نمو الجولات السياحية ودعم الاقتصاد الوطني    «الحونشي»    حظي عجاجه والحبايب (قراطيس) !    هل بقيت جدوى لشركات العلاقات العامة؟    المسار الموثوق    أبها يتغلب على الخليج بهدفين في دوري روشن    نادي الرياض يتعادل مع 10 لاعبين من النصر    القمر يقترن ب «قلب العقرب» العملاق في سماء رفحاء    الدكتوراه لفيصل آل مثاعي    «الثقافة» و«التعليم» تحتفيان بالإدارات التعليمية بمختلف المناطق    سفارة المملكة في إيرلندا تحتفي بتخرج الطلبة المبتعثين لعام 2024    الاستثمار الثقافي والأندية الأدبية    د. رائد الحارثي: الذكاء الاصطناعي هو الحل للجدولة    "منشآت" تختتم أسبوع التمويل بمناقشة الفرص والحلول التمويلية لروّاد الأعمال    الهلال يتفنن بثلاثية أمام الطائي    تنوع أحيائي    مشروعات عصرية    ماذا بعد طلب «الجنائية» توقيف قادة في إسرائيل وحماس؟    مجدٌ يعانق النجوم    ثانوية السروات تحتفي بتخريج الدفعة الأولى من نظام المسارات    يونايتد المتعثر يقف أمام سيتي الطامح لكتابة المزيد من التاريخ    نزاهة: حادثة التسمم الغذائي بأحد مطاعم الرياض لن تمضي دون محاسبة    الراجحي يتحدى مرتفعات «باها اليونان» في كأس العالم    إثراء يختتم قمة الاتزان الرقمي "سينك" بنسختها الثانية    فيصل بن خالد يرأس اجتماع الجهات الأمنية والخدمية المشاركة في منفذ جديدة عرعر    فيلم "نورة"يعرض رسميا في مهرجان كان السينمائي 2024    فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة الشرقية يكرم موظف سوداني    انطلاق الهايكنج في الحريق    موعد احتفال الهلال بلقب دوري روشن    مستشفى أبها للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للربو"    مستشفى الحرجة يُنظّم فعالية "التوعية عن ارتفاع ضغط الدم"    عرض ضخم من الهلال لجوهرة البرتغال    وزير الخارجية يستقبل وزير خارجية النمسا    القبض على وافد بتأشيرة زيارة لترويجه حملات حج وهمية ومضللة    علامة HONOR تكشف عن بنية الذكاء الاصطناعي المكونة من 4 مستويات وتمضي قدماً مع Google Cloud من أجل مزيد من تجارب الذكاء الاصطناعي في VivaTech 2024    الداخلية: دخول مكة والبقاء فيها ممنوعان للزائرين    دفعة جديدة من العسكريين إلى ميادين الشرف    السعودية تدعم عمليات الإنزال الجوي الأردني لإغاثة الفلسطينيين في غزة عبر مركز الملك سلمان للإغاثة    السعودية تفوز بعضوية مجلس منتدى النقل الدولي ITF    إصدار 54 ترخيصاً صناعياً جديداً خلال مارس 2024    أمير حائل يشكر جامعة الأمير محمد بن فهد    رفع كسوة الكعبة المشرَّفة للحفاظ على نظافتها وسلامتها.. وفق خطة موسم الحج    أدبي الطائف يقيم الأمسية السودانية ضمن لياليه العربية    تمكين المرأة.. وهِمة طويق    برعاية وزير الداخلية.. تخريج 142 مجندة من الدورة التأهيلية    جنة الأطفال منازلهم    الخريجي يقدم العزاء بمقر سفارة إيران    معرض «لا حج بلا تصريح» بالمدينة المنورة    دشن هوية «سلامة» المطورة وخدمات إلكترونية.. الأمير عبدالعزيز بن سعود يتفقد سير العمل في الدفاع المدني    الكاتب العقيلي يحتفل بتخرج إبنه محمد    الاستعداد النفسي أولى الخطوات.. روحانية رحلة الحج تبعد هموم الحياة    توريد 300 طن زمزم يومياً للمسجد النبوي    الأمير سعود بن مشعل ترأس الاجتماع.. «الحج المركزية» تستعرض الخطط التشغيلية    آل مجرشي وآل البركاتي يزفون فيصل لعش الزوجية    مغني راب أمريكي ينهي حياته في بث مباشر    "أبرار" تروي تحديات تجربتها ومشوار الكتابة الأدبية    استشاري: حج الحوامل يتوقف على قرار الطبيب    جناح الذبابة يعالج عيوب خلقية بشرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة إلى إبراهيم عبد القادر المازني . محاورة التوتر الابداعي الغارب بين مرارة العبث ووعي الذات
نشر في الحياة يوم 13 - 06 - 2001

ها أنذا بعد أكثر من نصف قرن، منذ أن رحلت عنا يوم 10 آب اغسطس 1949 - وكنتُ عندئذ معتقلاً في بقعة نائية مخوفة هي محجر الطور - أكتب إليك لأنك ماثل عندي لم تغادرني منذ وعيت كتابتك في أواخر الثلاثينات، ربّما. لأقول لك - وأنت لك حضورك بيننا نحن محبيّك العارفين بفضلك - إنك جديد على الدوام، خصيب وملهم باستمرار.
