ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين جراء عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 36439    الهيئة العامة لمجلس الشورى تعقد اجتماعها الرابع من أعمال السنة الرابعة للدورة الثامنة    التخصصي يعالج حالة مستعصية من الورم الأصفر بعد معاناة 26 عاما    لأول مرة على أرض المملكة.. جدة تشهد غداً انطلاق بطولة العالم للبلياردو    هييرو يبدأ مشواره مع النصر    الاتحاد بطلا لشاطئية الطائرة    التجارة تدعو لتصحيح أوضاع السجلات التجارية المنتهية تجنبا لشطبها    الحزن يخيم على ثانوية السيوطي برحيل «نواف»    المملكة تسجل أقل معدل للعواصف الغبارية والرملية لشهر مايو منذ 20 عاماً    اجتماع حضوري في الرياض على هامش أوبك يضم السعودية وروسيا والإمارات و5 دول أخرى    "الجمارك" تبدأ قبول دفتر الإدخال المؤقت للبضائع    عقود ب3 مليارات لتصنيع وتوريد أنابيب الصلب ل"أرامكو"    مواطن يزوّر شيكات لجمعية خيرية ب34 مليوناً    وحدات تأجيرية للأسر المنتجة بمنى وجبل الرحمة    «رونالدو» للنصراويين: سنعود أقوى    الجامعة العربية تطالب المجتمع الدولي بالعمل على إنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة    أمير الرياض يستقبل زبن المطيري المتنازل عن قاتل ابنه    "فعيل"يفتي الحجاج ب 30 لغة في ميقات المدينة    أمير الشرقية يهنئ رئيس المؤسسة العامة للري بمنصبه الجديد    3109 قرضا تنمويا قدمته البر بالشرقية وحصلت على أفضل وسيط تمويل بالمملكة    الصناعة والثروة المعدنية تعلن تخصيص مجمعين لخام الرمل والحصى في بيشة    توافد حجاج الأردن وفلسطين والعراق    "مسبار" صيني يهبط على سطح "القمر"    تواصل تسهيل دخول الحجاج إلى المملكة من مطار أبيدجان الدولي    الأهلي يلاقي الأهلي المصري في اعتزال خالد مسعد    "الصحة العالمية " تمدد مفاوضات التوصل إلى اتفاقية بشأن الأوبئة    «الصهيونية المسيحية» و«الصهيونية اليهودية».. !    كارفخال يشدد على صعوبة تتويج الريال بدوري الأبطال    البرلمان العربي يستنكر محاولة كيان الاحتلال تصنيف الأونروا "منظمة إرهابية"    إرهاب «الترند» من الدين إلى الثقافة    ارتفاع ملموس في درجات الحرارة ب3 مناطق مع استمرار فرصة تكون السحب الممطرة على الجنوب ومرتفعات مكة    جنون غاغا لا يتوقف.. بعد أزياء من اللحم والمعادن.. فستان ب «صدّام» !    جامعة بيشة تحتفل بتخريج الدفعة العاشرة من طلابها    توجيه الدمام ينفذ ورشة تدريبية في الإسعافات الأولية    غرامات وسجن وترحيل.. بدء تطبيق عقوبة «الحج بلا تصريح»    فيصل بن فرحان يؤكد لبلينكن دعم المملكة وقف إطلاق النار في غزة    بونو: قدمنا موسماً استثنائياً    لهو الحيتان يهدد السفن في المحيط الأطلسي أرجعت دراسة ل "اللجنة الدولية لصيد الحيتان"، سبب    «تراث معماري»    روبوتات تلعب كرة القدم!    