في اثناء الحرب العالمية الثانية وبُعيد انتهائها اشتدّت ضراوة المنافسة بين الجريدتين المصريتين الصباحيتين الكبيرتين وهما "الاهرام" بتاريخها الطويل منذ ان انشأها في عام 1875 سليم تقلا ت 1892 وبشارة تقلا ت 1901 وجريدة "المصري" لصاحبها محمود ابي الفتح ت 1958 وهو المحرر السابق في جريدة "الاهرام"، وكان انشأها في عام 1936 بمشاركة كريم تابت 1903 - 1964 ومحمد التابعي ت 1976 ثم انفرد بها محاولاً التشديد على مصريّتها في مواجهة شاميّة "الاهرام" عساه يتفوق على غريمته فيكتسح سوق القراء من دون منازع. وفي حين اقتصرت "الاهرام" على محرريها التقليديين، توسعت جريدة "المصري"، في استخدام عدد من الكتّاب الشبان النابهين، ومنهم الشاعر عبدالرحمن الخميس 1920 - 1987 والاديب الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي 1920 - 1987 والروائيان سعد مكّاوي 1916 - 1985 وعبدالرحمن صادق ت 1999 وغيرهم، وافسحت لهم صفحات الجريدة يُثرونها بآثارهم من شعر ونثر ومترجمات. وفوجئ قراء "المصري" ذات صباح بالدكتور محمد مندور يحتلّ الصفحة الاولى بمقالاته الافتتاحية، وكان استقال من عمله في الجامعة كأستاذ للادب العربي، وخاض ميدان الصحافة بكل زخمه. ولم يكن الدكتور منذور وقتئذ معروفاً لقراء الصحافة اليومية، وكانت شهرته تنحصر في المجلات الادبية التي كان ينشر فيها مقالاته فيتابعها المعنيّون بالادب. اما وقد صار على رأس محرري جريدة يومية، فقد بدأت مقالات الصدر اليومية التي يكتبها بتوقيعه الصريح تُعالج قضايا السياسة وقضايا الناس باسلوب ثوريّ، انطلاقاً من المذهب اليساري الذي كان مندور يعتنقه. ولم يلبث ان استأثر باهتمام القراء، لانهم رأوا في مقالاته نحواً جديداً غير معهود في الصحافة اليومية، فمقالاته تشبه المعاول والمطارق التي تهوي على كل ما في الحياة العامة من عِوَجٍ وقصور، وفي فترة وجيزة اصبح اسم مندور على كل الالسنة، واكتسب شهرةً لم ينل شيئاً منها من عمله السابق كأستاذ جامعي، وصار بالتالي واحداً من قادة الرأي الاشدّاء الذين يقولون ما يعتقدون بكل جهارة حتى ولو دخل السجن - وقد دخله فعلاً. وكنت مع بعض الزملاء الصحافيين نُعجب بهذه الظاهرة الصحافية الجديدة المتجسّدة في الدكتور محمد مندور، فتوافقنا على ان نراه رأي العين وعلى الطبيعة لأنه صحافي من طراز مُغاير للاطرزة التي ألفناها. وعرفنا ان الدكتور محمد مندور مُنتسب الى لجنة التأليف والترجمة والنشر برئاسة الدكتور احمد امين بك 1886 - 1954، ومن هنا قرّرنا ان نتطفل على هذه اللجنة في ندوتها الاسبوعية، وغايتها الوحيدة هي اكتحال العينين برؤية الدكتور مندور. وتوجهنا في موعد انعقاد الندوة الى حارة الكرداسي المعتمة في حي عابدين، ودخلنا دار التأليف والترجمة والنشر، وإذ هي دار عتيقة تكاد ان تكون متهالكة تقع المطبعة في طابقها الارضي، ويجتمع اعضاء الندوة في غرفة تعلوها. ولم نصادف خفيراً يمنعنا من دخول الدار، ولا اعترض سبيلنا احدٌ من - جال الامن - ولم يكن لهم وجود او ضرورة - ولا من رجال مكاتب الاستعلامات الذين يتمترسون عادةً في مداخل المؤسسات والهيئات، ومهمّتهم الرئيسية لا تسهيل ولوج هذه المؤسسات، بل "تطفيش" الراغبين في دخولها من ذوي الحاجات، فلم تكن هناك أشباهٌ لهذه المكاتب التي استشرى