لعل أول ما يبدهني عندك هو ما أحسه قائماً عندي من دون حل ممكن: هذا التناقض الغني - الذي لعله من أسرار الفن - بين أن الوجود إنما هو مرهون بما نحسه به وما نعرفه عنه، من ناحية، وبين أن "الدنيا" باقية بعد زوالنا، والكون الصخري حولنا راسخ لا يبالي إن كنا أو لم نكن.
تناقض أول عندك - وعندي - يرفده ويغذوه تناقض ثان لا يقل عنه حدة ومضضاً: بين وضعنا الزائل العرضي في هذا الكون وبين لجاجة النزوات المحرقة نحو اغتراف متع الحياة الحسية والروحية معاً كأن الحياة خالدة أبداً، على معرفتنا اللاعجة بأن هذه الحياة أوهى من "خيوط العنكبوت" ومن "حصاد الهشيم".
ولعلك يا سيدي آثرت الانحياز إلى موقف يغلّب ديونيزيوس - الشبق والعربدة - على أبوللو - الاتزان والصحو، من دون أن ينفيه تماماً، بل من غير أن ينفيه على الاطلاق، أي أنك تسلم للهوى الجامح بسيادته على المواضعات العقلية الباردة المحددة، على أن العقل في النهاية هو الإمام العدل في الكتيبة الخرساء، لكن الفن ينأى عن متطلبات "الكتيبة الخرساء" ولعله يقترن باضطرام شعلة الحياة التي هي القيمة النهائية.
هذه الهموم الكلية، في زعمي، هي هموم العصر - عصرك وعصرنا معاً - عصر ما بعد الرومانسية، ما بعد الثورات، عصر القلق، عصر الوعي الحاد بالذات وبالآخرين وبالكون.
هي هموم كانت تنوء بمعاصريك، يا سيدي من كتاب الغرب، من أمثال فيرجينيا وولف وألدوس هكسلي ومارسيل بروست، ود. ه. لورانس، وغيرهم، وأرجح الظن مع ذلك أنك لم تعرفهم معرفة وثيقة على الأقل، والشائق، والمهم أنك، باعتبارك كاتباً مصرياًَ في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، كنت تستقي من هذا الينبوع المر الذي سقى كتاب عصرك في أوروبا، على غير اتصال حميم بينكم في الأرجح، وأن همومك تساوق هذا العصر، وإن كانت تجري في سياق مصري خالص متفرد له مذاقه الخاص الحريف.
كنت أميل، في ظني، إلى الطرف الثاني للتناقض، بمزاجك الحسي المتقد، وتكوينك النفسي الخاص، ومنهجك العقلي الذاهب إلى الشك في كل شيء، شكاً يراوح بك أبداً بين الرأي ونقيضه، كنت أبيقوري المنزع، مرهف الاستجابة للذاذات الحس والقلب والعقل معاً، مقبلاً عليها، منهوماً إليها، شديد التنبه مع ذلك إلى زوالها وعرضيتها الأساسية، مدفوعاً بك، لذلك، إلى نوع من اليأس الوجودي، والمرارة. فأنت تطلب خلوداً تعرف أنه مستحيل، خلود الذات، وخلود المتعة. كما تطلب خلود الكون، وخلود الوعي، وأنت تطوي نفسك - كأنما برغمك - على قبول - من غير تسليم أبداً - بأن كل شيء إلى فناء، كل شيء، ومن هنا كانت أوبتك إلى التوراة حيث وجدت فيها أجمل تعبير عن هذه الهموم الإنسانية العريقة المتجددة الوقدة.
