لا يزال أرييل شارون يقول، ويريدنا ان نصدّق، ان ياسر عرفات يوجّه عشرات الفلسطينيين ويأمرهم. وهو يأمرهم بالقيام بعمل لا يقلّ عن... الانتحار والنحر. وانه يفعل هذا من سجنه في رام الله. وهو يفعله على رغم تضرره السياسي المؤكد من العمليات الانتحارية. الموضوع إذاً بيروقراطي ومنظّم بطريقة تعجز عنه أشد آلات القتل تنظيماً في العالم. اننا أمام فيلم سينمائي بديع! النظرية الاسرائيلية لا يقبلها من يملك عقل دجاجة، لكنها مع هذا ترتدّ على أصحابها ربحاً صافياً ما لم تُطوّق. فحين تتوقف العمليات يُستنتج أن نهج شارون أوقفها. إذاً لا بد من المضي في هذا النهج بالإمعان في التقتيل وفي عزل عرفات في آن. وحين تعاود العمليات الانتحارية الظهور يُستنتج ان الجيش الاسرائيلي لم يُنه عمله بعد، ولا بد من المضي لانهائه، مع تشديد الحصار على عرفات طبعاً. وهزلية الرواية، رغم اصطباغها بالدم، لا تحول دون تصديقها في عالم تمكن جورج دبليو من ان يصبح زعيمه الأول الأوحد؟. لكن هذا لا يلغي ضرورة مخاطبة العقل والعقّال حيثما وجدوا. وضرورة العمل على كسبهم حيث أمكن. واللغة الوحيدة المقبولة والصائبة هي التي تقول ان الحرب السياسية - الشخصية لشارون هي ما يستدعي كل هذا الدم في الجانبين. وقد بات واضحاً ان اهراق الدم الفلسطيني على يد الاحتلال يؤدي الى اهراق الدم الاسرائيلي على يد اليأس المتولّد عن الاحتلال. والعكس بالعكس. ويعرف ياسر عرفات ان الفلسطينيين، والعرب، لا يستطيعون، الى ما لا نهاية، المضي بلغتين: واحدة تقول: ان العمليات الانتحارية نتيجة اليأس الذي تسبب به الاحتلال الاسرائيلي المديد، والذي بلغ مع الجنرال القاتل ذرى غير مسبوقة. وأخرى تقول: ان هذه العمليات عظيمة ومجيدة وتعبير عن أصالتنا. اليائس ليس مجيداً. والمجيد ليس يائساً. اليائس يمكن فهم يأسه وتحميل المسؤولية الاساسية عنه للاحتلال: الاحتلال الذي يردّ الناس الى وضعية تحملهم على القيام بما يقومون به. لكن ما يقومون به ليس مثالاً ولا نموذجاً. فالكائن الذي لم يشوّهه الاحتلال لا يقتل نفسه ولا يقتل مدنيين أبرياء. وأرييل شارون الذي يقتل الفلسطينيين في جنين مباشرة، هو نفسه الذي يقتل الاسرائيليين، مداورة، في القدس. والذين يريدون قتل ياسر عرفات سياسياً هم الذين يخلطون بين اللغتين. أما الذين يؤرّقهم الحصول على تأييد قوى الرأي العام في أوروبا والعالم، فيعرفون اية معاناة يعانونها من جراء هذا الخلط بين اللغتين، وبين نظامين أخلاقيين متنافرين.