المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    الأمير عبد العزيز بن سعود يلتقي متقاعدي القطاعات التابعة لوزارة الداخلية والقطاعات الأمنية والإمارة بمنطقة عسير    الحوكمة والنزاهة.. أسلوب حياة    مشاريع البنية التحتية    أم الفضائح !    حرب الانتخابات !    لاعبو الأخضر ينتظمون في معسكر الرياض استعداداً لمواجهتي باكستان والأردن    وزير الداخلية يلتقي مدير عام مكافحة المخدرات وعدداً من قيادات المكافحة في منطقة عسير    جازان: حرس الحدود يحبط تهريب 60 كيلوغراما من نبات القات المخدر    قبول أول دفعة للطالبات بكلية علوم الأرض بجامعة الملك عبدالعزيز    المعنى في «بطن» الكاتب !    كيف نحقق السعادة ؟    العِلْمُ ينقض مُسلّمات    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    كأس الملك: النصر لإنقاذ موسمه بلقبٍ غالٍ غائب منذ 34 عاماً والهلال يتطلع للثلاثية    المنصات الرقمية أغنت عن المراجعات الحكومية    طموح خليجي لزيادة مداخيل السياحة عبر «التأشيرة الموحدة»    مصير حل الدولتين.. بين الزخم الدولي والرفض الإسرائيلي    اليوم العالمي للتصلب اللويحي المتعدد    عبدالعزيز بن سعود يطلع على عدد من المبادرات التنموية التي تشرف على تنفيذها إمارة عسير    مشاركة الرئاسة في حج عام 1445ه تأتي وفق خطة ميدانية    الداخلية المصرية تصدر بيانا بعد اختفاء مواطن سعودي    حكومة سلوفينيا تصادق على الاعتراف بدولة فلسطين.. البرلمان يحسمه الثلاثاء    حيرة في الهلال لتعويض سافيتش أمام النصر    ولي العهد يتلقى رسالة خطية من رئيس الصومال    النيابة: الحكم بالسجن 5 سنوات لوافدين لتحرشهما بوافد آسيوي    شراء مبكر لصكوك وإصدار جديدة ب64 مليار ريال    خيسوس يحرج كاسترو في نهائي أغلى البطولات    النفط يتراجع وسط انخفاض الطلب.. وانتظار بيانات المخزونات الأميركية    استئصال ورم ضخم من مبيض مريضة بالبكيرية    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    حفل تخريج طلاب وطالبات جامعة تبوك    قطاع القحمة الصحي يُقيم فعالية "اليوم العالمي للتدخين"    جوازات مطار الملك عبدالعزيز بجدة تستقبل رحلات ضيوف الرحمن القادمين من سوريا    سفارة السعودية في المجر تنبه المواطنين بضرورة الابتعاد عن مناطق المظاهرات في بودابست    هلال الباحة يشارك في اليوم العالمي للتمريض    الانضباط ترفض شكوى الاتحاد ضد مالكوم وسعود    فرع الإفتاء بمكة المكرمة ينفذ سلسلة دروس علمية    "فلكية جدة": القمر في التربيع الأخير.. اليوم    وزير الخارجية يشارك في الدورة العاشرة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي الصيني    محافظ الدوادمي يترأس الاجتماع الثاني للمجلس المحلي    وزير الخارجية يصل الصين للمشاركة في منتدى التعاون الصيني العربي    رياح مثيرة للأتربة على منطقتي مكة والمدينة وارتفاع ملموس في درجات الحرارة العظمى بالشرقية    مطالبة شورية بزيادة الرحلات الداخلية وإنشاء مطارات    بين الإيمان والثقة    حجاج بنغلاديش: «ضيوف خادم الحرمين» امتداد لعطاءات المملكة بخدمة الإسلام والمسلمين    سمو أمير منطقة الباحة يناقش في جلسته الأسبوعية المشروعات التنموية    إمارة منطقة مكة تشارك بمعرض ( لاحج بلا تصريح ) بمحافظة الطائف    أمير حائل يرعى التخرّج الموحد للتدريب التقني    جانب الظل    العلاج بالخلايا الجذعية إنجاز علمي للشفاء من السُّكري تماماً    ضمن رؤية المملكة 2030 .. الهلال الأحمر يستعد لخدمة ضيوف الرحمن    تكريم الفائزين بجائزة الباحة للإبداع والتميز    تمكين الكوادر السعودية في القطاعات الواعدة    بداية من الموسم الرياضي الجديد 2024-2025 .."حراس المرمى" في دوري "يلو" سعوديون    أمير الشرقية يتفقد خدمات المستفيدين بالإمارة    تكثيف الحشد الدولي للاعتراف بدولة فلسطين    6 أنشطة ابتكارية عالمية لسعوديين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشر سنوات على رحيل رائد القصة المصرية الحديثة . يوسف إدريس انتقل من ماضٍ خامد الى مستقبل ما زال مجهولاً