أليس في ذلك كله ما أجده في نفسي، وفي كتابتي، وها أنذا في الخامسة والسبعين من العمر، وفي كتابي الخامس والتسعين، ما زلت أجالد حساً بأنني في السابعة عشرة وبأنني لم أكتب شيئاً بعد.
مع ذلك فإن في هذه الأبيقورية شرياناً رواقياً مستكناً، يرى أن ثم أخلاقية ضرورية عُليا ليست مملاة ولا مفرطة، بل إنيّة كامنة قائمة بذاتها وأن ثم سعادة في هذه الفضيلة.
ذلك التناقض آخر لا حل له إلا في الفن، إذ أن الفن في ظني هو سيد المتناقضات.
إن فنّك العظيم يا سيدي إنما يرجع - أساساً ومن بين أمور أخرى - إلى هذا التوتر المستمر بين المتناقضات، بين الحس الكوني المرير بالعبث والمحال، وبين توهج الوعي بالذات - غير منفصلة ولا معزولة عن الآخر، عن المجتمع، عن الكون - وبين الحفاوة المستغرقة التي لا نهاية لها بمتع الحياة ولذائذها.
من هذا التوتر المستمر الذي لا ينتهي أبداً إلى استرخاء تتأتى نغمة الاحباط عندك يا سيدي، مقترنة بالكد والسعي الذي لا يهن، نغمة اليأس النهائي الشامل، الذي تتوقد في صلبه نواة حارة من النهم إلى الحياة، أي من الأمل.
ومن هذا التوتر القائم أبداً تأتي عندك تلك الخصيصة التي تنقذ فنك من البوار: خصيصة السخرية الرخية الكريمة المعدن، والدعابة الطيبة اللاذعة معاً، أي "الهيومر" العقلي الرحب بلا التواء ولا أدنى غل.
تلك خصائص البيئة الوجدانية العقلية التي تنمو فيها كتاباتك: مستضيئة بالصحوة، واليقظة الحسية والروحية معاً، وحدة اللحظ ودقة النظرة، وانفتاح البصيرة إلى سعة فسيحة ترصد الدقائق الموجعة والمثيرة للضحك جنباً إلى جنب، من دون أن تجرح أو تُصمي أو تشين، من دون زراية ولا تشامخ ولا نبذ للإنسان - أفضل ما فيه - نبذ الشيء الذي لا خير فيه. على العكس، إن كانت سخريتك بالناس فهي سخرية بالذات أولاً وقبل كل شيء.
أريد يا سيدي في هذه الرسالة الموجزة أن أردّ عنك تهمة ذهب إليها بعض نقادك، إذ زعموا أنك تعكف على نفسك تتقصاها وتنحلها ولا تني تصور هواجسها وخوالجها، فهُيّئ لهم أنه الهوى النرجسي العقيم المحكوم عليه سلفاً وبالضرورة بأنه جاف ومحل. وخيل إليهم أنك هارب من الحياة، ناكص عنها متنصل من تبعاتها.
أنت يا سيدي لم ترخ عنانك تماماً لديونيزيوس ولم يغلبك على أمرك قط جماح أهوائك، ولم تحلق بك قطّ، ولم تهو هوياً فاجعاً، أجنحة الصبوات الغامضة - كما لعلني فعلت حيناً بعد حين - أنت لم تنفلت قط من رقابة عين العقل وتقليب الفكر، ولم تنج قط من تمحيص العواطف والانفعالات - بل تشريحها - أنت دائماً ترد نفسك إلى مكروهها، تحملها على التوقف حتى في قلب النشوة المذهلة عن الوعي.
هل أساوقك يا سيدي في هذا أم أقصر عنك قصوراً كبيراً؟
ذلك أن عندك دأب عقلي على الترشيح والتحليل يقترن دائماً بنشوة الحس فيحكمها ويعدلها، بل يوقفها أحياناً إيقافاً في مسارها فيعطلها أو يبطلها، لكني يا سيدي أحلق معها في شطحات شعرية تسري فيها شرايين سوريالية لعلك لم تعرفها.
