مخاوف من انتشارها.. سلالة جديدة من كورونا يصعب إيقافها !    «عدّادات الأجرة» تخضع لأحكام نظام القياس والمعايرة    توقيع اتفاقية تعاون وتقديم خدمات بين منصة وتطبيق متر ووكالة سمة للتصنيف    السعودية وتايلند.. تعزيز التجارة واستثمارات واعدة    ختام ناجح لأسبوع الرياض الصناعي    100 مليون ريال في المرحلة الأولى.. "جونسون كنترولز "تصدر" تشيلرات يورك" سعودية الصنع إلى أمريكا    المنامة تستعد للقمة العربية.. وغزة تتصدر أعمالها    إكمال الاختبارات التشغيلية لدرب الحرمين    الأرض تشهد أقوى عاصفة شمسية منذ 21 عاماً    طبيبة سعودية تنقذ راكبة تعرضت للصرع على متن رحلة جوية    الذكاء الاصطناعي.. الآتي أعظم    انتكاس تجربة «إيلون ماسك» لزرع الشريحة    المملكة ترحب بقرار الجمعية العامة    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الطبية والغذائية    كنو: موسم تاريخي    صحف عالمية:"الزعيم لا يمكن إيقافه"    براعم النصر .. أبطالاً للدوري الممتاز    الأزرق يعادل بطولات الأندية مجتمعة    أخضر الناشئين لكرة الطائرة إلى نهائيات كأس آسيا    جمعية مرفأ تنفذ دورة "التخطيط الأسري" في جازان    محافظ الزلفي يزور فعاليه هيئة التراث درب البعارين    القبض على مقيمين لنشرهما إعلانات حملات حج وهمية    اكتشاف قدرات الأيتام    مؤسس فرقة «بيتش بويز» تحت الوصاية القضائية    النزل التراثية بالباحة .. عبق الماضي والطبيعة    "هورايزون" و"بخروش" يفوزان بجائزتي النخلة الذهبية    أكبر منافسة علمية عالمية في مجال البحث العلمي والابتكار.. «عباقرة سعوديون» يشاركون في آيسف 2024    مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة "طريق مكة" من إندونيسيا    الماء    مصادر «عكاظ»: لا وجود ل «المسيار» أمام المحاكم.. تراخيص المكاتب «هرطقة»    المملكة تدين الاعتداء السافر من قبل مستوطنين إسرائيليين على مقر وكالة (الأونروا) في القدس المحتلة    خبراء صينيون يحذرون من تحديات صحية ناجمة عن السمنة    حذروا من تجاهل التشخيص والتحاليل اللازمة .. مختصون: استشارة الإنترنت علاج مجهول    حملة للتوعية بمشكلات ضعف السمع    مساحات ثمينة    أول دوري للبادل في العالم.. وقفات ومقترحات    الطلبة الجامعيون وأهمية الاندماج في جميع المناطق    "الأمن العام" يحذر من إعلانات الحج الوهمية    الإسقاطات على الكيانات !؟    وما زال التدهور يخيّم في الأفق..!    الشمري يرفض 30 مليون ريال.. ويتنازل عن قاتل ابنه بشفاعة أمير منطقة حائل    جودة النقد بين نور والهريفي    اجتماع تحضيري للقمة العربية.. 12 بنداً في الملف الاقتصادي والاجتماعي    تحذيرات أوروبية.. مصر ترفض التنسيق مع إسرائيل لدخول المساعدات من رفح    القيادة تعزي ملك مملكة البحرين    وصول المنتخب السعودي للعلوم إلى الولايات المتحدة للمشاركة في آيسف 2024    أمير الرياض يتفقد المجمعة ويدشّن مشروعات تنموية    طلاب وطالبات تعليم الطائف يؤدون غدًا اختبارات "نافس"    المدينة أول صديقة للتوحد بالشرق الأوسط    علاج جيني يعيد لطفلة صماء السمع    الجوف: القبض على شخص لترويجه أقراصاً خاضعة لتنظيم التداول الطبي    رابطة العالم الإسلامي تدشّن «مجلس علماء آسْيان»    الأمير سعود بن نهار يدشن أكبر مجمع "قرآني تعليمي نسائي "على مستوى المملكة    تعليم عسير يُعرّف ب«نافس» تعليمياً ومحلياً.. و8 ميداليات ومركزان في الأولمبياد الوطني للتاريخ    وزارة الحج تدعو لاستكمال التطعيمات المخصصة لحجاج الداخل    مقرن بن عبدالعزيز يرعى حفل تخريج الدفعة السادسة لطلاب جامعة الأمير مقرن    جامعة الأمير مقرن بن عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة السادسة    تدشين مشروعات تنموية بالمجمعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعماله الشعرية الكاملة صدرت بعد سبعين عاماً من اللعنة والتشرد . علي الجندي : عشت كما أحببت ... ويقهرني العجز لا الموت كرهت البياتي وعلاقتي بالسياب ... كانت مأسوية
نشر في الحياة يوم 31 - 07 - 1999

ينتمي علي الجندي مواليد سلمية 1928 الى فئة الشعراء الملعونين والخوارج، من دون مواربة أو استحياء. يظهر هذا الأمر في شعره جلياً، لكنه يبدو أكثر تجلياً في سيرة حياته التي لم يكتبها بعد. وإن كنا نجد ملامح منها في قصائده، فهي نجدها لدى أصدقائه وندمائه القادرين - حتماً - على كتابة أهم محاورها ومحطاتها، على نحو ما كتب صديق الجندي الأشد قرباً اليه، الشاعر ممدوح عدوان، في تقديمه الأعمال الشعرية الكاملة التي صدرت حديثاً عن دار عطية دمشق / بيروت، 1998، في ألف ومئة صفحة.