بعضها أغلق أبوابه.. وأخرى تقاوم.. تكاليف التشغيل تشل حركة الصوالين الفنية    اطلاق النسخة الثالثة من برنامج "أيام الفيلم الوثائقي"    البرامج    قصة القرن 21 بلغات العالم    قيصرية الكتاب: قلب الرياض ينبض بالثقافة    التصميم وتجربة المستخدم    مقاطع ريلز التجريبية أحدث ميزات «إنستغرام»    "أسبلة المؤسس" شهود عصر على إطفاء ظمأ قوافل الحجيج منذ 83 عاماً    توزيع 31 ألف كتيب لإرشاد الحجاج بمنفذ البطحاء    الدفاع المدني يواصل الإشراف الوقائي في المسجد النبوي    «المدينة المنورة» صديقة للتوحد    تركيا: تكاثر ضحايا هجمات الكلاب الشاردة    إصدار 99 مليون وصفة طبية إلكترونية    توصيات شوريَّة للإعلان عن مجالات بحوث تعزيز الصحة النفسية    مشروع الطاقة الشمسية في المركز الميداني التوعوي بالأبواء    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة الشعر العربي المغنى وتحليل موسيقاه . المؤدي الناجح موسيقي موهوب في الدرجة الأولى ... وآلته حنجرته
نشر في الحياة يوم 29 - 03 - 2001

المؤدي الناجح هو موسيقي موهوب في الدرجة الأولى، وآلته الموسيقية هي حنجرته، وتحضير هذه الحنجرة يتطلّب دراسةً ومراناً لا تقل مدتهما عن مدة دراسة العزف على أية آلة موسيقية.
وهذا المؤدي يتحلّى بالآتي: الموهبة والاستعداد الطبيعي، الالمام بالعلوم الموسيقية ولا سيما علم الأداء، التمرّس بالعزف على آلةٍ تساعده في الأداء السليم، التحلّي بجمال الصوت المصقول بالمران المستمر مع امكان أداء مختلف أنواع الغناء والقوالب الغنائية، معرفة عميقة بعلم المقامات اللحنية والمقدرة على الارتجال الغنائي، حُسن اللفظ وصحة مخارج الحروف، الرغبة الدائمة بسماع كبار المؤدّين قديماً وحديثاً، والسعي الى الأفضل في مناخ فني ينمي فيه امكانات حنجرته الصوتية، الحضور الفني والمقدرة على التعبير الصادق والإحساس المرهف في الأداء، وذلك في تجسيد دوره بأمانة كمعبر عن الصور الشعرية وأحاسيسها، تفهم عميق والتزام صادق بما يوحي له الملحن ويمليه عليه في تأدية اللحن، وما ينصحه به الناظم من حيث اللفظ ومخارج الحروف، تعاون صادق وموضوعي مع الناظم والملحن من حيث تجسيد الكلمة ومعناها أدائياً، أو من حيث تغيير حرف يصعب لفظه، وابداء الرأي باللحن وصعوبة أدائه، الزامية تعاونه مع الملحن والناظم حتى انتهاء العمل ليصل الى غايته.
والمؤدي الجيد، هو بالتالي المغني الجيد، فأساس الغناء المطرب هو الأداء السليم الخالي من العيوب والمملوء بالاحساس، يكمله الصوت الجميل بطاقاته الجمالية الصوتية.
قال أبو المنذر بن الكُلبي: "الغناء على ثلاثة أوجه: النصب، السناد، والهزج. فأما النصب فغناء الركبان والقينات. وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله وهو الذي يثير القلوب".
وسئل ابن سُريج عن فنه، فلخص مبادئه الأساسية قائلاً: "المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الالحان ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، وينغم الألفاظ، ويعرب الصواب، ويقيم الاعراب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطيع النغم القصار، ويصيب اجناس الايقاع، ويجتلي النبرات، ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النقرات".
أما جوهر فن ابراهيم الموصلي فيبدو انه يرجع الى حسه الموسيقي الكامل ومعرفته العميقة بالغناء والآلات الموسيقية. فقد وضع يوماً بين ثلاثين ضاربة على العود يعزفن مقطعاً موسيقياً في تساوٍ تام، فتعرف على واحدة من بينهن تخطئ ودلها على الوتر غير المستوي، في حين ان علمه الدقيق بوقفات وفواصل جدول العود الموسيقي مكنه من الضرب ببراعة على عود غير مستوٍ.