ثم ان عندك يا سيدي حساً قاطعاً، كالسكين المرهفة السن، بالكاريكاتور الاجتماعي، سخريتك بالنفس بل حملتك عليها يعدلها تهكمك بالآخرين مع رحمتك بهم، ومراحك الطلق خفيف الدم.
أما الفانتازيا عندك فهي نزرة مستترة ومكنونة.
أنت يا سيدي - سواء كان اسمك ابراهيم المازني أم ابراهيم الكاتب - تقذف بنفسك في خبرة واحدة متصلة مقضي عليها - بطبيعتها نفسها - بالاحباط، لكن الإقبال على معاناة الخبرة وحده هو الانتصار الوحيد الممكن على الاحباط، وفي الوسع أن نسمي هذه الخبرة اسماء شتى: هل هي الوصول الى الذرة الخصيبة الكامنة في الحياة، قلب الحياة الغض الثر الدسم التربة؟ هل هي العودة - حيث لا زمان ولا عودة - إلى الأصل والجذر الدفين المذخور فيه لب الوجود نفسه؟ هل هو - بلغة مصطلح علم النفس التحليلي مهما كان في المصطلح من صلابة المواضعات وجفاف بطاقات التسميات صراع الطفل الأبدي في قبضة المركب الأوديبي ضد سطوة الأب الغائب، ونحو حنان الأم المحبوبة؟ هل هو الحنين إلى الأمم الأولية، إلى ينبوع الخير الحسي والوجداني، في مواجهة عسف مبدأ الواقع والضرورة؟ إن المركب الأوديبي هنا يثري كثيراً باستيعابه مضمونات تتجاوز الموقف العصابي وحده وتنطوي على حدس للموقف الإنساني كله بإزاء مشكلة المشكلات: الحياة والموت.
ذلك هو التصور الذي يكسب عملك الفني، يا سيدي، معناه الكامن، هو تصور، في يقيني، مشروع ومبرر ومدعم بالتكوين الداخلي للعمل نفسه، وهو من ثم ليس عملاً من اللون الرومانسي، كما ذهب إلى ذلك الناقد الكبير علي الراعي في كتابه "دراسات في الرواية المصرية"، بل هو من لون رحلات أبطال القرن العشرين، وما بعده على الغالب، هم على الأصح "لا أبطال" في العالم الداخلي الذي يتخذ لنفسه حدود العالم الكوني كله.
هل تسمح لي يا سيدي بأن أرى في عمقك الروحي طفلاً أبدياً، ألجأته صدمة الحرمان من الأم - أو من الحبيبة التي اتخذت بديلاً من الأم - إلى أن يتوحد بالأب - أي بالمنطق، بالعقل، بمبدأ الضرورة، بحكم الواقع.
ومن ثم جاء هذا التوتر المشدود أبداً بين قطبين متضادين متجاذبين في ساحة واحدة هي ساحة الصراع الداخلي في نفس مرهفة الحساسية، بل في النفس الإنسانية عامة، إذا جرؤت على القول، الصراع بين العقل والهوى، بين كل مجد الحياة وروعة لذاذاتها، حميميتها وداخليتها، وبين كل ما هو خارج هذه الحياة أي ما هو ثابت متحجر جامد، ما هو قانون غريب مفروض عسفاً يُكبل انطلاقة الحياة.
لذلك أفهم تماماً يا سيدي - أنت ابراهيم الكاتب - هتفة التشاؤم المريرة عندك بأن كل شيء عبث وقبض ريح، في الوقت الذي تمضي فيه مع ذلك تعب عباً من عباب الحياة الزاخر الجائش بالمتعة والحب من دون ريّ أبداً ومن دون وصول إلى حافة الإشباع، تانتالوس المحكوم عليه بحرقة الظمأ والأوام الصاري، قد ضرب عليه "يقين العطش" وهو مغمور في لجة المياه العذبة السلسال.
هذا عن الطبيعة الداخلية، عندك يا سيدي.
أما الطبيعة الخارجية فهي ليست عندك مجرد وظيفة فنية فحسب، ليست صوراً مساعدة تؤكد وصفك لحالات النفس، وليست ديكوراً خارجياًَ يعين على الإيهام والإيحاء، هي في ظني من حالات الوعي الداخلي نفسه، وإسقاط مباشر كامل للنفس على الخارج، بل هي أكثر من ذلك، مقوّم من مقومات الموقف الداخلي الذي يعانيه الوعي ويبلوره. أنت تقول عن سميك ورصيفك: "كان دأبه أن يدور بعينيه في نفسه ليطلع على كل ما فيها، وأن يجيلها في ما هو خارج عنها ليحيط بكل ما وراءها، ولكنه قلما رأى شيئاً خارجها إلا من خلالها".
ومن أوقع فقرات "إبراهيم الكاتب" وصف ذلك الريف الشتوي المبهم الممطر الموحل الملبد الذي تتشابه فيه المعالم في نوع من الرمادية الغائمة، أو تثور ثائرته وتهمي سحباته الكثيفة الواحدة فتغمر مجاليه.
وما أقل ما عرف كتابنا هذا الريف الشتوي، وما أقل ما أصغوا إلى تقلباته الحية، وما أقل ما خرجوا من كليشيه الريف الربيعي الجامد الذي يتردد في كتاباتهم بشمسه المشرقة الثابتة، كأنه حلية ميتة أو قالب مرصوص بلا خصائص متميزة، أهو فقر في ريفنا ورثاثة فيه، أم فقر في الوعي به ورثاثة في الحس به؟ هذا الحس الدقيق بالريف المصري، عندك يا سيدي، يؤازره تشرّب يكاد يخامر أدبك كله مخامرة حميمة للروح المصري، بل القاهري بالذات.
لكن الخصيصة الأخرى التي تفجؤنا بين الحين والحين في كتاباتك هي هذا التوقف فجأة في مسيرة الوعي، أمام الطبيعة، فإذا كل شيء متحجر، مظلم، جامد، كأنها لمسة الميدوزا التي تحيل كل شيء حجراً، فيغيض ماء الحياة من كل حي، هذه الوقفة المفاجئة في الحس، هذا الشلل الذي يحول الوعي النابض المرهف إلى موضوع خارجي قاتم، يحدث عندك - أي عند إبراهيم الكاتب - في فترات التأزم الذي لا يطاق. وهو - بالطبع - بصيرة نفسية وفنية صادقة فضلاً عن أنه حيلة أو تكنيك بارع وناجع، من حيل الدفاع عن الذات أمام الهجمات التي لا راد لها. "استحال كل شيء في السماء والأرض صورة مرسومة. كأن هاوية من الخرس قد ابتلعت كل صوت ونأمة. كأن الأرض قد ضرب عليها السحر شيطان وزلزلها حال غير إنسانية يُعيي الإنسان نعتها، وكأنها في غيبوبة أفقدتها وعيها. هذه الدنيا التي أنامتها عين غير مرئية".
وهو في إحدى أزماته:
"راقد بوجه من الخشب ذلك السكون الذي يجعله يتوهم أنه يحلم بنفسه، وأن حياته وجسمه وكل شيء، كل أولئك ليس سوى حلم يتراءى له، وأن كل ما يبدو لعينيه ويجده قلبه يكنّه صدره ويقع له، هذا كله قد حدث من قبل في مكان آخر ووقت غير هذا".
هل من فضل القول الآن، في ما يخيل إليّ أن ألح على كل ما يتناقض مع الرومانسية في رؤيتك الفنية، كما تتبدى في كل كتاباتك القصصية، أنت من أدق الناس حساً بالخدوش والثغرات والنتوءات الواقعية، منظوراً إليها بمنظار بلوري رائق شفاف، وأنت من ألطف الكتاب سخرية ومعايشة لنفسك وللناس، أنت تبدأ رائعتك "إبراهيم الكاتب" وتنهيها بالسخرية من نفسك، وأنت تعطي للطبيب اليهودي الذي قام بإجهاض "ليلى" اسم "الدكتور أفراييم" أي ابراهيم، وهنا أكثر من مجرد المعابثة بنا وبنفسه بل فيه حدس وإيحاء بأنه، إبراهيم الكاتب أو ابراهيم المازني هو نفسه، الذي أجهض ثمرة حبه وقضى على بذرة الخصب فيه.
ومن الأمثلة التي تجتزئها اجتزاء لأسلوبك المضاد للرومانسية أنك مثلاً ترسم تكوّن علاقة حب في قصة لك بعنوان "ناهد". فتأتي بنا إلى حدائق القناطر الخيرية وهي من مشاهد قصصك القصيرة المتكررة الأثيرة إليك، وتقول عن الفتاة: "لكنها كانت مسرورة - النبيذ الماسخ - وهذه الدكة الخشبية الناشفة - والأرض الخضراء المتموجة والأشجار الباسقة الهرمة - والشمس التي تملأ الدنيا بشراً ودفئاً، وأخيراً هذا الرجل".