هو - إذاً - من جيل الرواد، زمنياً على الأقل، وقد عاش معهم وبينهم زمناً، لكنه على رغم ذلك لم يكن منهم، ولم يُحسَب رائداً، ليس لأنه أقل شاعرية أو اندفاعاً نحو التغيير، والثورة، بل لأنه - أساساً - قد اختار أن يكون، ويظل، بعيداً عن كل ما يمكن أن يؤطر اندفاعه وجنونه. اختار أن يكون الشعر لعنة أو ورطة لا بدّ منها، لأنها تأخذه الى الكتابة، فتأخذه من الحياة - العيش، فيما هو منهمك ومهجوس ومطارَد بالحياة وحسب...
وظل علي الجندي بعيداً عن الشهرة والأضواء التي يسعى الكثيرون الى بلوغها، وبأي ثمن.
ومن يقرأ الأعمال الكاملة لا بد أن يلفت اهتمامه ذلك الإهمال الذي يشوب مسألة تشذيبه لقصيدته، حتى ليخيّل إليك أنه لا يمنح هذه القصيدة إلا الوقت الكافي لكتابتها، ثم كفى! وقد يكتب في المقهى والحانة والرصيف، ولا يتوقف كثيراً أمام ما يكتب.
ولكن... لا يسع قارىء شعر الجندي إلا أن يتوقف أمام هذا التدفق والتنوع والغنى في هذه التجربة الشعرية، وما تعكسه من تجربة معاشة. ففي هاتين التجربتين من الخصوصية ما يضع صاحبهما موضعاً مميزاً في الحياة الثقافية العربية عبر خمسين عاماً.
إن اللعنة الأولى التي حملها الشاعر في حياته، كما في شعره، هي لعنة البحث عن حرية مطلقة، بلا قيود... حرية مستحيلة، إذاً، تتضح استحالتها كلما توغل فيها الشاعر تشرداً وتمرداً، وكلما حاول أن يقبض عليها كي يمنحها روحه ونكهته، وكلما أوغل فيها غربة وعزلة ووحشة، هو الذي لم يكن يطيق الحياة بعيداً عن الناس، كما لم يكن يطيقها في الاستمرار معهم.