نشر في الحياة يوم 17 - 08 - 2001

مضت عشر سنوات على رحيل فنان القصة القصيرة يوسف ادريس نشر اثنتي عشرة مجموعة قصصية بعدما أصبحت قصصه من الأصول المعيارية للفن القصصي الذي لا يكف عن التغير في العالم العربي. وعلى رغم أنه كتب عدداً من الروايات والمسرحيات فإن انتاجه القصصي هو البصمة الأبقى في الاذهان. ذهب بعض النقاد الى أن رواياته قصص قصيرة استطالت والى أن مسرحياته التي كان بعضها قصصاً قصيرة في الأصل نابعة من الطابع الدرامي لقصصه، وانها تجسيد موسع له.
وأول ما يتبادر الى الذهن عن يوسف ادريس، دعوته العالية الى تأسيس أدب مصري أصبح عربياً بعد زمن قصير من المد القومي، في اشكال الكتابة المغايرة عن كتابة الغرب والشرق على السواء. فلا بد من أن تكون لنا قصتنا القصيرة المختلفة تماماً عن القصة القصيرة في أوروبا، ومسرحنا المصري العربي بعد زمن قصير الذي لا يحاكي الشكل الأوروبي. فالقصة القصيرة عنده مثل الفنون عموماً تنبع من أرضنا ومن أعماقنا في موضوعاتها وشخصياتها. وتنبع اشكالها السردية من صميم كياننا وعلينا أن نتعلم في الفن بل وفي نوعية الحضارة كيف نصبح عرباً خلصاً. ولم تبدأ دعوة الأدب الوطني القومي في مصر بيوسف ادريس في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، بل ترجع الى العشرينات في اعقاب ثورة 1919. فالأخوان عيسى وشحاته عبيد كانا يؤسسان لأدب مصري في القصة القصيرة نابع من البيئة المصرية، معبر عن مجتمع يمور بالثورة على الموروث. وقد ربطا بين استغلال البلاد سياسياً واستقلال الفن والادب فيها. وكان سعد زغلول عندهما أهدى عيسى عبيد مجموعته القصصية "احسان هانم" اليه، يعادل جمال عبدالناصر عند يوسف ادريس، فهو معقد الآمال في استقلال البلاد الاستقلال التام، ومعه "استقلال الفن المصري". وفي منتصف العشرينات نشأت "المدرسة الحديثة" في القصة المصرية التي ضمت محمود طاهر لاشين واحمد خيري سعيد والسندباد المصري حسين فوزي ومحمود تيمور ويحيى حقي وابراهيم المصري. وكانت هذه المدرسة الحديثة كما سمت نفسها تريد أن يكون لمصر أدب مصري وفن مصري وتفكير مصري وترفض التفكير بعقول الغير.
ويكاد يوسف ادريس يبني شعاراته على أساس من دعوة رواد العشرينات ولكن في فترة المد الوطني اثناء منتصف القرن: أدب متخلص من التأثير الأجنبي يرفض التقليد والمحاكاة والسرقة والنقل عن الغير، ويرتبط بالواقع المحلي شكلاً وموضوعاً وأسلوباً.
ويتميز بالصدق في التعبير عن وجداننا وبالجرأة في اظهار نقائصنا، كما كان الرواد القدامى يقولون.
ولكن هذا الاتجاه الى المحلية اعتراه الضمور تدريجاً وتحول عنه بعض دعاته محمود تيمور - يحيى حقي الى الوجود الانساني العام بصرف النظر عن المكان والزمان. وفي الثلاثينات خفت صوته امام سيل من الاقاصيص الرومانطقية التي تحاكي القصص الغرامية المترجمة وتتخصص في عالم الهامش الضيق والركن المنعزل بعدما هزمت أقسام من الحركة الوطنية المنادية بالاستغلال أمام سيطرة عناصر رجعية متحالفة مع الاستعمار تبني أعشاشها الوثيرة على شجرة النظام القديم، وتحاكي طرائق الحياة الغربية.