يُقال انه كان يبدأ غالباً بأصوات حادة، فيبقي اللحن فترة، ثم يبدأ بالتخفيف تدريجاً حتى يصل الى الصوت الرخيم ثم القرار. وبعد ذلك يرتفع من جديد نحو الأصوات الحادة، وينتقل مرة أخرى من القوي الى البسيط وهكذا حتى ينتهي... ونجد هنا أهم خصائص الغناء الثقيل الذي سبقه اليه معبد، فإلى تقنية الغناء. حسّن ابراهيم نظام المقامات والإيقاع بايجاد فوارق بين الأنواع، وبإدخال ايقاع جديد وضعه بنفسه، وهو الماخوري الذي يبدو انه الغناء الطويل المؤدى في ايقاع تقليدي.
استناداً الى ما ذكرنا، فإن دعامة المؤدي الجيّد أو المغني المطرب هي العلم والاحساس اللذان تسلح بهما أئمة المغنين في العصور السابقة كابن سريج، ومعبد، والموصليين. فالأداء الجيد مع الصوت الجميل والاحساس بما يقال يحرك العاطفة ويدخل القلوب، اذ ان العربي حساس، شدته وتشده باستمرار النغمة الحلوة والأداء المميز، ويكفي المغني ان يعطي من اعماقه عندما يغني لكي يحدث لدى المستمع العربي فتنة تقارب النشوة. وكلمة طرب التي عنت على الدوام بالنسبة الى العرب الأثر الذي تحدثه الموسيقى في الانسان، تساوي التعزيم السحري، حيث يبلغ الاحساس النفسي والعاطفة ذروة يعجز الكلام البشري عن وصفها. وقد يحدث، العكس، ذلك ان نفس هذا العربي التي تهتز حتى أعماقها عند سماعها مقاماً أو تقسيماً يؤدى على آلة محببة، تبقى غريبة احياناً عن أعظم المؤلفات السمفونية.
يضيف سيمون جارجي في المؤلَّف عينه وفي الاتجاه نفسه، أن المحسنات والزخارف تبرع في أدائها الأصوات الشرقية وحدها، وهي من الفن الموسيقي بمنزلة الزخرفة لفن التصوير. أما النظام الايقاعي والنغمي فقد أغنته مجموعة من التنسيقات التي تجاهلت تماماً المقام الغربي.
فعلى المغني أن يجهد النفس في الحفاظ على الايقاع الذي هو الأساس في الأداء الصحيح، وهذا الايقاع يشكل جزءاً جوهرياً في بنيان الموسيقى العربية، أعطته منذ القديم خصوصاً وفي شكل قاطع أكثر من النظام المقامي حتى ان اسحق الموصلي سمح بتشويه أصول المقام ولم يسمح بذلك بالنسبة الى الايقاع. وتظهر الايقاعات ظهوراً أوضح مع أوائل المغنين العرب، والاشارات الدقيقة الواردة في كتاب الأغاني للأصفهاني تعيد الينا أهمها، متميزة خصوصاً بألفاظ زمنية: كالسريع والخفيف والثقيل. ولمعرفة دور الايقاع العربي الخاص، يكفي ان نعلم انه يستعمل كدعامة للنغم، كما يدعم البحر الشعري الكلام.
لذا، فمسؤولية المغني مسؤولية كبرى من الناحية الثقافية والفنية، وتاريخ الموسيقى العربية امتزج بتاريخ مغنيها وملحنيها، حيث ظل الغناء الملحن ترافقه الآلات التقليدية المتماثلة الصوت مثالاً يعكس في نظر الجمهور والمؤلفين أفضل هذه التقاليد.
إن التراث الأدائي أو العلم الأدائي لم يصل الينا دفعة واحدة، بل هو نتيجة تمخض عنها هذا العلم، وكان من كبارها في بدايات هذا القرن المطرب عبده الحامولي 1845-1901م، الذي يعتبر مدرسة في علم الموسيقى والأداء، وبفضله عرفت النهضة الحديثة الأغاني القديمة الموقعة والمقطعة والمعتمدة على الشعر المقطعي - والتي عرفت في الأندلس - رواجاً كبيراً، وهي الموشح والدور.