منذ وقت مبكر راح الجندي يطوي ضلوعه على يأس عظيم حيال ما يمكن أن يفعله الشعر الذي هو محض "سحابة سوداء عقيم..." حيث "لم يعد للشاعر مكان تحت الشمس" وحيث "الجمهور ظلال سوداء، صماء، غير عابئة إلا بطعام النمل..."، ومنذ البدايات، كان يتردد في شعر الجندي سؤال "من أنت يا شاعر؟"، ويرد صوت الشاعر انه "دودة ترتعي عشباً على قبر فؤادٍ حزين!". ويعلن أنه "من نطفة سيئة التكوين" وأن "الموت صليبي"... إلخ. ذلك التكوين الذي سيرافق الشاعر في مراحل حياته، فيظل يحفر في الحياة ممرات ومخارج، ولكن كمن يحفر قبره بضربة خرساء أو عمياء، وكمن يقطف أزهار الحديقة حتى تغدو خاوية. لقد امتص حياته قطرة قطرة، وكان يدفن الموت في الحياة، غير آبه بالمصير الذي يعرفه جيداً ويهرب منه أو يخاتله ويخدعه. وما بين بدء الرحلة وتوقفها في محطة السبعين، يعيش الحياة غالباً، ويتأملها أحياناً، لكنه يغرق فيها تماماً، يمنح ذاته للحياة، ويفتح أبواب الحياة كي تغرق ذاته فيها. عاش نعيمها وجحيمها... ملذاتها وآلامها. وعاشها بجدِّ واجتهاد محاربٍ يسعى الى الانتصار والحياة الأفضل، ولا يخشى الهزيمة ولا الموت... لأنه أحب الحياة وعشقها عشقاً صوفياً: "يا ولعي المجنون بالحياة". هذه صرخته المدوية ليست سوى صدى تلك الحياة، تلك الرحلة، وذلك "الترحالُ من حانٍ الى حانِ" وذلك "التجوال من كهفٍ الى كهف، أفتش عن نبيذٍ لم يذقه، بعدُ إنسانُ".
ومثل كل ملعون، متمرد، تنطوي تجربة حياة علي الجندي على تناقضات رهيبة، وهي ما يجعل الحياة لعبة غنية ومثيرة دونما قصد أو تخطيط، بل ببراءة وعفوية تجعلان لحظة الضعف معادلاً إنسانياً للحظة القوة، والسقوط في الهاوية معادلاً للإرتفاع الى قمة النشوة، وربما كان في إمكان المعاناة أن ترفع من قيمة اللذة، مثلما تُعلي التضحية قيمة الحرية ومعنى الحياة، ومثلما يطلع النهار من قلب الظلمات.
وفي شعره، كما في حياته، كان علي الجندي يولّد الأشياء من نقائضها: الحلم من اليأس، والخوف من الأمان، مثلما يدفن الموت في قارورة الخمرة أو يجعل عنوان "اللياليين" شط الحياة الرحب. أليست لحظة اللذة هي نفسها اللحظة الهاربة من العمر؟ أليس العيش الجميل سبيلاً الى الهاوية مثله في ذلك مثل المأساة؟ ألا تبتلع الموسيقى الظلمة كما تبتلع لحظات العمر؟!
لقد كتب علي الجندي شعراً إنسانياً يخلّد لحظات ومشاعر الإنسان الذي كانه والإنسان الذي أراد أن يكونه. كتب بإخلاص عميق لذاته، التي كان يقبع في ذروتها السكرى، أو حين كان قابعاً - كما يقول "في ذروة ذاتي السكرى". كتب من وحي تجربة شجونه التي ليست سوى شجون الإنسان. وكتب من قلب العبث والفوضى والمجون والجنون، ومن قلب اليأس والهزيمة، لا هزيمته هو فقط، بل هزيمة القوم، النخلة اليابسة من ألف عام، والأم التي روّعنا عقمها من ألف عام... من قلب الواحة الكاذبة حيث الخضرة نار، وحيث جذورنا تأكلها الديدان.
ورأى علي الجندي نفسه في شعراء مثلوا له ملامح من ذاته... حيناً في عروة بن الورد، وحيناً في قطري بن الفجاءة الخارجي، وفي المتنبي، ولكنه رأى نفسه في طرفة بن العبد رغم أنه - كما يقول الجندي "هوى مبكراً وما أزال أهرم"، لكنه يلتقي مع طرفة في أنهما معاً "عرضة للانهيار في أية لحظة! وأن "السرطان" يقرض حياتنا أبداً". الا أن تخصيص قصيدة مطوّلة "سقوط قطري بن الفجاءة/ سير حياة داخلية فاجعة في أناشيد"، وتحميله هذه الشخصية أبعاد حياته وشخصه وهزائم جيله الذين سمّاهم جيل "القَعَد" كان الرجل من الخوارج عندما يشيخ فما يعود يحسن المشاركة في الحرب، يغدو من قَعَدِ الخوارج...، واستلهام الرمز الذي في اسم الشاعر الخارجي إنه القطر المفاجىء، ان هذا الصنيع من علي الجندي لهو دليل التأثر الكبير بالشاعر المذكور وبالخوارج أيضاً.
والى هذا كله، فثمة اقتراب من عالم السياب الذي بدأت علاقة الجندي به في وقت مبكر، وربما كانت مأساة السياب تلقي بظلالها في شعر شاعرنا دون أن تكون جلية الحضور.
