حين كان الرئيس بيل كلينتون يدافع في المنتدى الاقتصادي عن تعزيز قبضة منظمة التجارة الدولية على الاقتصاد في العالم، تحاصره هتافات الفقراء المنددين بأخطبوط رأس المال الغربي، والأميركي تحديداً... كان ضيف آخر "صغير" يخوض معركة العولمة في المنطقة العربية على الطريقة الاسرائيلية. انه وزير التعاون الاسرائيلي شمعون بيريز، بطل مجزرة قانا، الذي بدت مداخلته في المنتجع السويسري في دافوس شاعرية ظاهرياً، شوفينية الى أبعد الحدود، تجسد عقدة المنبوذ في أوضح صورة، ورغبة دفينة في التسلط على الآخرين جميعاً. "لا نريد ان نكون جزيرة ثراء وسط بحر من الفقر، أو بلداً نقياً يغرق في منطقة ملوثة"، قال الوزير ليمرر التطبيع مع العرب ايضاً من بوابة التربية والتعليم، كأنه يدعوهم الى دروس في البيئة، فاسرائيل تكره معاناة الجيران الفقراء، ولم يبق سوى تصديق رغبتها في ادخالهم "جنة السلام العادل" ليقتطعوا شيئاً من رفاهيتها. ومثلما لا يلتقي الفقر مع الثراء، فإن "نقاوة" اسرائيل نقيض "تلوث" الجوار، كأن بيريز يدعوه الى "التطهر" ليستحق الشراكة مع الدولة العبرية، وإلا فاته قطار العولمة الاقليمية. وإذا كان من سوء حظ الوزير ان يتصدى له وزير الخارجية المصري عمرو موسى، الذي رفض ابتلاع إهانة العرب لمجرد ان بلاده ستحظى باستضافة قمة للمنتدى الاقتصادي، فالعبرة تكمن في عيّنة مما تعد به اسرائيل شركاءها في السلام، بعد وصول قطار التسوية الى محطته الأخيرة: قائد يأمر وتابع يطيع الى ان يملك مقومات الشراكة المتكافئة. وهو يطيع من أجل التعلم! عبرة أخرى من دافوس، ان العالم اذ يبدو مقبلاً على عولمة اميركية كاملة، تبتلع الصغار والكبار تحت ستار تحسين مستوى الشعوب - اقتصاداً لا نسلاً الى حين - انما يترك العرب تحت رحمة عولمة اسرائيلية لا يخفف وطأتها سلام بارد أو فاتر أو حار. يحدث ذلك بينما يتحقق في الغرب المتحضر اجماع على تعليم الاجيال الناشئة فصول "المحرقة"، وتدوين اعتراف تاريخي بالذنب. أما الفلسطيني فبالكاد يتذكر أحد أنه دفع من أرضه وشعبه أكبر ثمن ل"المحرقة"، ويخشى في حال استمرت التنازلات اللامتناهية ان يدوّن في مناهج التاريخ التي ستدرسها السلطة ان اسرائيل وجدت لتبقى ضمن الحدود "الآمنة". في المنتدى الاقتصادي، نجح بيريز بديبلوماسيته اكثر مما "برع" في مداخلته، وعاد مهندس "الشرق الأوسط الجديد" الذي تراجع دوره في حكومة ايهود باراك، ليخطف بعض الأضواء بلقاءاته. وتسعى اسرائيل الى اقناع الآخرين بأنها حسمت خيارها ولن تتراجع في عملية السلام، على رغم عرقلتها الآن المسار السوري، وكل المراوغات مع الفلسطينيين وتأجيل كل المواعيد وقضم كل الاتفاقات. لكن السوابق تبرهن على ان المكافآت المبكرة للدولة العبرية لم تساهم في دفع مسارات السلام، على رغم تعزيز قنوات الاتصال والمكاتب التجارية بمبدأ ثمار الشراكة واقناع "المتطرفين" في اسرائيل بالتخلي عن معارضتهم الاتفاقات مع أطراف عربية. والى ان يثبت العكس، فالرابح من لقاءات المنتجع هو بيريز الذي استطاع بناء جسور اتصال جديدة من دون ان يقدم سوى الوعود، ونظرية عولمة "الشرق الأوسط الجديد" من المحيط الى الخليج. نحن العرب سنربح منها تكنولوجيا للطب والزراعة، ومشاريع على الأرض، وربما في الفضاء، أما أرباح اسرائيل فيعود ريعها لجمعيتها الخيرية.