وكان الصوت العالي في النقد متعالياً يرفض "الواقعية"، والصيغة المصرية المحلية في الاداء اللغوي ويمجد الارتفاع عن الموضوعات الخاصة في البيئات المحددة والتجريد المتعالي والنزعة البلاغية المحفوظة، أي يدعو الى عمومية انسانية في صيغ لغوية تراثية. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية هبت الحركة الوطنية وتصاعدت وفتحت آفاقاً جديدة للاستقلال وللقوى الشعبية وللإنسان "البسيط". وبدأ معها التجريب في شكل مصري للقصة القصيرة عند يوسف ادريس خصوصاً وعند يوسف الشاروني وفتحي غانم بطرق مختلفة بحثاً عن أوعية جديدة للخمر الجديدة. فالمادة التاريخية النفسية في مصر كانت على رغم كل اشكال القهر والمطاردة والحصار ينظر إليها من زاوية قابلية ممكنة لإعادة التشكيل. وكان القصاصون الثلاثة يتبنون من مواقع مختلفة، وإن كان يوسف ادريس اكثرهم راديكالية، رؤية قطاع واسع مستنير يجاهد من أجل أن يكون له مع بلاده مكان تحت الشمس، ويتخذ موقفاً نقدياً من الاوضاع والقيم وطرائق الحياة السائدة.
أخذ يوسف ادريس على عاتقه مسؤولية تحرير القراء من الوعي اليومي المتخلف والصور التي يفرضها على الحياة، فقدم التناقضات الرئيسة المحتجبة تحت السطح، في شخصيات وأفعال من خلال وعي نقدي يرفض الصورة اليومية المعاشة في تكيف وإذعان ويفقدها سيطرتها على الأذهان. فيوسف ادريس لم "يعكس" الواقع المصري، بل قام بتمزيق اقنعته والكشف عن مفارقات الظاهر والباطن في طرائق الحياة السائدة. ولم يكن المنطق الذي يحكم الرؤية عنده هو المنطق الذي تخضع له الحياة الواقعية التي يرمي الى تصويرها. وما اكثر ما خابت التوقعات التي يكونها القارئ عن مسار القصة في نهايتها "حادثة شرف" على سبيل المثال.
ولم تكن قصصه في الخمسينات والستينات تضع القراء في حال ذهنية مطمئنة مرتاحة تصالحهم على منطق الأمور. فقصصه تعبر عن واقع انتقالي بين ماض خامد لا يزال مستمراً ومستقبل لم يتشكل بعد، حافل بحس القلق والامنية والتساؤل "الحادث" - مقارنة الأب بين الطفل الأجنبي "ابن الجنية" في نظافته وشجاعته وثقته بنفسه في قيادته لقارب في النيل وبين ابنه في قذارته وانكماشه وخوفه. ومن ناحية اخرى فإن هذا الواقع الانتقالي يهدد بفقدان الجماعة المتآلفة في القرية والحي الشعبي في المدينة وبالتحول الى الفردية الأنانية الضيقة المتسلقة في المدينة. وتحتفي قصص يوسف ادريس بالعلاقة المركبة بين الجماعية والفردية، ولا تتخذ موقفاً احادي الجانب مع احداهما ضد الأخرى على طوال الخط، بل تقف أحياناً موقفاً قلقاً متناقضاً. فقصة "الحادث" السابقة تحتفي بالفردية، أما قصص "الطابور" و"الهجانة" و"الجرح" و"الرأس" أو "المثلث الرمادي" فتمجد الجماعية تمجيداً شبه صوفي. فالجماعة في "الطابور" تشق اقدامها السائرة في اتجاه واحد طريقاً يخترق السور والحصار كتبت اثناء احداث آذار - مارس 1954 بعد العصف بالحريات، و"الهجانة" حيث يتمرد الفلاحون المتآزرون بقيادة منبثقة منهم على القهر المسلح ويستولون على اسلحته ويطردونه، و"الجرح" حيث الاحساس التلقائي المشترك بالجرح الوطني المتمثل في غزو بورسعيد والتوجه الجمعي للمقاومة استجابة لنداء قاهر.