ويبدو في شعر الجندي أثر ثقافة دينية ترتبط بالنص القرآني حيناً، وبالمأثور حيناً آخر. كما يتضح حضور الشعر العربي عبر الاستيحاء حيناً، والتضمين حيناً آخر. ومن ذلك ما يجعلنا نقرّب الجندي من مالك بن الريب مثلاً، حين يستعير شطر بيته الشهير "خذاني فجراني بثوبي اليكما..."، أو نرى اقترابه من أبي نواس وهو يردد مثله "إذا متّ فادفني الى جذع كرمة..."، أو من الحمداني أبي فراس وهو يعاتب الحمامة "لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة...". فكيف استطاع أن يرى نفسه في هؤلاء جميعاً، وأن يراهم في نفسه هذه؟ أهو القلق، أم البحث عن مثال، ما كان يسوق خطى الشاعر في الدروب والرحلات؟
حسب الشاعر أنه عاش بصخب واتساع، بما تيسّر له من حرية وتمرد، بكل ما أوتي من رغبة في العيش هنا وهناك. مع المرأة أو مع الخمر، اللذين يشكلان أبرز أقانيم حياته...
* * *
ما يشبه سيرته
في اللاذقية، حيث يعيش الشاعر منذ سنوات، بعد أن هجر الشام، ولم يستطع - لأسباب في نفسه - أن يعود الى مسقط رأسه سلمية، التقيته مرات عدة. كان "شاعر الظلال" كما يسمي نفسه في إحدى قصائد الحب الطارئة لا يزال خجولاً حد المرض من الحديث عن نفسه كشاعر كبير، وصاحب واحدة من أهم التجارب التي تجمع الحياة والشعر في قصيدة، في الشعر العربي المعاصر كله. ولم يكن سهلاً إقامة حوار في المعنى المتداول للحوارات، تحدثنا في البداية عن وضعه الراهن، عن صحته الآخذة في التراجع منذ سنوات. تحدث عن ابنته الأخيرة "نَفور" 5 سنوات من زواجه الثالث والأخير... ربما. قال انه يقضي معها وقتاً طويلاً - في غياب أمها - يلاعبها ويبتكر لها الألعاب، فهي من تبقى بعد أن كبر الابن الوحيد والبنات، وطاروا. تحدث عن الطقس الجميل المشمس، وانتقل ليحكي عن رحلته الأخيرة الى بيروت لتوقيع كتابه الأعمال الكاملة في معرض الكتاب. قال إنه تحمس للذهاب الى بيروت، على رغم أنه لا يتحمل السفر، من أجل أخيه عاصم صار عاصم يهتم بي بدلاً من أن أهتم أنا به. صار يخاف عليّ من قطع الشارع... فيمسك بي من ذراعي و...إنه يَصغرني بأربع سنوات تقريباً. سامي كان هو الأكبر ثم رعد. خالد أصغر مني أيضاً.
قلت له إنني قرأت عن رغبته في كتابة سيرته الذاتية في "هواجس أخيرة"، فأخذ يتحدث - بذلك البطء الذي بات يميز أسلوبه في الحديث - عن هذا الكتاب الأخير الذي لم ينشر قبل أن تضمه الأعمال الكاملة. قال: إنه عبارة عن يوميات، لم أفكر ان كانت شعراً أم نثراً، لكن الناشر أصر على نشره كشعر، فوافقتُ.
ولكن... أستاذ علي، دعنا نتناول محاور ومحطات وملامح من هذه السيرة التي لم تكتبها. وأبدأ أولاً بالسؤال: لماذا السيرة الذاتية، أما كان الشعر كافياً؟
- حتى الآن، شعرت بخيبة أمل. كان الشعر جزءاً أساسياً من حياتي، وحياتي موجودة في شعري، إلا أنني أقول، وبكل أسى، إنني لم أعبر بالشعر عن مأساتي الحقيقية. مأساة الإنسان. وأشعر أيضاً بأن الناس لم تقرأ شعري، ولهذا فلا بد من توضيح بعض الأمور. هذا ما يدعوني لكتابة السيرة، وسأكتبها إذا أتيح لي.
من أين ستبدأ بها...
- من سن المراهقة والشباب.
وليس من الطفولة... من القرية الأولى...؟
- في القرية، لم تكن طفولتي سعيدة أو مرحة. كانت قاسية، فكنت ميالاً الى الحلم، أبحث عن عالم آخر أقل قسوة، أو عالماً جميلاً.
