عرضة للتحكم بمجرد ان تمس مصالح المافيا الحاكمة.
هنا يأتي السؤال الفلسفي المتعلق بمعنى الشريعة المتعالية على كل قانون، إذ هي ليست دينية عندنا إلا لكونها طبيعية وكونية وهو معنى الفطرة. كما ان الإسلام لم ينتظر الإصلاح لتأسيس علمانية الدولة حصراً لدورها في رعاية المصلحة العامة من دون ان تكون جزءاً من العقيدة كما اوضح ذلك كل مفكري المدرسة الأشعرية الغالبة على الفكر السني من الغزالي الى ابن خلدون. فهذا الخيار هو جوهر الخلاف بين السنّة التي تمثل غالبية المسلمين 90 في المئة والشيعة التي لا تمثل إلا بعض عشرهم. ومن هذا المنطلق يحق للمفكر المسلم ان يسأل الإنسانية كلها: هل ما تزال الديموقراطية في شكلها الحالي المقصور على تعيين المشرعين والحكام قومياً حلاً ملائماً للبشرية في عصر العالمية التي جعلت التشريع والحكم لا يكونان إلا كونياً، خصوصاً إذا كان الانتخاب خاصاً بحكام البلاد المهيمنة على مقدرات هذا العالم والمتشدقين بحماية الحضارة الإنسانية ضد البربرية؟ وأساس هذا السؤال الأعمق هو: هل يمكن ان نتصور الإنسان - متعيناً في هؤلاء الذين يقتصر المفهوم عليهم - قابلاً لأن يواصل اعتبار نفسه سيد العالم، يفسده كما يعن له بحسب المصالح الضيفة للمافيات الحاكمة في الشركات العالمية واللوبيات المسيطرة على خيول الكرنفال السياسي المخادع، فيتلاعب بالحياة باسم حرية البحث في العلم الأخرق، وبالمناخ والطبيعة باسم حرية الإنتاج في الاقتصاد المجنون، وبالقيم السامية جميعاً باسم حرية الإبداع في الثقافة المنحطة؟
تلك هي الدوافع الحقيقية للبحث عن مبادئ تحررنا من فساد هاتين الآليتين الناتجتين في العمق عن عقيدة تؤله الإنسان على رغم تنكرها في لغة فلسفية لا تخفى على كل من يعلم العلاقة بين ثيولوجيا ما يسمى بالإصلاح الديني والمثالية الألمانية ولقطائها من الإيديولوجيات الشمولية من الفاشية الى النازية الى الشيوعية الى العولمة البراغماتية. البحث عن الشرع المتعالي لا يعني تعويض ذلك بالشريعة بمعناها التقليدي، بل هو يفيد ان الإنسانية تبحث عن قيم متعالية تكون فوق التحكم من دون ان تنزل الى منزلة القانون الوضعي او السياسة الدنيوية. وذلك هو مفهوم الشريعة قبل ان يفسد معناها فقهاء الانحطاط الذين حطوها الى مستوى الشكليات التعبدية او الحيل القانونية حصراً فيهما أو الفتاوى السطحية في الهوائيات الثرثارة.
