إذا عدنا الى بداية إرهاصات الإنتاج الروائي في السينما السورية، أي الى منتصف عقد العشرينات، نجد أن هذا الإنتاج يمتد - تاريخياً - على مدى خمسة وسبعين عاماً، وبهذا فإن للسينما السورية في العالم العربي سمة الريادة، في الزمن على الأقل، إذا استثنينا مصر التي أنتجت فيلمها الروائي الأول، "ليلى" عام 1927، في حين أنتج الفيلم الروائي السوري الأول "المتهم البريء" عام 1928. واللافت، في رصد مسيرة السينما السورية على مدى ثلاثة أرباع القرن، أن الأفلام، في مجال التقويم أو الانتقاد أو المماحكة، لا تزال حتى الآن، تناقش ما يسمى "أزمة السينما السورية" بنوع من المهاترات الدجاجية والمحاورات البيزنطية، وكلها يدور على "إنتاج المؤسسة العامة للسينما بين الكم والنوع" بعدما انقسم أصحاب هذه الأقلام فئتين: واحدة مع المؤسسة وواحدة ضدها. وهذا التقسيم محكوم بأسباب ومواقف شخصية و"شللية" مصلحية، من دون أن تكون هناك مقاربات حقيقية للأزمة - إن كانت هناك أزمة قائمة - أو حلول مطروحة لواقع الحال ومستقبله. موت غير معلن ماتت سينما القطاع الخاص في سورية موتاً غير معلن منذ نحو عشر سنوات من دون أن يجد أصحابها من يعلن هذا الموقت، أو يتحدث عنه، أو يتساءل عن أسبابه... واليوم تدور في الكواليس همسات على عودة غير معلنة أيضاً، لهذا القطاع الى الإنتاج، مع خروج مروان حداد المدير العام للمؤسسة ومجيء وزيرة جديدة للثقافة هي الدكتورة مها قنوت. فقد اتهم المدير السابق أنه كان أشرس أعداء القطاع الخاص السينمائي في سورية، ولم تمد الوزارة - المتمثلة بالمؤسسة - يد العون الى هذا القطاع بأي نوع من أنواع الدعم أو المساعدة أو التحفيز، بحجة أنه ينتج أفلاماً تجارية هابطة، وكان هذا حكماً عليه بالموت. لن ندخل في تفاصيل الجدال القائم منذ سنوات، خصوصاً في الصحافة السورية، حيال واقع هذه السينما، لما في هذا الجدال من مفارقات مؤسفة ومغالطات مكشوفة، واتهامات متبادلة الى درجة أصبحت معها التسمية التي تطرح على بعض الخائضين في هذا الغمار، أن بعضهم "من زلم المؤسسة" والبعض المضاد "من خصوم المؤسسة". حتى الذين أشادوا بالمستوى العالي الذي يميز أفلام المؤسسة العامة للسينما، لم يجدوا أمامهم ما يتهمونها به سوى أن إنتاجها قليل من حيث الكم، إذ لا تنتج في العام إلا فيلماً أو فيلمين، ومن أجل العرض في المهرجانات قبل العرض الجماهيري، وليست بعض الجوائز التي تنالها تلك الأفلام، مبرراً لهذا الخلل القائم، ولمثل هذا الغياب، أو التراجع، أو المراوحة في المكان على أضعف الإيمان. والواقع أن المتتبع المنصف لمسيرة السينما السورية لا بد من أن يعترف أن هذه السينما - وكانت في البداية سينما قطاع خاص - لم تنتج خلال خمسة وثلاثين عاماً، أي بين إنتاج أول فيلم روائي وتأسيس المؤسسة العامة للسينما، أكثر من سبعة أفلام متواضعة: ثلاثة منها كانت صامتة، في حين أصبح الإنتاج السينمائي - في مصر مثلاً - وفي المرحلة نفسها، ما يمكن أن نقول عنه "صناعة ثقيلة". وعندما تأسست المؤسسة العامة للسينما، كان هناك خلل في هيكل تأسيسها ومهامها، إذ أنيطت بها عملية استيراد الأفلام وتوزيعها من دون دراسة كافية. فكان هذا البند كارثة انعكست على العروض والصالات. كانت المؤسسة تشتري أفلام "الستوك" بأبخس الأثمان وتفرضها على دور العرض التي أعرض عنها الجمهور... وبدأت هذه الدور بالتراجع والتناقص ولم يبق في دمشق الآن سوى صالتين في أحد فنادق النجوم الخمس، سمح لها في صورة خاصة استيراد أفلام حديثة، في حين تعرض بقية الصالات أفلام الرعب والجنس والكاراتيه من الدرجة الثانية أو العاشرة. وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً لم تنتج المؤسسة العامة للسينما أكثر من أربعين فيلماً روائياً طويلاً، وهذا لا يعود - كما تقول بعض الأفلام، الى تقصير من المؤسسة، بل الى أن الإنتاج كان ضمن الموازنة المخصصة له، ولم يراع واضعوها أن السينما لم تعد فناً فقط، بل أصبحت صناعة ذات تكاليف عالية. أما القطاع الخاص، فنشط خلال عقدي السبعينات والثمانينات وأنتج نحو مئة فيلم أكثرها، ويا للأسف - من النوع التجاري الرديء والهابط والذي يقلد أصحابه أسوأ ما أنتجته السينما المصرية. ولم تحقق هذه الأفلام الحضور المطلوب على رغم أن أصحابها كانوا يستدعون مخرجين مشهورين من مصر لإخراجها، ويستقدمون لأدوار البطولة عدداً من نجمات السينما المصرية ونجومها، ويعتمدون تقديم قصص الحب المثيرة والسطحية بعد إضافة الكثير من توابل الجنس والعري والإثارة الى درجة أن الفنان دريد لحام يكاد ينكر عدداً كبيراً من الأفلام التي قدمها في تلك المرحلة، ويعتبر أن السينما في مسيرته ولدت مع أفلامه الثلاثة الأخيرة: "الحدود" و"التقرير" و"كفرون". لم تدم هذه "الصرعة" طويلاً، خصوصاً بعدما رفع النجوم المستوردون أجورهم، ثم أن سبل تسويق الأفلام خارج سورية كانت غير ميسرة، والرسوم الجمركية مرتفعة، فلم يعد الفيلم يغطي تكاليف إنتاجه، فماتت سينما القطاع الخاص وأصحابها يعزون ذلك الى عدم وجود الرعاية الكافية من الوزارة والمؤسسة والجمارك وبقية المؤسسات التي كان عليها أن تشجع هذا النوع من "الصناعة الوطنية" بدلاً من أن تتركها تلفظ أنفاسها الأخيرة غير مأسوف عليها. ... مراوحة هذه المراحل المتباينة والمتناقضة والتي فيها الكثير من الخلل، توجب إعادة النظر في أمر سينما القطاع العام، باعتباره الجهة الوحيدة المنتجة الآن، وفي أمر سينما القطاع الخاص وضبط أموره باعتباره الرديف الأول لسينما القطاع العام. فالسينما في سورية تعاني، منذ سنوات، المراوحة في المكان... حتى النجاحات التي حققتها، نوعاً ومستوى، قامت بجهود واجتهادات لبعض المخرجين، لا من خلال خطة إنتاجية مدروسة. إذاً، فالسينما السورية، بشقيها، تحتاج الى إعادة تقويم من خلال ندوات واجتماعات، بل ومن خلال مؤتمر خاص يدرس هذا الواقع، ويطالب بتشكيل هيئة صندوق خاص للإنتاج السينمائي، لأن مرور أكثر من سبعين سنة، مدة زمنية كافية لتحقيق هذا التقويم، خصوصاً أن وزيرة الثقافة الجديدة أبدت استعداداً للاجتماع مع السينمائيين في القطاعين ودراسة الاقتراحات العملية للنهوض بالسينما السورية التي لا تزال تراوح في المكان.