وكنت تهرب من واقعك... إلى أين؟
- لم أكن أهرب منه. كنت موزعاً بينه وبين الحلم، خصوصاً عندما كنت أذهب لأرعى الأبقار في سهول القرية، فأقف حيالها كشيء غير معقول. أفكر في هذا الكون الواسع، ولكنني أرتد الى الواقع القاسي. كنت أغذي النزعة الحالمة بقراءات كثيرة، وخصوصاً شعرياً، وبأحلام اليقظة التي سرعان ما تختفي. ولم يكن هناك مثال محدد أسعى اليه.
ماذا عن قراءاتك الأولى؟ وكيف تحصل على الكتب؟
- كنت قارئاً نهماً. كنا نخرج الى الأرض التي نعيش منها، أيام الصيف، فأقرأ كل ما يصل الى يدي من كتب. واهتديت مبكراً الى ترجمات لويس عوض وغيرها من الترجمات المصرية، وكان من أوائل الكتب رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غري"... الجميلة جداً. بعدها... جاءت مرحلة الجامعة ودراسة الفلسفة، والقراءات الأدبية. وقد كانت لدى عمي أحمد الجندي مكتبة، ولدى أخي سامي أيضاً، وأصدقاء العائلة كذلك.
هل كان لأخيك سامي تأثير في تجربتك؟
- سامي لم يطلع على تجربتي الشعرية إلا حين صرت في الثلاثينات أي عندما أصدر علي مجموعته الأولى... عام 1961، ربما!. فهو كان ناشطاً حزبياً وسياسياً، ويعتقد أن شعري غير مهم، وأن عليّ أن أكون معه في الحزب.
نظل مع قراءاتك في الخمسينيات، المرحلة التي اتسمت بصراعات حادة: الماركسية والوجودية والقومية...
- في هذه الفترة كنت أهتم بالفلسفة الوجودية، وأقرأ كتبها بنشوة. كنا - صديقي علي حيدر وأنا - متهمين بالوجودية، ولم أنكر التهمة. وقد اهتديت أيامها الى ألبير كامي، وكان يشدني بحثه عن الإنسان المتمرد، وأسلوبه الجميل في الكتابة. وكان التمرد يعني - لي - الرغبة في أن تكون لي طبيعة شخصية... ربما مختلفة عن كل من في بيتنا الذي كان يضم خمسة ذكور وفتاة واحدة. طبعاً... حاول بعض الأصدقاء اليساريين استمالتي، لكني كنت أعتقد أن من طبيعة الوجودي أن لا يكون مؤطراً في اتجاه... فكنت أتمرد وأعيش الفوضى بكثير من النشوة.
ولهذا توجهت الى دراسة الفلسفة في الجامعة؟
- هذه قصة طريفة... فقد ذهبت الى الجامعة لأدرس الأدب العربي، ولكن منذ البداية كانت ثمة محاضرة لأستاذ يتحدث بالأسلوب الركيك - أسلوب الكتب الصفراء... ولم أحتمل أكثر من محاضرتين، فقمت بنقل أوراقي الى قسم الفلسفة، لأن الفلسفة كانت تشعرني بنشوة فكرية. وكان مما شجعني على ذلك وجود صدقي إسماعيل، الذي كان له أثر كبير... كنا نذهب ونجلس في مقهى الجسر، ونناقش المقولات الفلسفية، و...
هل كنتم تحلمون بتغيير العالم؟
- كانت فكرة تغيير العالم تخطر أحياناً.
ينابيع الشعراء
في البدايات... ماذا عن الينابيع الأولى، والقصيدة الأولى؟
- بعيداً عن التحديد... لم تكن هناك ينابيع محددة. كنت في البداية أعيش لأكتب. وكنت كثير الملاحظات الشعرية، إذا جاز القول. كنت أحس أن هذه الرغبة في الكتابة تلخص وجودي كله. أحاول أن أكتب كثيراً، وأبحث عن شكل جديد مختلف عن كتابة الآخرين. أضيع بين ثقتي الشديدة بنفسي وانعدام الثقة بما أفعل. أشعر أن الشعر هدفي، وأنني سأصبح شيئاً ما مهماً، وأحس بالرغبة في أن أغدو كذلك، فأشعر أنني أقوم بعمل عظيم حيناً، ثم أعود وأفقد الثقة بما يمكن أن ينتج من كتابتي وبحثي عن الجديد. هذا البحث عذبني كثيراً، حتى عثرت على قصيدة للسياب، فشعرت أنه أعطاني طرف خيط، وأمسكت به... وكتبت قصائد جديدة، شعرت أنها هذا الذي أريد، هي ما أبحث عنه. كانت قصيدة السياب بعنوان "السوق العتيق"، ونشرناها في مجلة "النقاد" السورية... كانت فيها تلك الرغبة في التمرد...