ويكفي ان نفحص مدلول الكلمة لغوياً وقرآنياً. فلغوياً تعني مادة شرع: البدء والشروع في سنة ما تكون شارعة اعني منفتحة في كل الاتجاهات، وشرعاً اي يتساوى بمقتضاها الجميع في الحقوق والواجبات. وصيغتها مؤنث "فعيل" للمبالغة مما يفيد ان المقصود هو تعدد المحاولات لتحقيق المشروع الإيماني بالقيم ومن ثم فهي الشروع المتجدد في السعي الدائم من اجل تحقيق المشروع الاستخلافي. ولما كان الخليفة هو من يتصرف من دون نسيان المستخلف والشرع المتعالي كما يذكره بذلك عقلة الفطري باتت المنزلة الأجدر بالإنسان هي التي حددها الإسلام تحريراً للإنسان من منزلة التأله التي يغالط بها نفسه على رغم كونها علة كل أدوائه. لذلك فتوالي السنن الحية هو عين التاريخ الديني الذي يخصص له القرآن الكريم جل آياته، اعني آيات القص القرآني وحياة السنة الخاتمة حياتها الدائمة هي مبدأ التاريخ الذي يرفض الربا المادي والربا الروحي اللذين يؤسسان للعبودية: لذلك تكلم القرآن عن الشرعة والمنهاج للامتحان والتنافس في الخيرات سورة المائدة، الآية 48. وإذاً فالشريعة هي طريق المجاهدة من اجل علم الحقيقة التواصي بالحق علامة الإيمان والعمل بها التواصي بالصبر علامة العمل الصالح بحسب اجتهاد الإنسان خصوصاً وقد صحب هذا التصور القرآني نفي كل سلطان روحي يتوسط بينه وبين الله ومن باب اولى نفي كل سلطان زماني يسمو على حريته وإرادته الاستخلافيتين.
فإذا أخذنا هذين المعنيين في الاعتبار تبين ان "شريعة" و"حديث" وصفا للمجتمع الذي نريد ان نفهم دلالة الشريعة فيه لهما الدلالة نفسها على رغم ان الفقهاء جعلوهما متقابلين. فحديث كذلك مشتقة من مادة "حدث" وتعني التجدد عن عدم ورفض الجمود. وصيغة "فعيل" هنا ايضاً للمبالغة وتعني كثرة التجدد والحدوث. فيكون المجتمع الملائم لهذا النوع من الشرائع التي تقول بالتجدد الدائم او بالاجتهاد الدائم بعد التخلص من السلطات الوسيطة هو المجتمع الحديث، لما يتصف به من إدراك لجوهر التغير التاريخي في تقريب الواقع من المثال والتجربة من الحقيقة ما امكن للانسان فرداً وجماعة قومية وكلية.
وطبعاً فقد ربطنا هذا التلازم بين الحاجة الى التعالي الشرعي وتردي القانون الوضعي في العالم كله عموماً وفي العالم التابع الذي ننتسب اليه خصوصاً، بحكم الآليات الخفية للسلطان الواضع ربطناهما بأزمة الفكر الفلسفي في مدارسه الاخيرة التي تجاوزت خرافات الاعماق الانطوائية وأساطير الذوات المتعالية التي تبني العالم في الاوهام والأحلام لتبرر ما فيه من اسقام وآلام، تغييباً لمعاني المحايثة الدائمة للقيم في التاريخ محايثة جعلت الاسلام والمسلمين الذين اعمت العقد بعض مفكريهم، فأغفلوا الثورة التي يمثلها الصلح الاسلامي بين الطبيعة والشريعة في مفهوم الفطرة الجامعة بين الدين ممثلاً تعالي القيم والدنيا ممثلة محايثتها التاريخية. ذلك ان الدين الذي تخلص من الخطيئة وحلل الطيبات وحرر الجنس الى حد كبير وشرع حق المتعة واللذة بشرط معناهما الذي هو حفظ قيمهما، لا يمكن ان يخلط بالأديان المتنافية مع الطبيعة بل هو عين التمام الذي يلتقي فيه العقل الطبيعي والوحي المنزل. لذلك فهو الدين الخاتم وليس الاصلاح الفاشل كما يتصور هيغل بحكمه الذي يمثل اساس التلازم بين تقويم الاصلاح اللوثري والاصلاح المحمدي في المثالية الالمانية، وكل محاولات تجاوزها، ويفهمنا علة دوران الامر كله في اجتماع نهاية المعركة مع الاستعمار وبداية المعركة مع العولمة في اللحظة العربية الاسلامية الحالية ممثلة بالمعركة الفاصلة في فلسطين التي هي يثرب العصر الراهن، فيها يمكن ان يتم للعرب والمسلمين استئناف دورهم التاريخي الكوني.
* كاتب تونسي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.