أعمال العنف ومظاهرات الغضب التي جرت في ايرلندا الشمالية في الأيام الأخيرة أعادت إلى الاذهان صوراً بشعة عن ملامح الحقد الطائفي التي ظن كثيرون من سكان الاقليم الايرلندي وخارجه انها زالت إلى الأبد بعد استئناف عمل المؤسسات الدستورية المنتخبة في ألستر في أيار مايو الماضي، وفقاً لاتفاق "الجمعة العظيمة" للسلام في ايرلندا. وقد أدت هذه الأعمال إلى شل النشاط الاقتصادي وتعطيل بعض المرافق العامة لأيام عدة، كما نجمت عنها عدة مواجهات بين قوى الأمن قوات الستر الملكية وبين عناصر تابعين لحركة "الأورانج" البروتستانتية الذين حرضوا على التظاهر والقيام بأعمال الشغب. ومعروف ان التوتر يسود أجواء عاصمة الاقليم بلفاست في مثل هذه الفترة من كل عام، عندما تنظم الجمعيات البروتستانتية التابعة لحركة "الأورانج" مسيرات تبدأ في الأول من تموز يوليو وتنتهي في الثاني عشر منه، احياء لذكرى انتصار الملك ويليام البروتستانتي على الملك جيمس الثاني الكاثوليكي في معركة بوين عام 1690. وتخترق هذه المسيرات، التي انطلقت للمرة الأولى في 1807، أحياء الكاثوليك في بلفاست وهي ترفع رايات جيش الملك ويليام البرتقالية اللون والمطرزة باللون الليلكي، كما يرتدي عناصرها الأوشمة التي كان يرتديها جنود الملك ويليام عندما اخترقوا كنيسة القديس بولس الواقعة على مرتفع درامكري المطل على وسط بلدة بورتاداون. الاحتفال الرئيسي يتم عادة في يوم الأحد الذي يسبق تاريخ الثاني عشر من الشهر، ويبدأ الاحتفال بتنظيم مسيرة رئيسية يتحرك المشاركون فيها على ايقاع الطبول الذي ترافقه أنغام موسيقى "الاوكورديون"، تماماً كما فعل جنود الملك ويليام بعد إبادة الآلاف من الكاثوليك في معركة "بوين" قبل أكثر من ثلاثة قرون. وتنطلق المسيرة من وسط بورتاداون لتخترق طرق غارفاهي الكاثوليكي مئة في المئة، قبل أن تنتهي باحتفال طقسي في كنيسة القديس بولس في درامكري. وعلى رغم قصر المسافة التي تقطعها المسيرة حوالي 50 دقيقة، فإنها تحمل معها أثقال الحقد الطائفي القديم، لتؤكد على استمراره وكأن شيئاً لم يتغير طوال القرون الثلاثة. لكن ثمة أشياء كثيرة تغيرت وباتت قائمة على أرض الواقع بعد اتفاق السلام الذي تم التوقيع عليه بين الطائفتين المتحاربتين في 1998 بجهود بريطانية وايرلندية وأميركية مشتركة. فمنذ ذلك الحين، تقوم قوات الأمن المحلية بتنفيذ أوامر الحكومة المركزية في لندن بمنع المسيرات من اختراق حي غارفاهي وأحياء الكاثوليك الأخرى في الستر. لكن حفنة من المتطرفين في حركة "أورانج" لم ترفض، هذا العام، الاعتراف بحجم التغيير والواقع الجديد فقط، بل تقف ضد عدد كبير من المسؤولين داخل حركة "أورانج" نفسها الذين قرروا المضي قدماً مع أغلبية الحركة الاتحادية البروتستانتية التي يقودها "حزب الستر الاتحادي" بزعامة الوزير الأول ديفيد تريمبل، وقبول عميلة السلام. إلا أن اللافت في أعمال العنف والشغب الأخيرة هو ظهور عناصر مسلحة تابعة لحزب "المقاتلين الأحرار" في الستر، اطلقوا النار من مسدساتهم الرشاشة في الهواء أثناء المشاركة في الحرائق الاحتفالية التي يضرمها "الأورانج" البروتستانت في الساعات الأولى من صباح الثاني عشر من تموز. وهذا الحزب كان أعلن عن وقف اطلاق النار في وقت سابق لإعطاء عملية السلام فرصة للتنفيذ، وليس معروفاً بعد ما إذا كان ظهور عناصره يمثل موقف قيادة الحزب. في كل الأحوال، فهذا لم يمنع قوات الأمن المحلية من اتخاذ موقف حاسم في الأيام القليلة الماضية لمحاصرة المشاغبين والمسؤولين عن أعمال العنف من عناصر "الأورانج". وتحولت المواجهة للمرة الأولى بين قوات الأمن وهؤلاء العناصر الذين كانوا يدافعون عن "قوات الستر الملكية" في السابق ويطالبون الحكومة البريطانية برفض "تقرير باتن" نسبة إلى كريس باتن الوزير البريطاني السابق والمفوض الأوروبي الراهن للشؤون الخارجية، الذي يوصي بتطوير هذه القوات وتعديل هيكلها الطائفي على أساس المناصفة بين الطائفتين، بما في ذلك تغيير اسمها الملكي. وفي ضوء شجب معظم القادة البروتستانت، بمن في ذلك بعض قادة حركة "أورانج" نفسها ووزير شؤون ايرلندا البريطاني بيتر ماندلسون، فإن الجهات التي تقف وراء أعمال العنف الأخيرة تدق آخر مسمار في نعش التطرف البروتستانتي. فقد بلغ عدد الهجمات على قوات الأمن بين الثاني والثاني عشر من الشهر الجاري 280 هجوماً، بينها 13 حادث اطلاق نار. ووفقاً للتقرير الأمني، اصيب 57 عنصراً من قوات الأمن بجروح وهذه سابقة لم تحدث من قبل في مثل هذه المناسبة، وأحرق 77 منزلاً وتم تدمير 55 محلاً تجارياً و358 سيارة. كما خطف عناصر "الأورنج" 88 حافلة كبيرة استخدمت في إقامة المتاريس وسد الطرقات الرئيسية المحيطة بوسط بلدة بورتاداون وحي غارفاهي. وألقى المتظاهرون 288 قنبلة حارقة على قوات الأمن، في حين عثر عناصر هذه القوات على 941 قنبلة من هذا النوع أثناء مداهمات قاموا بها لمنازل اعضاء "الأورانج"، ما حدا ببعض هؤلاء إلى اتهام قوات الأمن بأنها تحولت إلى "حركة أمن جمهورية كاثوليكية". أعمال العنف الأخيرة قد تكون الموجة الأخيرة في مسلسل العنف الدومي في ايرلندا الشمالية. فالمواجهة لم تعد الآن بين حركة وطنية كاثوليكية كانت تتصادم باستمرار مع قوات الأمن والجيش التي ترمز الى "الوجود العسكري البريطاني فوق أرض ايرلندية"، وفقاً للجمهوريين في الاقليم، بل باتت بين قوات أمن لا تزال تابعة لحكومة مركزية في لندن، وبين فلول متطرفة داخل الحركة الاتحادية البروتستانتية الواسعة التي لا تزال غير قادرة على استيعاب التغيير والاعتراف به. إن هذه الفلول تتحرك ضد التاريخ وتتجه في عكس السير.