بدر شاكر السيّاب... كان - قبل نازك الملائكة والبياتي - يكتب أشياء ترى المستقبل وتفكر تنبأ به. في تلك الفترة بدأت أحس بالغيظ من البياتي. لم يكن يعجبني رغم محاولاته أن يكون لطيفاً. كان يرى أن من لا يكتب مثله بطريقته السياسية فليس شاعراً، بل "صائد ذباب". وعلى سبيل الطرفة، كتبت أيامها - عام 1951 - قصيدة أقلّد فيها أسلوبه، أسميتها "صائد الذباب"، وأهديتها الى البياتي... صائد الذباب الكسول، أحفظ بعض أبياتها "ويقول لي جارٌ صديق / هلاّ خرجنا للطريق / للشارع المزدان بالعيد الجديدْ / نلهو كما تلهو وفودُ الناس في المرج البليد / فأجيبه: إني لأخجل يا رفيق / من عاريَ المرذول... من فقري اللعين / وأخاف تهزأ فاتنات الحي من ثوبي العتيقْ...". وقد تقصدت أن تكون بهذه البساطة، لتكون في مواجهة كل صائدي الذباب. هنا، توقف علي الجندي وسألني إن كنت أحفظ هذا الحديث المتشعب كله، وأستطيع أن أتذكره، لم أفهم بادىء الأمر، لأن جهاز التسجيل كان أمامه... وكان هو يراه، وقد أسقطه مرتين بحركة يده... وشعرت، حين شرحت له دور المسجل في حفظ الحديث، أنه لم يقتنع، وواصل حديثه بسؤال: أين وصلنا؟.
وصلنا الى قصيدتك عن البياتي، وأرغب لو نتوقف عند السياب... علاقتك به، كيف ومتى بدأت...
- علاقتي بالسياب بدأت حين بدأت أقرأ له، وأخذت أكتب، في مرحلة الجامعة، وأنشر، وأتردد الى الأماكن التي يجتمع فيها الشعراء والكتّاب... كنت، أيامها، أستفز الأصدقاء كي يسهروا ويشعروا بصخب العالم والعيش فيه، وكان هذا هو قاموس اهتماماتي في البدء. وما نشرته في تلك المرحلة كان القليل من قصائدي، ولم يبق منها شيء، إذ لم تنشر في مجموعة.
في العام 1948 أو 1949 تعرفت - بالمراسلة - الى السياب. كان لي صديق هو دحام الدندل... يعرف السياب... أبديت رغبتي في التعرف اليه، فقال تعال نكتب له. وكتبنا رسالة شعرية فيها تنكيت على السياب، فردّ علينا برسالة أكثر سفهاً مما توقعت. وكانت مجموعتي الشعرية الأولى "الراية المنكسة" 1961، وندمت لنشرها، إذ أحسست أن هذا الشعر لا يمثل الصخب الذي أعيشه، ورحت أبحث عن شعر آخر.
التقيت بالسياب في بيت غسان كنفاني حين كنت أسكن معه. قبل ذلك، كان غسان يأتي الينا من الكويت الى الشام، ونسهر ونقضي وقتاً. وكانت حواراتنا مع السياب من أكثر الحوارات متعة... لكن علاقتي به كان فيها شيء مأسوي... يأتي الينا في الشام، نجتمع عند صدقي إسماعيل غالباً. وأذكر حين قرأ علينا قصيدته الشهيرة "أنشودة المطر" بصوته القوي الذي لا يتلاءم مع نحوله. ومرة كنت أجلس في مقهى البرازيل، فرأيت سيارة تتوقف، وهبط السيّاب وزوجته. كان يتكىء عليها حتى تكاد تحمله. كان جسمه يتأرجح كما لو أنه مجموعة من الخرق البالية. وكان المشهد مأسوياً حدّ البكاء.
آخر مرة رأيته حين جاء الى إذاعة دمشق وطلب أن يراني، فنزلت من مكتبي، فوجدته يتوكأ على عكازين لأن رجليه ما عادتا تحملانه. وذهبنا - وزوجنا - وزوجته وابنه معه - الى مطعم الوادي الأخضر في الربوة، فكان يتأمل المكان والمناظر الطبيعية كأنما يخاف أن لا يراها ثانية، كأنه كان يودع. بعدها... مات في الكويت ودفن في بغداد ولم أعرف بذلك إلا بعد مدة.