هذا مجرد نموذج للمقابلة البارعة في قصصك القصيرة بين عناصر الواقع المتآلفة بخشونتها ودماثتها معاً. أما أسلوبك البياني فما أظنني في حاجة إلى الإفاضة فيه، فمن الواضح تماماً أن لك أسلوبك المتفرد الذي يسمو - طبقات فوق طبقات - على أسلوب الكثرة الكاثرة من كتابنا العصريين والقدامى على السواء، ولا غرو أنك معدود في الطبقة الأولى من كتاب العربية القصصيين المبدعين في اسلوبك المعجز بنضارته وحيويته، بمرونته ومتانته معاً. أنت يا سيدي أسعدتنا جميعاً، وكثيراً، بثراء لغتك وكشوفك فيها.
اسمح لي مرة أخرى أن أقول إنك قد نحتّ لنفسك هذا القاموس الغني الفذ بدوام معاشرتك للقدامى من كتاب العرب وصلتك الحميمة بالمحدثين من كتاب الغرب على السواء، أما ولعك بالتراكيب الشعبية تدخلها في صلب لغتك - وأمثلتها لا عداد لها - فقد جعلت لتلك اللغة مذاقاً خاصاً حبيباً إلى القارئ المصري بخاصة. نستمع إليك، على سبيل المثال القاصر المحدود إذ تقول: "فلو أنها رأت ما أرى لطقت وانشقت مرارتها من الغيرة والكمد" أو "على ذراعه فتاة مليحة منظرية" أو "دبت بها الرجل بين وعور الحياة" أو "أقول لنفسي وقعت وقعة سوداء" أو "لكن عينه - على قصر نظرها وعمشها - بقيت تزوغ" أو "خشي أن تزل قدمها في الزحاليق" وهكذا بلا حصر ولا عداد.
على أن تلك كلها هي السمات الظاهرية لأسلوبك - مع عظمتها وروعة إنجازها - ولكن المهم حقيقة هو شفوف هذا الاسلوب عن صاحبه - وصاحبه هو أنت البطل في كل عملك الفني - بل التصاقك به، فهو اسلوب متدبر، محكم، يدير النظر في النفس ولا يغفل عن الخارج قط، حساس كالوتر المشدود، وعر، ومر، لكنه على قوته دمث، سريع الفيء إلى الرضا، وعلى رغم لينه وسماحته فيه صلابة وعنف وتمرد، تلك كلها من أوصاف البطل في قصصك لكنها أيضاً أصدق الأوصاف لأسلوبك، والمطابقة هنا أكثر من أن تكون مجرد مصداق للمثل السائر بأن الاسلوب هو الرجل، فالأسلوب هنا هو الوعي الداخلي بكل وعوره وسهوله، وشطحاته وسبحاته، هو اسلوب يقترن بالحركة الداخلية للنفس الحساسة اقتراناً عضوياً.
لذلك لا ندهش عندما تقول لنا يا سيدي: "إني لأكتب الآن وكأني أضرب بالسياط، ولا أكدأ أبداً حتى أراني أعدو طلباً للغاية، ورغبة في الانتهاء". أنت تكتب في حموة التداغم مع صميم ذاتك، من دون انفصال، ومن دون هوادة، وعلى عكس معمارية طه حسين القاطعة المشرقة القائمة بالعقل والمحكومة به وحده، في "دعاء الكروان" مثلاً، وعلى عكس صرير أسنان التروس الخشنة الناتئة التي تكاد تسمعها، بل تصك سمعك في "سارة" العقاد، فإن صياغتك الاسلوبية صياغة لدنة مندمجة بمضمون الخبرة الانفعالية والعقلية في تداخل عضوي وثيق.
ولعل من المدهش، مع ذلك، أنك تستخدم تكنيك الحوار الداخلي أو المناجاة الداخلية تأتي بها في صلب السرد من دون فاصل شكلي وتسلكها في عقد الحكاية من دون تمهيد، كلما اقتضت منك الضرورة الفنية ذلك، متبعاً نهج أضرابك من كتاب ما اصطلحنا على تسميته "تيار الوعي" الغربيين، ولعلك أسبق كتابنا في ارتياد هذا النهج.