خطرها في يومنا الحاضر. واحتللنا بعض المقاعد المتناثرة في القاعة من دون ان يصدّنا احد، ورأينا الدكتور احمد امين بسمته الوقور الهادئ يتصدّر الندوة، يحيط به اعضاء اجلاّء منهم الدكتور محمد عوض محمد بك العالم الجغرافي الكبير 1895 - 1972 والعالم الدكتور احمد زكي بك 1894 - 1975 ومؤرخ الاندلس محمد عبدالله عنان 1898 - 1976 والفيلسوف الدكتور زكي نجيب محمود 1905 - 1993 ومن اليهم. ولكننا كنا نألف هذه الوجوه جميعاً، اما الوجه الذي لم نألفه وجئنا خصيصاً لرؤيته فهو وجه الدكتور محمد مندور، فلم يسبق لنا ان رأينا صورته منشورة مع مقالاته - كما درج على ذلك معظم الصحافيين في يومنا الحاضر - وكنا نظن ان مندور الثائر سينقل ثورته الى ندوة لجنة التأليف، ولكننا رأيناه هادئاً، يتكلم بصوتٍ خفيض ويناقش بمنطق، أما مظهره فغاية في البساطة التي ترتدّ الى اصله الريفي، فلا تأنّق في الملبس ولا تفاخر في الكلام، ولا رطانة تذكّر الحاضرين بسنواته التسع في باريس. ولكن، يبدو ان استقلالية مندور بآرائه الثورية اصطدمت برؤى الجريدة - وهي لسان حال حزب الوفد المصري - فترك مكانه فيها وانتقل الى جريدتين وفديتين أخريين محدودتي الانتشار هما "صوت الأمة" و"الوفد المصري". وعندما صدر كتابي الاول - وهو مسرحية "الاب" المترجمة عن الاديب السويدي أوغست سترندبرغ - في عام 1945 رغبتُ في الاقتراب من الدكتور مندور بإهدائي نسخة من الكتاب اليه. فزرته في جريدة "صوت الامة" وقدّمت الكتاب اليه، وكان وقتها مستغرقاً في الكتابة، فرفع رأسه وشكرني، ثم استأنف الكتابة. ولم أشأ ان افرض نفسي عليه فانصرفت. وعندما ذكّرته بهذه الواقعة بعد سنوات قال: لعلّك تعذرني لعدم اهتمامي بك، إذْ خشيت ان ينقطع حبل تفكيري وأنا أرحّب بك. وتعددت لقاءاتي مع الدكتور محمد مندور، إذْ شاركت معه في مناظرتين عامتين، وفي ندوتين اذاعيتين في برنامج "مع النقاد" الذي كانت تديره سميرة الكيلاني زوجة محمود امين العالم والشاعر فاروق شوشة، والتقيت به في رابطة الادب الحديث، كما زارني غير مرة في مكتبي، ولكنني كنت أتفادى إحراجه عندما كنت اراه في مصيف رأس البرّ الشعبي وهو واقف بجلبابه الابيض في متاجر الفاكهة واللحم لشراء حاجات الاسرة. فقد كان في اسلوب حياته فلاحاً ابن فلاح، تنطبع في كل ملامحه وتصرفاته صور الريف المصري. اي ان السنوات التسع التي قضاها في باريس بين عامي 1930 و1939 دارساً هناك لم تفرنجه او تُدخل الاعوجاج على لسانه شأن بعض العائدين من الجامعات الاجنبية. كان محمد مندور ذا رأس كبير وجسم ممتلئ وعينين غائرتين - ربّما من كثرة المطالعة والكتابة - وكان خفيف الروح يطلق النكات في مجتمعاته، كما كان في ذوقه شعبيّاً اي ابن بلد. ولهذا كان يستسهل استخدام اللهجة العامية في ندواته ومحاضراته للوصول الى عقول الجميع وقلوبهم. وقبل اتجاه مندور الى الصحافة، اشتغل اولاً بالتدريس في جامعة فؤاد الاول القاهرة الآن بين عامي 1939 و1942، وانتقل الى جامعة فاروق الاول الاسكندرية الآن بين عامي 1942 و1944، واشتغل فترة بالمحاماة بين عامي 1948 و1950 وانتخب عضواً في البرلمان، وكان في اثناء ذلك كله يكتب في كثير من الصحف والمجلات الادبية، وأهمها "الثقافة" لمحررها الدكتور احمد امين بك و"الرسالة الدريدة" لمحررها يوسف