في بيروت...
قلت إنك قد هربت، عام 1961، الى بيروت... هرباً من نظام عبدالناصر، وندمت. هل كنت ضد الوحدة؟
- لا، أبداً. أنا كنت وحدوياً في الصميم. ولكن الوحدة كانت تتجسد في رئيس الأمن القومي هنا... وكأن كل المصريين قد تجسدوا في شخصه آنذاك. وفي تلك الفترة، جرى تسريحي من الجيش، وكنت أتقدم لوظائف فيأتي الرد "يمنع تعيينه"، فهربت عن طريق طرابلس. وفي بيروت كتبت مقالاً جميلاً جداً أقول فيه "شكراً يا وطني" نشر في "النهار"، أواخر 1961، وأتمنى لو أحصل عليه. وقد عملت في التدريس، ونشرت في "النهار، وكنت أعمل في "المحرر" لرياض الريّس بنصف راتب تقريباً. وتعرفت الى جماعة "شعر". الماغوط كنت أعرفه من قبل. شهدت أكثر من سهرة في بيت يوسف الخال... سهرات أصدقاء، لم أجد فيها ما أريد، ونشرت في "شعر" قصيدتي الطويلة "الصمت الكبير" التي لفتت الانتباه إليّ. كنت مقلاّ في النشر لأنني كنت منشغلاً بالحياة وممتلئاً بضجيجها ومتعها وجمالها.
كانت بيروت - آنذاك - مدينة المدن، في الجمال والحرية، خصوصاً لشاعر هارب من القمع والإرهاب. كانت تحتضن القادمين وتحميهم وتوفر لهم المناخ الملائم. فوجدت فيها الكثير مما أريد. وقد أفادتني مثلما أفادت من حضوري فيها. ديواني الأول نشرته لي دار نشر تملكها لور غريّب وأخوتها. وقليلاً ما شعرت بحنين الى دمشق لجرح في قلبي. وعلاقتي كانت يومية مع غسان كنفاني ورياض الريس وسواهما. لم يكن يهمني أن نملك مشروعاً فكرياً أو سياسياً. سكنت مع غسان في بيته في الخندق الغميق، ثم في أبي طالب، وحين تزوج تركتُ البيت وسكنت مع أخي عاصم في الحمرا. ولكن لقاءاتي مع غسان استمرت، وبقيت أزوره في مكتبه حتى حدثت بيننا مشكلة في بيت ليلى عسيران، حين كنا - هو وزوجته وأنا - نسهر عندها، وأخذت - كعادتي عندما أكون أمام امرأة، أتغزل بها... فانزعج غسان لأن زوجته معه. فافترقنا فترة، وعدت الى الشام... ثم في زيارة لي الى بيروت، رأيته وأنا أدخل الى الأنكل سام، فنهض واقترب وسألني "هل ستصافحني أم ستصفعني؟" فاحتضنته وجلسنا.
- لا أحب التحدث كثيراً عن علاقاتي النسائية في بيروت أو في سواها. يمكن - فقط - القول أنني كنت ناجحاً في ذلك، لأنني كنت عفوياً ومنطلقاً ومعروفاً... ومثل أي شاعر شاب، في الثلاثينات من عمره، وكنت قد بدأت أكتب ما أرضى عنه.
- خليل حاوي كان من أصدقائي الأساسيين. كنا نقضي ساعات طويلة في التسكع... وكثيراً ما نجد نفسينا في الهزيع الأخير من الليل. كان الأكثر أصالة... على مستوى إحساسه بحريته وبحرية الآخرين. كانت له علاقة مع خميس شعر ثم ساءت لأنه كان يتحدث بالقومية، والعروبة. وهذا كان يحببني به. آخر مرة رأيته في مربد الشعر في بغداد عام 1978... ربما، وفرحت به رغم غضبي منه في فترة سابقة كان قد جاء فيها الى دمشق، وأقام في الزبداني شهرين أو ثلاثة دون أن يتصل بي، فعاتبته و... لم أره بعدها. وحين استشهد لمتُ نفسي لأنني كنت أغضبه... فمرة كان يتحدث عن شعر سعيد عقل ويقول: أدعو الله أن أصمت في الوقت المناسب. وحين قرأت قصيدة جديدة له، فقلت إنني أدعو الله أن أصمت... فغضب مني. لم يكن طبيعياً تاماً، لكنه لم يكن مضطرباً تماماً أيضاً.