ذلك، أنك تستخدم طريقة السرد الموجز المبتسر الغني بالإيحاء، والذي عرفناه عند همنغواي، استخداماً يأخذ علينا أنفسنا، ثم انك تستخدم طريقة التدخل المباشر فتحدثنا وجهاً لوجه، بين قوسين كما يفعل الكتاب الذين يعمدون إلى نفي الإيهام، وإلى التغريب بمعناه البريختي المعاصر، وأنت تدخل هذه الهوامش في قلب روايتك، تقطع الحكاية لتعلق عليها أو تتهكم بها، أو تعابث قارئك وتداعبه، لا عن سذاجة في استيعاب فن القصة بتكنيكه التقليدي، بل عن عمد يقصد به التبعيد بين القارئ وبين وهم الاندماج في القصة، لتحقق من ذلك غرضاً فنياً واضحاً. أنت يا سيدي تستخدم هذه الطرائق الفنية الحديثة في قصصك القصيرة على الأخص وهي قصص كاملة في نوعها، ما زالت حية بل متدافعة الحياة على رغم أنها تصف قاهرة عفا عليها الزمن، قاهرة سكانها مليون وربع المليون، وما زال من الممكن أن تركب فيها الترام على راحتك، أو الحنطور ألم يكن فيها أوتوبيس؟، قاهرة "غروبي" و"سان جيمس" في عزهما، وما زالت امبابة قرية في ضواحيها، وبيتك في صحراء الإمام التي كانت على حدودها وهي الآن في قلبها، والقناطر الخيرية خلاء يسع المرء فيها أن يقبل حبيبته على هواه، وفيها البنات اليهوديات يعملن في المكاتب ويراقصن الرجال في النوادي الخاصة، قاهرة آخر العشرينات وأوائل الثلاثينات.
هي قصص أقرب إلى المناخ التشيخوفي، وإن كانت المأساة فيها دقيقة المدخل، مسترقاً بها، مستخفية، وفيها من مشاهد الحب أعذبها وأحلاها في قصصنا القصيرة، وأخفها على النفس، وأضوأها في القلب. وهي قصص تختتم عادة بقبلة مع دعابة بارعة. السخرية إحدى خصائصها الأساسية، سخرية المعابثة والفكاهة، من غير مرارة كاوية ولا سخط مدمر، سخرية الذي يعرف نقائص الناس وقصورهم وأوجه عجزهم ويغفرها لهم لأنها من نقائصه وأوجه قصوره وعجزه هو نفسه، وفيها مع ذلك مفارقات تتأتى من ذكاء قاطع لامع كحد السكين ونظرة يسطع كل شيء في ضوئها سطوعاً يدفعك على رغمك إلى الابتسام والقهقهة، وفيها حوار شديد اللوذعية، إن صح التعبير، يبدو لنا تلقائياً عفوياً يتسلسل بشكل طبيعي الى نقطة انفجار الضحك - وهو بالفعل كذلك - وإن كان لا يخطئنا أن ترى تدبيره والإعداد له والتصاعد فيه نحو ذروته في تمهيدات بارعة محسوبة.
هذه السخرية - أيضاً - من أجل الدلائل على الالتصاق الحميم بينك وبين المصريين عامة، والقاهريين بالذات، ومخالطتهم، وتجاوبه معهم.
أما حسك الفلسفي، العبثي بالكون، وتشاؤمك العقلي والانفعالي، فلن تقنعني حجة، مهما كانت، أنهما مصداق الهرب من الحياة، أو علامة على النضوب، ذلك أنه علينا - في تواضع - أن نستشف جوهر هذا الحس العبثي وأن نرده إلى أصله الحقيقي في توقد محبة الحياة لا في جفاء كراهتها، وأن نضعه الموضع الصحيح في أحد قطبي التناقض الذي يقابل بين انهمار وعي الانسان وبين جمود مادة الكون، ويحيط بهما معاً في صيغة محكوم فيها بالفناء على الوعي الإنساني. وهو كل ما للإنسان، بل هو الإنسان.
في هذا الوعي المشبوب، وفي صدق التعبير عنه، إلى جانب القيم الفنية الكثيرة، والسامقة، تكمن فضيلتك الأساسية يا سيدي، والقيمة الأخلاقية العالية لفنك العظيم.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.