أغنية "المحبة" التي أدتها جوقة اللويزة، مترافقة مع ازاحة الستار عن تمثال نصفي لجبران خليل جبران للنحات زافين حاديشيان، على تلة مشرفة على وسط بيروت، شكلت مفارقة في تزامنها مع حدثين... على بعد امتار قليلة. فالحديقة المقابلة لبيت الأممالمتحدة والتي ستحمل اسم جبران في أول نشاط تخليدي لذكراه خارج بلدته بشري منذ سبعين عاماً كان طرفها الغربي يشهد تظاهرة لأطفال ونسوة فلسطينيين جاءوا في ذكرى "يوم الأرض" للتعبير عن غضبهم مما يستهدف أهاليهم في أراضي السلطة الفلسطينية، في حين كانت قاعة المؤتمرات في مبنى الأممالمتحدة تستضيف ندوة لبنانية - سويسرية هدفها "اثارة مسألة الذاكرة الجماعية للحرب اللبنانية وما يحيط بها من مشكلات يتم تجاهلها". كلام النائبة بهية الحريري التي مثلت شقيقها رئيس الحكومة رفيق الحريري في افتتاح "حديقة جبران" على انها ترمز "الى تطلع لبنان الدائم نحو الانبعاث والتجدد والاصالة"، قابله حديث لمديرة ندوة "ذاكرة للغد" أمل مكارم عن ان انقطاع اللبنانيين عن ذاكرة الحرب وحتى نكران الحدث شهد في الحال اللبنانية "بعداً في منتهى الخطورة اذ لم يُعمل على وضع الماضي جانباً، بعض الوقت، ريثما يتم استيعابه فحسب، بل عمل اللبنانيون أيضاً كأن الماضي لم يحصل يوماً، وما حصل هو اجهاض لمرحلة التحول، وانطلاقاً من ذلك أخضع السلم الذاكرة للرقابة القصوى ووضعها في خدمة السلطات السياسية". كان المتظاهرون في الخارج ينادون يا "عروبة اتحدي اتحدي" ويهتفون "شارون عدو الله" ويحرقون العلم الإسرائيلي، في حين كان ضيوف الحديقة الجبرانية، وجلهم من فاعليات بشري وبيروت يستمعون الى رئيس "لجنة جبران الوطنية" فؤاد حنا الضاهر، وهو يخاطب "الحاضر والغائب والمغيب" عن "أممية جبران الموحدة للشعوب، تحتضنه بيروت التي تبقى عاصمة الثقافة عبر الزمن". وفي قاعة المؤتمرات كانت السيدة مكارم تعدّد ضحايا القتل على الهوية بين اللبنانيين وتروي شهادات ضحايا احياء عن الاغتصاب والمجازر التي ارتكبت. وتسأل: "من خلال المبادرة بعقد هذا المؤتمر اكتشفت أكثر من اي وقت مضى ان عدداً هائلاً من اللبنانيين يعيشون هاجس تكرار الماضي، فكيف نعمل على جعل الذاكرة مفيدة؟ وكيف يمكننا الانتقال من الرضوخ للأمر الواقع الى المصالحة في ما بيننا وجعل اللبنانيين الذين يعيشون في مكان واحد يعيشون في زمن واحد؟". حديقة جبران المزينة بالورود وببركة ماء وممرات من الغرانيت وبضع اشجار تظلل مقاعد خشباً، لم تجتذب الاطفال الفلسطينيين المتظاهرين أو ربما هم منعوا من دخولها لحظة الاحتفال، فيما راح وزير الثقافة اللبنانية غسان سلامة في كلمته امام المؤتمرين يشرح ان تمسك لبنان بحق عودة الفلسطينيين "لا يعني انتقالاً الى حيث كان الأهل فحسب بل أيضاً نقلة ذهنية نحو تملك الماضي من خلال استرجاعه العملي وتفعيله ليكون نصيراً على تحمل الحاضر وبناء المقبل من الزمن". كان المشهد بأبعاده سوريالياً بامتياز.