جان جينيه... لم يكن لقائي به عميقاً... ولا أدبياً... جاءنا، وكان منهمكاً بالقضية الفلسطينية، لذا قلت عنه إنه رجل شريف لأنه ينتمي الى القضايا العادلة.
- القضية الفلسطينية كانت في صلب اهتمامي. لم ألتزم ولم أمارس العمل السياسي، لكني كنت قريباً من المقاومة والعمل الفدائي... وفي شعري ما يظهر ذلك، خصوصاً قصيدتي عن اغتيال القادة الثلاثة كمال عدوان، وكمال ناصر، والنجار.
في شعرك وحياتك
نتوقف أمام مقولات شعرية أساسية في تجربتك. ماذا عن التشرد الذي يظل يتردد في شعرك؟
- التشرد، الرفض، الملاعين... أنا كنت - في أعماقي - واحداً من هؤلاء. أذهب الى آخر العالم، وأعيش حريتي ونفوري من المألوف لدى الآخرين. ولكني كنت أخشى التشرد عملياً. كنت أحاول أن أبني نفسي، وقد ولد نصف قصائدي تحت مشاعر الضياع بين الرغبة في التشرد والخوف من عواقبه. وبقيت أهرب من الاستقرار، وأقارن بين حرية تؤول الى التشرد وبين التمرد، فاخترت التمرد. فصرت أغرق في التشرد النفسي. هو تشرد ناقص، لكنه مهزوم أمام رغبة الحياة بزخم. بل كان وسيلة للوصول الى هذه الحياة. الآن أكتشف هذا الأمر. التشبت المهين بالحياة... لأن كان بحثاً عن حرية لم أحصل عليها، لم تكن كما أردت.
- دور الشعر الذي هو ورطة... هو قدم البديل النفسي لمواجهة الواقع. تورطت به، ولا أستطيع العودة... حياتي كلها ارتبطت بي، تشردي، أو بحثي عن تشرد خاص، وتراجعي.
بين المصير المعتم الذي آلت اليه حياتك - كما تقول -، وبين الأمجاد الصغيرة التي أحرزتها... هل عشت كما أردت؟
- لا أحس أنني حصلت على أمجاد ذات قيمة. كل الشعراء حصلوا على الكثير من الشهرة، مثلاً. أما أنا فأردت أن أعيش، وعشت كما أردت. كنت أستسفه أن أقدم نفسي كما يقدم الشعراء أنفسهم... كمن يحمل على صدره نياشين بطولة. بل إنني كنت أخجل من تقديم نفسي كشاعر.
وفكرة الخلود... ألا تعني لك شيئاً؟
- ما اهتممت يوماً، في حياتي كلها، بالبحث عن الخلود. أشعر بأن كل شيء باطل وقبض ريح، ولا أرغب الآن في تحقيق شيء. حياتي التي عشتها واستمتعت بها هي كل شيء.
المرأة التي شكلت محوراً أساساً في حياتك، ما سرها، كيف جعلتها كذلك؟
- المرأة... كنت أشعر، وأنا معها، بكل إخلاص العاشق. لم أكن أقبل بأقل من أن أندفع بكل نفسي. كانت المرأة كل شيء لي. وكانت وسيلة وغاية في آن. طبعاً... في البداية كانت العواطف الجياشة تحكم العلاقة. وفيما بعد، صرت أقدم للمرأة ما تريد كي تظل. ولم أكن أبحث في المرأة عن شيء محدد، كنت مشغولاً بها. لم يكن الجمال أساسياً. كنت أحتاج المرأة كي تلهيني عن وساوسي. ولكن... كنت موزعاً أيضاً بين بقائها معي ورحيلي عنها. وبل أسف، فقد كنت أبحث عن امرأة لم أجدها، لذلك تعددت النساء. وأنا لا أقول كما قال الشاعر "ليت كل النساء ثغراً واحداً، لقبلته واسترحت"، بل أقول "ليت لكل امرأة أكثر من ثغر لأقبلهن جميعاً". الجسد الطاغية... لأنني كنت أخضع لرغباته، لكني كنت أخالفها وأتمرد عليها أيضاً. الشعر والحب... صديقان متلازمان، يجب أن يكون للشعر نكهة خاصة هي نكهتي ونكهة حبي.
والموت... هل تخشاه أو تفكر به؟
- ما يقهرني هو العجز، وليس الموت. فالموت مثل الحياة والولادة، لا بد منه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.