السباعي 1917 - 1978 ومجلة "البوليس" لمحررها سعد الدين وهبة 1925 - 1997 كما كان يكتب يوميات في جريدة "الجمهورية" قبل ان يتولى رئاسة تحريرها حلمي سلام ت 1997 الذي بطش بمندور وبكل كبار الكتاب في الجريدة وأحالهم على العمل في مؤسسات "باتا" للاحذية واللحوم ومغالق الاخشاب!! ولكن طاقة مندور كانت اكبر من ان تحتملها الكتابات الصحافية المرهونة بوقتها وزمانها، فعمل استاذاً في معهد الدراسات العربية العالية التابع للجامعة العربية حيث القى مجموعة من المحاضرات التي درس فيها حركة الشعر المعاصر بعد شوقي، كما درس مسرح توفيق الحكيم 1898 - 1987 وعزيز اباظة 1898 - 1973 واحمد شوقي 1868 - 1932 وألقى محاضرات عن اسماعيل صبري 1854 - 1923 وخليل مطران 1872 - 1949 وولي الدين يكن 1872 - 1921 وكلها محاضرات نشرت بعد ذلك في كتب تشهد لمندور بباعه الطويل في الدراسات الادبية والنقدية. كما عمل استاذاً في معهد التمثيل والبحوث الفنية وتخرج على يديه كثيرون من العاملين في ميادين التمثيل والفنون بصفة عامة والنقد الادبي والفني. ولد الدكتور محمد مندور واسمه الكامل محمد عبدالحميد موسى مندور في 5 تموز يوليو 1907 في قرية كفرمندور في محافظة الشرقية، وبعد ان اكمل دراسته الابتدائية والثانوية التحق بكلية الحقوق في جامعة فؤاد الاول ونال شهادة الليسانس منها، ثم الحق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب في الجامعة نفسها وظفر بشهادتها. وأوفد بعد ذلك في بعثة دراسية الى باريس للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة السوربون، ولكن قيام الحرب العالمية الثانية في عام 1939عتجّل بعودته الى القاهرة قبل حصوله على الدكتوراه، وان كان ظفر من هناك بدبلوم في الادب الفرنسي. ومن ثمّ عاد الى الالتحاق بجامعة فؤاد الاول ومنها نال درجة الدكتوراة في الادب العربي في عام 1934. وبفضل استاذه الدكتور طه حسين 1889 - 1973 عين ضمن هيئة التدريس في كلية الآداب - جامعة فؤاد الاول، وفيها التقى الطالبة ملك عبدالعزيز التي كانت في السنة الثالثة بالكلية، فاختارها زوجة له في عام 1941، وارتأى مندور منعاً للحرج الناشئ عن كونه زوجاً لتلميذة في صفوفه، ان تترك ملك الدراسة نهائياً قبل ان تظفر بالشهادة الجامعية، لا سيما انها اصبحت حاملاً في توأمين. وقد أخرج الدكتور محمد مندور طائفة من نفائس الكتب، وهي عدا ما سلفت الاشارة اليه: "في الميزان الجديد" و"نماذج بشرية" و"النقد المنهجي عند العرب" و"في الادب والنقد" و"المسرح النثري" و"الادب ومذاهبه" و"النقد والنقاد المعاصرون" و"قضايا جديدة في ادبنا الحديث" و"فن الشعر" و"الادب وفنونه" و"في المسرح المصري المعاصر" و"في المسرح العالمي" و"كتابات لم تنشر". كما ترجم عن الفرنسية "منهج البحث في اللغة والادب" لغوستاف لانسون وانطون مايه و"دفاعاً عن الادب" لجورج ديهاميل و"مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير وغيرها. وقد تعرض الدكتور مندور لطارئ صحي افقده البصر مؤقتاً، إذ نبت في جبهته ورم ضغط على اعصاب العينين فاسودت الدنيا امامه، ولكن الجراحة التي اجريت له في لندن لاستئصال هذا الورم، ردّت اليه بصره، وقد اشيع وقتها ان الدكتور مندور لقي وجه ربه حتى إن الشاعر السعودي طاهر زمخشري ت 1987 رثاه