ثمة أكثر من سؤال على مشارف القرن الحادي والعشرين.. لعل أهمها سؤال يوجهه القلب قبل العقل.. هل نحن في حاجة للإيمان؟ وهل أثر التقدم العلمي على المساحة التي كان يحتلها الإيمان ويعتبرها أرضه، ويرفع فيها أعلام السيادة؟ لقد تميز القرن العشرون بصفات غلبت عليه هي الاختراع والاكتشاف والتقدم في العلوم والاتصالات. وصنع هذا كله زهوا داخلياً في نفس الانسان، وقاد هذا الزهو الى كبرياء الانسان ونظرته الى نفسه باعتباره قادراً على كل شيء. وفي بداية هذا القرن.. في الحقبة الثانية منه قامت الدولة البلشفية في روسيا.. وهي دولة رفعت أعلام الإلحاد. وقالت فيما قالته إن الدين هو أعظم مخدر للشعوب.. أما الجنة الموعودة التي يتحدث عنها المتدينون بعد موتهم ويقظتهم من الموت.. هذه الجنة التي لم يرها أحد، تداعت أسوارها وجاء نظام يزعم أنه سوف يحقق الجنة على الأرض. وبدأت تجربة الاتحاد السوفياتي، وهي تجربة اثبتت على المستوى الخارجي نجاحاً في البداية، أفلح الاتحاد السوفياتي في تحطيم الذرة، وبدأ السباق بينه وبين الولاياتالمتحدة على التسليح، وكان النظام السوفياتي نداً للنظام الاميركي في التقدم العلمي وصناعة السلاح.. ومر الوقت.. بعد سبع حقب من حياة الاتحاد السوفياتي إنهار الاتحاد فجأة.. وتفكك.. واكتشف أن الإلحاد هو الأفيون الحقيقي للشعوب لا الدين.. وكانت التجربة بالغة القسوة، لأن النظام الذي بشر بالمادة، وكرس للإلحاد، انتهى به الأمر إلى الخراب الاقتصادي وعدم القدرة على إطعام الشعب، إلى جوار الخواء الروحي الذي ساد، وكانت ثمراته في النهاية هي الجوع والدعارة وتزايد الديون وعدم القدرة على سدادها.. وهكذا شهد القرن في بدايته تجربة مثيرة لنظام لا مكان فيه للدين، وشهد القرن في نهايته انهيار هذا النظام.. في منتصف هذا القرن وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها، وهي حرب استمرت سنوات، واستمر فيها القتل، ووظف الانسان علمه في تطوير الأسلحة حتى صارت الحرب مجزرة بشرية لا علاقة لها بالفروسية أو الشجاعة. ووسط هذا المناخ من القتل العبثي نشأ مسرح العبث، أو مسرح اللامعقول. وكان هذا مسرحاً تجريبياً يحطم فيه الكاتب الشكل المسرحي القديم، ويأتي بشكل جديد تماماً.. لم يعد هناك زمن في المسرحية، فهذا مسرح الساعات المحطمة، ايضاً لم يعد هناك انتقال من لحظة زمنية الى لحظة زمنية أخرى، وبالتالي لم يعد هناك نمو للشخصية، ومعظم أبطال هذا المسرح في حالة انتظار لضيف لا يأتي أبداً.. توماس بيكيت في انتظار جودو ويوجين يونسكو في الكراسي.. هل كان هذا المسرح يعكس غربة الانسان وسط عالم لم يعد ينظر للسماء. هل الانسان في حاجة الى الاتصال بالسماء. من سمات الانسان "الوعي" بالذات والآخرين والماضي والمستقبل.. يعي الانسان أنه حياة منفصلة عن حياة الكون أو حياة الخلائق، يعي الانسان أن عمره قصير على الارض، ويعي أنه جاء الى الحياة بغير ارادته، وسيذهب عنها بغير استئذانه، سيموت الانسان أمام احبائه فلا يستطيعون له شيئاً، وسيموت احباؤه أمام عينيه فلا يستطيع لهم شيئاً.. هذه الغربة إزاء قوى الطبيعة والمجتمع والدولة، هذا كله يجعل الوجود الانساني سجناً لا يمكن احتماله.. يتحول الانسان الى الرعب لو لم يحرر نفسه من غربة هذا السجن، ويربط نفسه بالبشر ويتصل بالعالم الخارجي.. يحدثنا علم النفس ان تجربة الغربة أو الانفصال توقظ القلق، وهي مصدر كل أنواع القلق.. فكون الانسان منفصلاً يعني أنه مقطوع الجذور وغير قادر على ممارسة قدراته كإنسان.. ان يكون الانسان منفصلاً يعني أن يكون عاجزاً.. غير قادر على الامساك بالعالم، غير قادر على العلاقة مع الناس أو الاشياء، غير قادر على ممارسة نشاطه، وهذا يعني أن العالم يستطيع أن يغزوني بغير قدرة مني على الرد، وهذا يؤدي الى الإحساس بالهزيمة، ومن الهزيمة يولد الاحساس بالعار والذنب. يرى علماء النفس أن أعمق حاجات الانسان، حاجته للتغلب على انفصاله، لأن الانسان اذا انفصل عن العالم فقد رؤية العالم، وزاد إحساسه بالغربة والرعب.. فهو يتوقع الهجوم عليه من عالم لم يعد يراه أو يتصل به.. وليس هناك طريقة للاتصال بالكون والآخرين غير الايمان بالله.. وتجربة الحب مع مخلوقاته.. إن الإيمان بالله يعني السلام الداخلي، أما الحب فهو أسرع الطرق للخروج من سجن الذات إلى اتساع الكون ورحابة الآخرين.