"عالم صغير" من تأليف نوار بلبل وإخراجه وتمثيل حسام الشاه، جديد المسرح القومي لهذا الموسم. ويتناول العرض شخصية شعبية بكل تناقضاتها، وإشكالياتها، بأفراحها وخيباتها، هي شخصية "مصلّح البسكليتات" من وجهة نظر الشباب. إذا سلمنا بأن المونودراما، استعراض لقدرات الممثل الابداعية، فلا يعني ذلك ان المخرج غير موجود، إنما يبدو ان مهمته ليست صعبة، وطالما ان المونودراما يؤديها ممثل واحد، فهذا يعني انه يتطلب منه خبرة واسعة وجهداً مضاعفاً واداء مميزاً لسهولة الانتقال من دور الى آخر، ويتم هذا من خلال تغير نبرة الصوت، وبعض الحركات التي تدل الى الشخصية، اضافة الى عاملي الموسيقى والاضاءة. ويتناول العرض هموم "مصلّح البسكليتات" الذي يعمل من الصباح وحتى المساء مع المناخ، وهو بالتالي حكائي وسوقي كون المهنة تتطلب ذلك. هل قام المصلّح فعلاً برحلة الى البلدان الأوروبية على دراجته الهوائية كما كان يدّعي؟ لا شك في ان هذه احدى شطحات من يمارس هذه المهنة الذي يعوض الواقع بالاحلام والامنيات... الدراجة في العرض شخصية صامتة تساعد الممثل في انتاج أفعال وردود أفعال، وهي كآلة صماء، خرساء لها حضور قوي على الخشبة حتى يخال للمتفرج انها بطلة العرض، وتشد انتباهه في المواقف التي يتوحد فيها الممثل معها. الموضوع لا يهم المتفرج بقدر ما يهمه تجسيد قدرات الممثل الابداعية ورؤية المخرج لهذه الشخصية، وتالياً، بنية ترفض عرض الاندماج والتوحد مع الشخصية. وفي هذه الحال، يتحول العرض الى وجبة غداء سريعة. يزول تأثيره مع انتهائه مباشرة، ولا يثير اسئلة، أو جدالاً أو تأملاً في ذهن المتفرج لأنه المتفرج لا يجد نفسه في شخصيات العرض الا قليلاً، فالموضوع بعيد منه الى حد ما، ويترك العرض مسافة طويلة بينه وبين المتفرج أي أنه يتباعد عن المتفرج، وهذه أشبه بعملية تغريب، ولا أعرف إن كان الممثل والمخرج يدركان هذه الحقيقة أم لا؟ وإذا كانت شخصية "مصلح البسكليتات"، مترابطة، ومتماسكة ففي بعض الاحيان تبدو ساذجة، تغير مسارها وتصرفاتها وتعاملها مع الآخرين، لكن في أحيان أخرى تكون الشخصية قوية تعرف ماذا تريد، وأخرى شخصية ذكية، وثالثة شخصية ساخرة، ومرات عدة هي شخصية متبجحة. وعلى رغم هذا التنوع في الشخصيات ف"الأنا" البطولية ظاهرة في جميع هذه الشخصيات، الا ان السمة الغالبة للعرض هي السوقية كون الشخصية تنتمي الى قاع المجتمع والسوق التي لا ترحم. لذلك من الطبيعي ان تتحوّل الدراجة الى أنثى في ظل غياب المرأة عن حياة الشخصية، يتعامل الممثل مع الدراجة لأنها رفيقة الدرب الطويل معه ومن أجلها طلّق "أبو عبدو" زوجته التي اختارتها له والدته، علماً انه كان يعرف ويسمع عنها الكثير من القيل والقال. وعلى رغم ذلك تزوجها نزولاً عند رغبة أو أوامر والدته. لا تتوانى الشخصية عن استخدام الألفاظ والكلمات السوقية بأسلوب السخرية، الأسلوب الأقرب الى أسلوب النساء اللواتي لا عمل لهن سوى الردح والمشاجرة مع الجارات أو الأزواج. جسّد الممثل مواقف من الواقع الراهن ممثلاً مسيرة الانتفاضة بطريقة واقعية لا لبس فيها ولا غموض، حتى ان العرض يتحدث عن نفسه من دون وسيط رمزي، من طريق الحركات ولغة الجسد والحوارات. الا ان الحركات تحيل المتفرج على حركة واقعية وكأنه يسخر ممن يتصرف هكذا، وطالما ان المسرح مرآة المجتمع، فهي حركات مبررة ومقنعة في الوقت نفسه. لكن المبالغة في الارتجال أحياناً أوقعت الممثل في مطب العرض التجاري، فحاول ان ينتزع أحياناً الضحك من المتفرج وهو يستخدم العامية "الحمصية" وأحياناً يكرر الحوارات لإحداث قهقهة، لكن اللهجة لم تكن عبئاً على العرض، بل كانت نابعة من روح الموقف وروح الشخصية، وتالياً لم يستخدمها من أجل الضحك كما نشاهد في بعض العروض المسرحية، وفي غالبية المسلسلات التلفزيونية. وهذا لا يعني ان تميز الممثل كان من خلال العامية، بل من خلال انتماء الشخصية الى مجتمع القاع وتعاملها مع الدراجة لخلق بعض المواقف الجنسية، وهكذا شعر المتفرج ان الحوار هو وسيلة أخرى لتقريب الشخصية من الصالة، وخلق جوّ من الإلفة. كان أداء الممثل مميزاً، فأبدع في تجسيد الشخصيات، وأمتع المتفرج الذي لم يشعر لحظة ان الخشبة خالية. بل خلق حركة على الخشبة مملوءة بالأفعال والحركات تطلّب جهداً كبيراً لإيصال الفكرة الى المتفرج، لذلك كان العرض من دون ديكور، الا ان ثياباً منشورة على حبل الغسيل ظهرت في فترة لم تدم طويلاً. وكان للموسيقى أهمية كبيرة في خلق جو للممثل، بينما لعبت الإضاءة دوراً اساسياً في تشكيل الحركات وفي تغيير الحالات النفسية عند الممثل، وفي رسم حركة الشخصية، والأهم إظهار خيال الدراجة على الشاشة وكأن حدثاً ينتظر هاهنا. قدم المخرج موضوعاً راهناً وبسيطاً، وعلى رغم بساطته تميز بعمق دلالاته الانسانية وقدم لحظات تعبر فيها الشخصية عما تتمنى ان تفعله من خلال الممثل حتى تعممت وأصبحت تلامس ليس "مصلّح البسكليتات"، بل الفران والحداد والميكانيكي... وبالتالي عبرت المجموعة عن روح المغامرة لجيل من الشباب يعدّون مسرحهم.