على المؤدي المتنبه ان يستفيد من خبرة من سبقوه في هذا المضمار، اذا أحب ان يتقدم ويبرع أدائياً، وأن يفقه معاني الصيغ الغنائية كالموشح، وكيفية أدائه حيث كان يقسم في السابق الى مقاطع ولازمة مع جوقات وصوت منفرد، فقد أصبح يُؤدى خصوصاً في الجوقة، ويُبنى على المقامات التقليدية المستعملة كالراست... والبيات والنهاوند والحجاز، ويستعمل كذلك ايقاعات كالمصمودي 8/4، والسماعي 9/3، والاكساك اللامتناسق 8/9، والمربع 4/8... الخ.
والدور أيضاً هو شكل متفرع من الموشح، يحتوي مثله على ايقاع موسيقي معزوف ويغنى على المقامات التقليدية مستعملاً الشعر المقطعي على شكل رباعيات. ويتخذ مقطع المقدمة عادة كلازمة، ولكن تسلسل الحركات الايقاعية لا يطابق التسلسل المتبع في الموشح.
ونجد أيضاً لزاماً على المؤدي البارع ان يتمرس بجميع أنواع الغناء القديم والحديث، اذا أحب ان يبرع وأن يُغني فنه وأداءه كأن يعتاد على موسيقى البشارف والسماعيات التي تعتمد الآلات التقليدية متفردة بحركات ايقاعية مغايرة تدخل الى الايقاع الرئيسي. وهكذا فهو يحتوي على أربعة أجزاء رئيسية تدرج بينها كل مرة حركة واحدة تسمى التسليم، حيث تكرر معاً لازمة النغم والايقاع الرئيسي. وهي تصلح أيضاً لقفل البشارف. ومع ان البشرف متميز بالأثر التركي، لكنه يبدو انه يتصل بالنوبة القديمة في الأندلس والمغرب التي ما زالت تعرف بنوع موسيقي يتقدم الموشح. والسماعي له دوره أيضاً في عملية اغناء المؤدي هذه، فهو لفظاً، ايقاع يؤدى موسيقياً، ويقترب شكله من البشرف مع توسع موسيقي أقل.
ونرى انه من الضروري ان يتمرس المغني في علم الأداء، من حيث حسن اللفظ ومخارج الحروف، مع معرفته بعلم المقامات اللحنية وعلم الايقاع.
أما علم مخارج الحروف وتقسيماته فقد بحثه الدكتور ماهر هلال في كتابه "جرس الألفاظ"، والذي يصب في خانة تحسين الأداء ومعرفة جرس كل حرف وموقعه وموسيقاه، خدمة للأداء المميز الصحيح الذي هو أساس الغناء الصحيح مع الصوت الحسن والمدرب.
فالانشاد يتم به التنويع في داخل الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية. ويقصد به قراءة الشعر وانشاده على حساب ما يتطلبه المعنى، وعلى نحو ما هو معروف في فن الإلقاء. لذا، فهو يقتضي الضغط على بعض المقاطع والكلمات في خلال البيت، وطول الصوت في بعض الكلمات، وقصره في الأخرى، وعلو الصوت أو انخفاضه. وكل ذلك يعتمد على فهم معاني الأبيات، وصلتها بنفس صاحبها، وقدرته على تصوير انفعاله فيها، ونقل التجربة كاملة الى المستمعين. وفي هذه الحال يكون النغم والوزن والتطريب والرنين من العناصر الرئيسية. وبيان ذلك أننا نقيس في العروض مقاطع الصوت قياساً كمياً، على حين ان هناك مقاييس كيفية لها تأثير كبير في كمية حروف الكلمات وموسيقاها، منها درجة الصوت علوّاً وانخفاضاً، ودوام الصوت طولاً وقصراً، ونبرة الصوت قوة وضعفاً، ثم نسبة ورود الصوت كثرةً وقلة، وأثره الايحائي.
