كأن الذين استثارهم اختيار جوزف ليبرمان، كمرشح لمنصب نائب الرئيس في الانتخابات الاميركية، نسوا مَن الذي اختار هذا السيناتور ولماذا. فالمرشح للرئاسة آل غور لا يقل صهيونية عن ليبرمان، بل ان رصيده الوحيد المؤكد هو انه مؤدلج صهيونياً. لذا لم يكن ليختار نائبه إلا في ضوء المثال والنموذج اللذين يؤمن بهما. اختاره لأنه يهودي تحديداً، ولأنه صهيوني تحديداً، لا لأن لديه أفكاراً استثنائية، اذ ان المرشحين الآخرين معروفون ايضاً بمبادرات ورؤية وحتى بتصورات اكثر عصرية وعولمية من تصورات ليبرمان لعالم القرن ال21 ومكانة الولاياتالمتحدة فيه. في اي حال، لا يشكل اختيار ليبرمان مفاجأة في السياق الذي شهدناه خلال ادارة بيل كلينتون، وانما يشكل نتيجة منطقية لهذا السياق. كان هناك سعي مبرمج الى ادخال اليهود الى عصب الادارة والمناصب الحساسة، ليس فقط في الخارجية حيث غدت العبرية لغة شبه الزامية في بعض اقسام الوزارة وانما ايضاً في مجلس الامن القومي والبيت الابيض ووزارتي الدفاع والاقتصاد. لكن اختيار يهودي لمنصب نائب الرئيس يكتسب بُعداً سياسياً واستراتيجياً خصوصاً انه سيكون مُنتَخَباً، وسيكون مؤهلاً دستورياً لتولي الرئاسة اذا خلا المنصب لأي سبب من الأسباب. لن يعني وجود ليبرمان في منصبه، اذا انتُخب، ان انقلاباً قد حدث في السياسة الاميركية حيال الشرق الاوسط. فعندما يتعلق الامر باسرائيل فإنهم كلهم ليبرمان من دون ان يكونوا يهوداً. وبات معروفاً ان الوضع الاستثنائي لاسرائيل، خارج القوانين والأعراف والمبادئ الدولية، هو من ثوابت "بيداغوجية" الادارة في الولاياتالمتحدة. والديبلوماسيون الذين تجاهلوا ذلك أو لم يعترفوا به تعلّموا ان النتائج تنعكس سلباً على مسيرتهم المهنية، حتى انهم سمّوا "مستعربين" تمييزاً لهم عن الذين استوعبوا الدرس واستسلموا لبديهية الانحياز لاسرائيل. كانت وراء ما يسمى "عملية السلام" الاميركية - الاسرائيلية كذبة كبيرة اسمها "بناء الثقة". واتضح بعد ثماني سنوات كلينتونية ان العرب مُطالَبون بقبول الانحياز الاميركي لاسرائيل " التفوق العسكري النووي " التحالف الاستراتيجي " الدعم المالي غير المحدود " تأييد اسرائيل في احتلال القدس وتسخيف قضية اللاجئين… على انها "اجراءات ثقة" لا يمكن ان يقوم سلام من دونها. وحتى مجرد القبول الصامت لا يبدو كافياً، وكأن العرب مُطالَبون ايضاً بأن يتمنوا على الولاياتالمتحدة ان تزيد انحيازها لاسرائيل كي يستقيم "السلام" وتولد "الحلول العادلة". هذا، على الاقل، ما يستدلّ من المعادلة التي يدافع عنها الرئيس كلينتون: أقصى الدعم والالتزام حيال اسرائيل مقابل "صداقة" مع العرب! مثل هذه المعادلات قد يفيد في معالجة "المسألة اللوينسكية"، كما عولجت، لكن حقائق الصراع في الشرق الاوسط تبقى اكثر تعقيداً. مثير للاهتمام ان نعرف رأي ليبرمان، مثلاً في ما تفوّه به الحاخام عوفاديا يوسف من شتائم عنصرية للعرب. هل ان الحاخام المخرّف قال بصوت عالٍ ما يفكّر فيه ليبرمان وغيره ضمناً. في "قواعد السلوك" التي أملتها اتفاقات اوسلو و"واي ريفر" يمنع المسؤولون والاعلاميون الفلسطينيون من "التحريض" ضد اسرائيل، وتلقى الكثيرون منهم لوماً او تنبيهاً او عقوبة لمجرد انهم أدلوا بآراء او تحليلات فيها توعية وشرح للتطورات وليس فيها اي تحريض. هذه القواعد لا تسري، كما يبدو، على بذاءات عوفاديا يوسف، وكان من واجب الفلسطينيين ان يحتجّوا رسمياً وجدّياً على ما قاله الحاخام بدل التصرّف كما لو انهم لم يسمعوا او لم يقرأوا. لم يقل ليبرمان ولا سواه من يهود اميركا، كما لم يقل اي مسؤول في اسرائيل انه يرفض هراءات الحاخام المتعصّب. ربما لأنهم كلهم عوفاديا يوسف. لكي تُدار "عملية السلام"، اميركياً، كما أُديرت حتى الآن كان لا بد ان يكون المعنيون بها "ليبرمانيين" و"عوفاديين" فالمطلوب من هذه "العملية" تبديد اي خطر على اسرائيل ووجودها وابقاء العرب جميعاً تحت التهديد الاميركي - الاسرائيلي. ومهمة من هم مثل "ليبرمان" السهر على استبعاد مفاهيم العدالة والتوازن عن اي سلام مع العرب، ومهمة من هم مثل عوفاديا الجهر بأن الصراع مستمر وان السلام ليس سوى كلام.