تقدم الاعمال الشعرية للشاعر الفلسطيني الراحل فواز عيد، والتي صدرت بعد وفاته بسنوات، فرصة حقيقية للتعرف الى احدى التجارب الشعرية المميزة التي لم ينصفها النقد ولم تنل قسطها من العناية. ففواز عيد الذي لمع نجمه في أواسط الستينات عبر القصائد التي نشرها على صفحات مجلة "الآداب" البيروتية وعبر مجموعته اللافتة "أعناق الجياد النافرة" ما لبث اسمه ان تراجع الى الظل مخلياً الساحة الاعلامية لعدد من الشعراء الذين لا يجارونه في قوة الموهبة وجمالية التشكيل وعذوبة اللغة. واذا كان الشاعر الفلسطيني المقيم في دمشق والعاشق لها بامتياز قد آثر بفعل خفره الفطري وتواضعه الجم ان يظل متوارياً وراء نصوصه وبعيداً من الكرنفالية والضجيج الاعلامي فإن ذلك لا يبرر في أي حال الغبن النقدي الذي لحق بنتائجه أو اشاحة النظر عما حملته تجربته من ثراء تعبيري وتدفق حماسي في الايقاع واللغة والصورة. خلت أعمال فواز عيد الشعرية، وخلافاً للعادة، من أي تقديم نقدي أو أكاديمي. وهو أمر ليس بالسيء من بعض وجوهه، اذ ان الشعر الحقيقي لا يضيف اليه التقديم شيئاً يذكر. لكن النص النقدي القصير الذي كتبه الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة وارتأى الناشر ان يثبته على الغلاف الثاني للكتاب يحمل بعض الانصاف للشاعر الراحل. فالمناصرة يعتبر ان البدايات الناضجة لفواز عيد تتقدم على بدايات الكثيرين من أترابه ومجايليه، لكنه يرى في تجاربه اللاحقة تقهقراً واضحاً عن بعض التجارب الطليعية الاخرى التي توغلت في الحداثة فيما كان فواز عيد منشغلاً بالبحث عن "لقمة الخبز لأطفاله". وهو استنتاج يحتاج الى الكثير من البحث والتمحيص على رغم حرص المناصرة على الاشادة بتجربة الشاعر التي تتمتع "بغنائية موسيقية عالية وتميل الى استبطان الموروث الشعبي والأسطوري والتاريخي... وتبتعد عن شعارات شعر المقاومة". لا شك بأن فواز عيد هو شاعر مقل نسبياً بالقياس الى الكثير من أقرانه ومجايليه خمس مجموعات شعرية خلال ما يقارب الأربعة عقود ولكن الغزارة وحدها لم تكن يوماً دليل عافية كما ان الاقلال بدوره ليس دائماً رديف التقصير أو العجز. ولنا في النتاج القليل لخليل حاوي ومحمد الماغوط وسواهما خير شاهد على ذلك. والسنوات العشر أو أكثر التي تفصل بين اصدارين شعريين لفواز عيد قد تحسب له لا عليه اذا أخذنا في الاعتبار قدرة الشاعر على الصمت، في زمن الهذر والتكرار من جهة، وميله الى الاضمار والتكثيف وصقل التجربة من جهة أخرى. وفي اعتقادي ان مجموعة الشاعر الثانية "أعناق الجياد النافرة" الصادرة في نهاية الستينات، هي أحد أجمل نتاجات تلك المرحلة وأكثرها احتفاء باللغة والحياة. فهنا نجد البنية المركبة والمتعددة الحركاة للقصيدة كما في "الكلدان في المنفى" حيث يتم استبطان التاريخ الذي أشار اليه المناصرة وحيث تتوهج العبارة وتتماوج حركتها. وهنا نجد الصور الطازجة والغنية بالمفارقات من مثل "الفضة الكسلى على الأفق". و"وردة الغبطة الحمراء" و"أبواق نحاس راكضة خلف الظلمات". وهنا نجد قصائد التوقيعات الشديدة الاختزال من مثل قصيدة "السجن": "الحبر في الحرآة صار سحابةً في الماء / كنت أحبها / فسجنتها في هيكل امرأة / وقلت: غداً نموت". أو قصيدة "الزمن" التي تشي على قصرها بالتحوّل المفاجئ الذي يواكب مرور الأعوام: "مضت سبع من السنوات / صار لجارتي ثديان / وصار لدارنا في الليل دالية / وباب تلتقي فيه الرياح / وصار لي أحزان". قصيدة فواز عيد لا تبارح الغنائية ولا العزف على وتر الايقاع والتقفية. لكن ذلك يتم من دون تعسف أو افتعال، بل ان للايقاع على العكس من ذلك سطوة ضربات القلب وعذوبة الماء الجاري. ثمة جيشان عاطفي ورؤيوي يقف وراء التجربة ويتكئ بثبات واضح على وخز المأساة وضراوة الألم المتدفق في العروق، ما يعصم قصيدة فواز عيد من الجفاف الذهني وبرودة التأليف ويكسبها قوة الفطرة وبهاء الينبوع. صحيح ان الكثير من قصائد البدايات تتصادى في شكل جلي مع المنجز الشعري السابق، وبخاصة لدى بدر شاكر السياب، لكن الشاعر ما يلبث في مجموعاته اللاحقة ان يكتسب مهاراته الخاصة بما تحمله من خصوبة ودربة وقدرة على النمنمة والتوليد. لا تنحو قصيدة فواز عيد الى الخطابة والضجيج الحماسي اللذين طغيا على الكثير مما سمي بشعر المقاومة لكنها تختزن في داخلها حماسة الروح ولسعة الاحساس بالخسران وانطفاء الحلم. انها قصيدة احتكاكٍ بالأشياء واشعال للنار تحت حطب الحواس وفتنة المرئي ما يبرز من بعض النواحي تأثر الشاعر بجماليات غارسيا لوركا، شأنه في ذلك شأن العشرات من الشعراء العرب: "ولا يبقى بوجه الليل من أحد... / سوى المرآة في وجه البحار / سوى قميص النهر في الوديان / سوى قمر صغير للجواد / وسيدات الحور والصفصاف / لعل غواية في الريح ساكنة / تحرك رغبة في الريح فوق سريرها". اما المراثي التي تغلب على المجموعة الاخيرة والتي تتحوّل الى رقع صوتية مبللة بالفقد والانكسار فليست في حقيقتها سوى وجه من وجوه المرتبة الكبرى التي تنعقد حولها شاعرية فواز عيد ويلتف على جذعها صوته الانحل من الأنين، على حد أحد عناوينه. ومع ذلك فثمة بصيص حلم ينبعث من خلف جبل العثرات العالي ويدفع الشاعر لأن يهتف بمرارة: "أدري بأن زجاجنا ملقى الى الآفاق / لكننا في ظلنا / في ظلِّ أعطشِ نخلجٍ باقون".