واذا كانت الكلمات في اللغة العربية يُنطق بمقاطعها على سواء وهي منفردة، فإن الكلمات في الجمل، وبخاصة في الشعر، تقتضي نطقاً تكتسب به صفة خاصة من الصفات السابقة، وبه تتنوع موسيقاها. فيحس المرء في قول ابن الرومي وهو يصف المغنية وحيداً وامتداد صوتها:
من الخفيف
مد في شأْوِ صوتِها نفسٌ كافٍ كأنفاسِ عاشقيها مَدِيْدُ
نلاحظ ان حرفي المد، الياء والألف، يترددان كثيراً في هذا البيت، كأنهما يوحيان بارتفاع صوت تلك المغنية وامتداده طويلاً، حتى تصبح الحاجة ماسة الى ان تمد صوتك بذينك الحرفين، من دون ان يؤثر ذلك في وزن البيت أو يسيء الى موسيقاه أو ايقاعه، بل يزيد ذلك كله جمالاً وبهاءً وحسن تعبير.
وفي ذلك كله يظهر تنويع الصوت على حسب موقع الكلمة، ثم على حسب الاستفهام، والتعجب، والنداء، والنفي، والاستجابة، والدعاء، الخ...
خلاصة القول: ان السعي الحثيث لدى المغني في تثقيف نفسه، ولو لم يكن رائع الصوت بل حسن الأداء والصوت معاً، غنياً بثقافته، قد يعوض عن أمور تنقصه ومنها روعة الصوت.
وبكلمة أخرى، فإن قضية اللفظ في تقسيمات الحروف ومخارجها، تنافرها وتلاؤمها، في بناء اللفظة المفردة وفي تراكيب الألفاظ، وفي طول اللفظة وقصرها، تدخل كلها في تحديد ماهية الجرس وضوابطه الحسية. فالأمر يتوقف على المؤدي الحاذق المثقف، وعلى مدى استيعابه لهذه العملية اللغوية. فالجرس هو الصوت ورنينه ومدلوله من جهة مخارج الحروف التي تتبع عيوب اللسان وعثراته في الابانة والافهام، ولأن الصوت مدرك بالسمع، فما استلذه فهو الحسن وما كرهه فهو القبيح، ومن له أدنى بصيرة يعلم ان للألفاظ نغمة لذيذة كنغمة أوتار، وصوتاً منكراً كصوت حمار. وإننا نشبه صوت الألفاظ مع المؤدي الجيد بصوت المزمار والناي في تباين مقاطعهما الصوتية والنغمية، فكما تختلف قيم اللفظ الصوتية في مقاطع الكلام في السمع باختلاف أجراس مخارجها، كذلك تتباين نغمات الناي والمزمار تحت ضغط أصابع العازف على ثقوبهما. فقيم اللفظ الجمالية تسجل حضورها في أذهاننا كالأنغام، وواسطتها الأذن. والمؤدي الجيد يمس القلب والسمع معاً بأدائه وحسن مخارج لفظه وحروفه، فتستجيب حواسنا لمؤثراتها فترتاح للحسن، وتنبو عن القبيح منها بتمييز أجراس الحروف والكلمات.
يقول الدكتور عصام نور الدين: "هناك بعض المعطيات والعوامل الجسدية التي يجب ان تتوافر في المؤدي الجيد ليصل بفنه الى المستمع بعد ان يكون قد حافظ على نتاج الناظم والملحن، اذ انه الموصل الجيد أو الرديء لعملهما.