بقصيدة مؤثرة، استصفح الدكتور مندور عنها عندما التقى به مصادفة في رابطة الادب الحديث بالقاهرة. ومن المهام التي أُسندت الى الدكتور مندور مهمة إجازة المسرحيات المقدمة لتمثيلها على مسارح الدولة. ومن طريف ما يذكر ان استاذاً جامعياً - كان يشار اليه بلقب المستشار الثقافي - تقدّم بمسرحية من تأليفه الى الدكتور مندور للحصول على إجازته لها. فلمّا قرأها مندور استهول ما فيها من مواقف لا تليق، فكتب على المسرحية عبارة مشهورة هي "تُحال الى بوليس الآداب"، وهي عبارة تذكرنا بتأشيرة العقاد 1889 - 1964 المشهورة على النماذج النثرية المقدمة الى لجنة الشعر في المجلس الاعلى للفنون والآداب، ونصّها "تحال الى لجنة النثر للاختصاص!". وثارت ثائرة المستشار الثقافي، فكتب في الصحف يحمل على مندور، وهذا لم يلتزم الصمت، بل ردّ عليه رداً عنيفاً، واستمرت المعركة بينهما الى ان لقي الدكتور مندور وجه ربه في شهر أيار مايو 1965. وعندما كان اسماعيل صدقي باشا 1875 - 1949 رئيساً للوزراء في عام 1946 - وهو معروف بالبطش والعنف - انفجرت قنبلة في سينما مترو بالقاهرة، وعلى الفور نشط البوليس لاعتقال عدد كبير من رجال الفكر، منهم الدكتور محمد مندور وسلامة موسى 1887 - 1958 والصحافي محمد زكي عبدالقادر 1906 - 1982 وكانت الشبهة - ولا اقول التهمة - المضحكة المنسوبة اليهم هي ان لهم ضلعاً في جريمة القنبلة! والحديث عن الدكتور مندور لا يكتمل من دون الحديث عن زوجه الشاعرة ملك عبدالعزيز 1921 - 1999 التي انجبت له قبيلةً من العيال بحسب تعبير مندور تضم اربعة من الذكور وابنة واحدة، ولهذا لم يتسن لملك ان تعمل ابداً في حياتها، وإنْ كانت ارتضت ان يوضع اسمها كرئيسة للتحرير على مجلة "الشرق" التي كانت تصدرها دار نشر سوفياتية في مصر من دون ان تزاول اي نشاط فيها، كما ارتضت ان يوضع اسمها على مجلة "ادب ونقد" ضمن هيئة المستشارين الذين لا يُستشارون! وقد مرت ملك عبدالعزيز بظروف مفجعة عندما لقي ابنها العميد ماجد مندور مصرعه محترقاً في حادث احتراق طائرة وزير الدفاع المشير احمد بدوي. وقد قالت لي إنها اصيبت بعد ذلك بانهيار عصبي جعلها ترفض حتى الحياة نفسها. ولكن اولادها اقنعوها بعد تردّد شديد أن تتقبل إرادة السماء، وان تستجيب للعلاج النفسي الى ان تخلصت من هذه التجربةالقاسية. وقالت انها اغرقت نفسها بعد ذلك في خواطرها الشعرية، ولبّت كثرةً من الدعوات للمشاركة في ندوات ومؤتمرات شعرية في مصر وفي الخارج، وعاشت لمآربها الادبية ولا سيما بعدما استقل جميع ابنائها بحياتهم الخاصة. واصدرت في مسيرة حياتها طائفة من الدواوين هي "اغاني الصبا" و"الجورب المقطوع" و"قال المساء" و"بحر الصمت" و"ان ألمس قلب الاشياء" و"اغنيات الليل". كما اشرفت على إعادة طبع جميع مؤلفات زوجها، وجمعت مقالاته المتناثرة في المجلات واصدرتها في كتاب. وكانت خاتمة حياة ملك عبدالعزيز قمّة في الفجيعة، إذ كانت في يوم 28 تشرين الثاني نوفمبر 1999 تسير متكئة على عكازين - بسبب ضعف ساقيها - من بيتها في جزيرة الروضة الى بيت واحدٍ من ابنائها في الحيّ نفسه، فسقطت عليها شجرة باسقة قضت عليها في التو واللحظة. وكم تغنّت بالأشجار في شعرها، ولم تكن تدري ان هذه الاشجار الوارفة الظليلة تحمل لها الموت في طياتها. * كاتب مصري.