أما "المثلث الرمادي" فهي مجاز قصصي عن حركة جماعية للاسماك وراء احداها، وعندما يغادر "الزعيم" موقعه ليأكل فتات خبز، فإن المثلث يعيد تنظيم نفسه ويواصل طريقه غير آبه بالرأس الذي سقط في الذيل. وفي "لغة الآي آي" يعود الطبيب الفردي الناجح الى مساندة صرخات الألم الصاعدة من زميل قروي قديم مريض، وتتناغم صرخاتهما في عودة الى المشاركة والاستجابة للأعماق الحيوية.
وتبدو الجماعة والفرد ذائب فيها عند يوسف ادريس أشبه بتصور بيولوجي ينتقل لديه من مفهوم اجتماعي سياسي الى هذا التصور ويلعب في قصصه دوراً بارزاً خارج هذا النطاق. فالجماعة تبدو كائناً حياً ضخماً مفرداً يجسد الدوافع والغرائز منصهرة موحدة فيه. ونجد عند الطبيب يوسف ادريس تصوراً مشابهاً لتصور "جون شتاينبك" الحاكم لقصصه ورواياته على رغم إصراره على الخصوصية المصرية العربية. ان شتاينبك يشرح في بحر كورتز Sea of cortez أن فوج السمك حيوان واحد له طبيعة واندفاع واهداف خاصة متميزة عن وحداته، وأن مجموع الشعب شيء مختلف عن مجموع أجزائه، فالفرد خلية في نظام عضوي. ونجد في "زعيم الشعب" عصبة من الناس تمثلت برمتها في شخص كائن كبير يزحف، وكان احدهم رأساً، ولو لم يكن لكان الرأس فرداً آخر غيره. ونجد في هذا التصور شبهاً بين قصة "الشيخ شيخة" لإدريس وقصة "جوني بير" Jonny Beair لشتاينبك. فالجماعة تقتلهما حرصاً على الاسرار الفاضحة وعلى تخليد رموز اللياقة الخارجية المتفق عليها. ولكن الجماعية بخيرها الكثير وشرها القليل مفتقدة في واقع اليوم. فالفردية النفعية الجشعة التي لا تبالي بالآخرين هي القادرة على النجاح. أما الاندماج مع الآخرين والإيثار والمسؤولية فهي الطريق الى الإخفاق لغة الآي آي. ولكن قصص يوسف ادريس لا تحتفي بمحق الفرد على يد الجماعة التي قد تكون متخلفة أو متعصبة أو معادية للمرأة سنوبزم أو حادثة شرف فهي تنتقد بعض جوانب الجماعية من جمود وتقليدية وتؤكد جانب التضامن والانفتاح على الآخرين صاحب مصر. أما الفردية فالقصص تمجد ما تتضمنه من حرية وإقدام ومبادرة وترفض ما فيها من عزلة واغتراب وأنانية.
وليست قصصه القصيرة - على رغم ايمانه بالطابع الوطني الخاص - منتجات محلية الصناعة متوطنة منذ قرون. فهو على العكس مما تذهب النظرة السطحية لم يلجأ الى اشكال تراثية في السرد على الاطلاق" لم يلجأ إلى الحكاية كما نجدها في ألف ليلة وليلة، ولا الى المقامة ولا الى الخرافة الاسطورية. فهو كان يرتاد واقعاً انتقالياً، حاضراً حياً، لا تصلح اشكال الماضي لاكتشافه، غنياً بحس العارض والعابر والمتوتر بالقلق والموقت. وهذا الطابع الانتقالي العابر وإن يكن سمة للواقع الذي تصوره القصص في مصر فهو خصيصة من خصائص فنية القصة القصيرة على النطاق العالمي، ومن ناحية اخرى فإن القصة/ الرسالة كانت تستدعي عنده الطابع الصحافي والمساحة المحدودة والتركيز المكثف الذي يجعل اللحظة الدالة حبلى بالمفهوم العام من طريق سرد مقتصد يعتمد على التلميح والتضمين، وكلها من الأرصدة الاساسية الباطنة في شكل القصة القصيرة كجنس أدبي عام يتسم بالاستجابة الفورية في التلقي نتيجة للتركيز والحيوية. ووحدة التأثير وحدة الانطباع ان يوسف ادريس في اجراءات ابداعه يتخيل احداثاً يقوم بترتيبها وتنظيم ايقاعها من حيث الطول والتعقيد والتأزم وسرعة الخطو للوصول الى هذا التأثير الموحد في شكل يجمع بين الثراء والايجاز والوضوح. وعلى رغم رفض يوسف ادريس في تنظيراته لاستيحاء أي كاتب أوروبي فإن ملامح تشيخوف أو التشابه بين منهجه القصصي ومنهج تشيخوف يبدو واضحاً في بعض الاحيان "فارس الغروب" عنده وقصة "شقاء" الشهيرة، الحوذي الوحيد الذي فقد ابنه فيحكي للحصان وبائع العرقسوس الذي انفض عنه المشترون فيلجأ إلى ايقاع صاجاته، و"على ورق سوليفان" الزوجة التي تكتشف اخيراً أهمية زوجها الجراح البارع في مصر، و"الجرادة" التي تكتشف الشيء نفسه عن عبقرية زوجها عالم البكتريولوجي.