هذا المؤدي يجب ان يعرف أولاً كيف يستنشق الهواء، وذلك بضغط الحجاب الحاجز على الرئتين اللتين تشبهان المنفاخ الذي يأخذ الهواء من الخارج ويخزنه، فالهواء ضروري جداً، وكميته تحدد استمرارية الأداء ومخارج الحروف، وبالتالي امكان الاستمرار في الزخرفة الأدائية والتطريب. ومعرفة تخزين الهواء عملية جسدية بحتة، يلزمها المراس اليومي. فالهواء يدفع من خلال القصبة الهوائية الى الخارج فيدخل الحنجرة التي شبهها علماء العربية بالناي، ويهز الهواء المزفور الوترين القويين ويتحكم بهما، وبنسبة شدهما واستعدادهما للاهتزاز، ثم يصل الهواء الى الحلق الواقع بين الحنجرة وأقصى الفم، والمستغل كفراغ رنّان يضخم الأصوات بعد صدورها من الحنجرة، ويتحكم بإخراج الأصوات الحلقية أ - ه - ع - غ - ح -خ، ثم يأتي دور اللسان في عملية الأداء الخالي من عاهات النطق، فللسان مع الأسنان والشفتين السليمتين دور مهم وأساس في اخراج الأصوات الصحيحة والأداء السليم".
وتقول السيدة بديعة حداد: "إن الأداء الصحيح هو الأساس في موضوع الغناء الجيد، غربياً كان أم شرقياً، وعليه فإن على المودي الذي يتوخى الغناء الحسن والكامل ان يتمرس في علم القراءة الموسيقية الصولفيج لتركيز صوته. فعندما يوقع قراءتها ويغنيها لاحقاً يتمكن من صوته وأبعاده. وهذه التمارين يجب ان تتألف من تمارين في المقامات الغربية وتمارين في المقامات الشرقية السهلة، على أن تكون هذه التمارين في الطبقة الصوتية المتوسطة حيث تصلح لجميع الأصوات الحادة منها والغليظة".
أما التقنية في الغناء، فترتكز على قواعد مهمة، منها:
أ- كيفية الوقوف في أثناء الغناء في شكل مستقيم، حيث يسهل الغناء من دون انزعاج وبطريقة صحيحة.
ب - التنفس: التمرس عليه يومياً لتقوية الحجاب، حيث يتوصل الطالب المؤدي الى اختزان أكبر كمية ممكنة من الهواء في رئتيه، فعليه القيام بتمارين خاصة لتوسيع خلايا الرئتين للاحتفاظ بكمية الهواء فيهما، وبكيفية اخراج الهواء بطريقة منتظمة، يمكنه بواسطتها الغناء أطول مدة ممكنة، وهذا يؤثر في طريقة اخراج الألفاظ عند وجود كمية من الهواء كافية للأداء، فتظهر بوضوح أكبر وصورة أعمق، وذلك لإكمال الجملة الغنائية.
ج - ان يقوم الطالب بتمارين تمكنه من ارسال صوته بشكل صحيح يسمع من مسافة ممكنة، من دون ان يتعب أوتاره الصوتية.
د - للطالب توسيع مجال طبقات صوته الى الحاد والغليظ.
ه - كما ان هنالك تمارين خاصة لتصحيح عيوب الصوت، وأهمها: الصوت الحلقي - والصوت المنخري أو الأنفي - الصوت المرتجف - المبحوح - المخنوق، الذي يشكو من ضعف في أداء بعض الألحان والأصوات.
وعلى المؤدي في أثناء تمارين تركيز الصوت ان يتمرس على لفظ مقاطع مختلفة على العلامات الموسيقية باللغتين الأجنبية والعربية اذا أمكن لتحسين لفظه على النغمات الموسيقية.
وهناك أيضاً تمارين صغيرة متدرجة موضوعة خصيصاً لتحسين اللفظ في شكل مقطوعات غنائية متنوعة المسافات والأبعاد الصوتية.
وعلى المؤدي ان يتمرن على جمل غنائية مختلفة المعاني، تساعد على كيفية التعبير الاحساسي في أثناء غناء أو أداء كل حال. وهي على سبيل الذكر لا الحصر: الفرح، التأسف، المعاتبة، الحزن، اليأس، الألم، الحب، القلق، الخ...
ان الغاية من هذه التمارين، تمرس المؤدي على الأداء الصحيح للمقطوعات الغنائية من حيث التعبير والاحساس الصحيحين.