فالايجاز وحذف الزوائد يستوجبان عند الكاتبين وعياً حاداً بالتحكم وكيفية الملاءمة بين التضادات ووتيرة حلها. ولكن يوسف ادريس لم يكن ناقلاً عن "شتاينبك" ولا مقلداً "لتشيخوف"، وإنما صدرت رؤيته وأشكاله الفنية عن موقفه الخاص من تناقضات واقعه، ما اسهم في اضافته الفنية الى أدب القصة القصيرة. كان يرى أن القيود القمعية في السياسة والاقتصاد والفكر والأخلاق غير طبيعية مضادة للحياة في جوهرها الاصلي وتلقائيتها "المقدسة". وفي واقعه الانتقالي كان يمجد في الجماعية المتآلفة طابعها البيولوجي البدائي، وفي الفردية الحرة تلقائيتها شبه الغريزية وفي الحالين يرفض الجمود الآلي القاهر من ناحية، والسوقية المغلقة على ذاتها من ناحية أخرى. ويدعو الى التحرر والانطلاق مما هو متحجر وخانق ومصطنع، والى احترام للحياة المتدفقة في جميع اشكالها. وقد لاحظ النقاد ان الجنس يلعب دوراً رمزياً عنده كاحتجاج على قيم القهر ومحرماتها غير الطبيعية. فهو رمز للطاقة الأولية التي تتعرض للكبت من المؤسسات القمعية وخصوصاً في الفترة الانتقالية.
وكان هذا الاحتفاء بالجنس من سمات قصص عيسى عبيد وشحاتة عبيد في العشرينات، قصص الغيرة والخيانة الزوجية والاشتهاء التي ترد دوافعها الى عوامل البيئة والتقليد. لكنّ الجنس عند يوسف ادريس نموذج للظواهر "الطبيعية الصحية". ومن الطريف ملاحظة بطلة "أكبر الكبائر" وتشابهها مع إحدى شخصيات شتاينبك في "الكأس الذهبية" التي تمارس حياة "زنا" نقية من كل دنس. فالرمزية البيولوجية تجمع بين ادريس وشتاينبك وهي تتجاوز أي طابع "حيواني".
وينفرد يوسف ادريس بطريقة في القص تعتمد على الطريقة التي يحكي بها الناس بعضهم بعضاً في مصر الأحداث الجارية التي وقعت لهم ويعلقون عليها، طريقة شفاهية لكلام تلقائي في اطار توصيل حميم، وسمات كلام الراوي مهمة في التأثير مثل المواقف والأحداث المروية.
ولغة يوسف ادريس في الحكي الحي على الألسنة تقدم صوراً لكلام الشخصيات، صوراً قصصية لكلام مغاير لقول الراوي، ولن نسمع صوت المؤلف في لغة رصينة منمقة تحلق فوق المناطق اللغوية للشخصيات بواسطة تخلله هذه المناطق على مسافات وانحاء متفاوتة. فقد تكون نبراته متعاطفة أو متهكمة، تقف على مبعدة أو متداخلة، وربما اقتربت هذه "اللغة" بمستوياتها المتعددة من الفصحى الصحافية والعاميات المصرية المتباينة مما يسميه النقد باللغة الحوارية أو المتعددة الأصوات.
* ناقد مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.