استناداً الى ما جاء على المؤدي تثقيف نفسه وتحضيرها لهذا العمل الابداعي وذلك بمعرفة طرق وفنون الأداء التي اعتمدها من سبقوه ولو نظرياً، كما عليه ان يحسن لفظه الذي هو الواسطة الفضلى للاتصال بالمستمع، لا ان يغني بأداء أعجمي بعيد من أصالة اللغة وقواعدها.
يقول جورج هنري فارمر: "إن المرء لا يستطيع ان يتحمل سماع شعر عربي ينشده أعجمي لحظة واحدةً، لأن الأعجمي يعجز تماماً عن اعطاء المخارج الصوتية حقها، وضبط مخارج الألفاظ التي لا يمكن تجزئتها البتة عن فن الشعر، وخصوصاً عندما يصب في قالب غنائي".
لذا، على المؤدي ان يتمرس بحسن اللفظ وان يعوّد عوده على الأداء الجيد للحروف ومخارجها. وإن هو ابتلي بعاهة في النطق، فعليه الابتعاد عن هذه المهنة الرسالة.
وفي رأينا، أن المؤدي الجيد يجب ان يتمتع بكمال النطق وحسنه، كما هي الحال مع جمال الصوت وعُرُبِه، وإلا أثار الضحك والاشمئزاز وأحياناً السخط على الناظم والملحن لسوء اختيارهما. فعلى المؤدي ان يبدأ بانشاد مقطع ما قبل غنائه، لتحسس مقاطعه ونبرته وايقاعه وجوه العام، ويُستحسن ان يكون ذلك باشراف شريكيه الناظم والملحن، لكن يطمئنا لاحقاً الى سلامة غنائه وأدائه.
إن المؤدي هو الجامع لنتاج الناظم والملحن في صوته وأدائه، فكم من كلام ولحن جيدين أوصلهما المؤدي بطريقة سيئة الى المستمع، فدمر عمل وجهد الأقنومين الآخرين، وكم من عمل عادي نظماً ولحناً توصل مؤديه باحساسه وذوقه الى ان يرفعه الى الروعة بفضل أدائه وإحساسه بالعمل.
لذا لا بد للمؤدي من ان يلم بعمل الاثنين كإنسان وكفنان، ولو بشكل معقول، وأن يتفاعل مع نص الأغنية ولحنها ويعيشها قبل أن يغنيها، بغية ايصالها الى المتلقي بأفضل صورة، مضيفاً اليها بصماته الخاصة من ثقافةٍ وحسن أداء، بصوت مهذب وقادر وأمين على العمل، لكي يكتب النجاح لهذه الأغنية.
ومن واجب الأقنومين، الناظم والملحن، أن يختارا المؤدي الجيد الذي يتمتع بحسن اللفظ وجمال الصوت. وغالباً ما يطلق اسم المطرب على المؤدي أو المغني، وهذا المطرب هو في صوته ورجعه وحسه. والطرب خفة وهزة تثير في النفس الارتياح وتجعل المستمع العربي يقول آه أو يصفق، وهذا التطريب وصلة تلي الأداء أي الاجادة عند مَنْ ملك الصوت الجميل والأداء السليم. والتفنن بالأداء يليه التطريب، أي عندما يطرب المستمع وتظهر على محياه علائم السعادة والانسجام، فيعبر اما بصوته أو بيديه، وذلك لشدة اعجابه بأداء المطرب المميز.
هذا الأقنوم الثالث، له رسالة خطيرة لأن علم الأداء علم قائم بذاته وعالمه خاص. من هنا يأتي اصرارنا على ان يتحلى المغني المؤدي المطرب بصفات علمية تجمل مواهبه وتصقلها، لأن الصوت الجميل من دون الأداء السليم يبقى ناقصاً كجسم بلا روح.
* مقدّم. ملحن ومحاضر في الموسيقى. والمقال هو الفصل الثالث من كتابه "الشعر العربي المغنى" الذي سيصدر عن دار قدمس، دمشق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.