القيادة تعزّي أمير وولي عهد الكويت.. وتهنئ رئيس الكونغو    أداء مطاري الجوف والقريات على طاولة فيصل بن نواف    استعراض "بيدي" لتأهيل الفتيات أمام سعود بن نايف    نمو صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي يعزز مكانة المملكة كمركز استثماري إقليمي وعالمي    أمير جازان يستقبل مدير الشرطة والمرور بالمنطقة ويطلع على تقرير المرور    لاعب برشلونة يرد على النصر    شبكة القطيف الصحية تنظم دورة تخصصية في تمريض النساء والتوليد    رئيس مجلس الشورى يصل إلى مملكة كمبوديا في مستهل زيارة رسمية    نمو أصول صندوق الاستثمارات إلى 4.32 تريليون ريال وإيرادات 413 مليار ريال    حملة توعوية وتثقيفية على مغاسل الملابس بالظهران    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على غزة إلى 58 شهيدًا    أمير جازان يكرّم الفائزين بجائزتي المواطنة المسؤولة و"صيتاثون" في دورتها الرابعة    غرفة الشرقية تناقش دور القطاع الخاص في البرنامج الوطني للتشجير    فهد بن سعد بن فيصل يطلع على أبرز البرامج والإنجازات لتجمع القصيم الصحي    خادم الحرمين يتلقى رسالة خطية من رئيس جمهورية فيتنام الاشتراكية    أمير جازان يستقبل قائد قوة الطوارئ الخاصة بالمنطقة    الأمير محمد بن عبدالعزيز يدشن عددًا من المشروعات بجامعة جازان    "الشمري": يزور مدير عام فرع وزارة الشؤون الإسلامية بالمنطقة    جمعية "وقاية" تنظّم معرضاً توعوياً وندوة علمية بمستشفى وادي الدواسر    السمنة مرض مزمن لا ضعف إرادة    لمسة وفاء.. سلطان بن أحمد السديري    الاحمدي يكتب.. جمَّلتها ياهلال    البيعة الثامنة لولي العهد بلغة الثقافة والفنون    هيئة الموسيقى السعودية وعازف البيانو الصيني وأول برنامج صيفي لتعليم البيانو في المملكة    سعد الصقير أول طبيب أمراض جلدية من دول الخليج يحصل على وسام القيادة الدولية في الأمراض الجلدية لعام 2025    كندا تلغي ضريبة الخدمات الرقمية    تصعيد متبادل بين العقوبات والمواقف السياسية.. روسيا تشن أعنف هجوم جوي على أوكرانيا    التعليم في ميزان المجتمع    توقيف شخصين ظهرا في محتوى مرئي بسلاحين ناريين    نقل 1404 مرضى داخل المملكة وخارجها عبر 507 رحلات إخلاء    الملكية الفكرية ليست مائدة نقاش ديني.. بل مبدأ لا يُمس!    ترسيخ الحوكمة وتعزيز التكامل بين الجهات ذات العلاقة.. السعودية تقفز إلى المرتبة 13 عالمياً في حقوق الملكية الفكرية    موجز    المملكة تقود تعاوناً دولياً لدعم الطاقة النظيفة    انطلق في مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.. "جيل الابتكار".. يعزز ثقافة البحث لدى الموهوبين السعوديين    ما عاد في العمر متسع للعتاب    مادتا التعبير والخط    بحثا جهود الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة.. وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان الإيرانية يستعرضان العلاقات    مدرب تشيلسي ينتقد الفيفا ومونديال الأندية    أكد أهمية مناهج التعليم الديني.. العيسى يشدد: تحصين الشباب المسلم من الأفكار الدخيلة على "الاعتدال"    وزارة الخارجية تُعرب عن تعازي المملكة لجمهورية السودان إثر حادث انهيار منجم للذهب    نائب أمير مكة والقنصل العراقي يناقشان الموضوعات المشتركة    رئيس "الشورى" يبحث تعزيز العلاقات البرلمانية في كمبوديا    دواء جديد يعطي أملاً لمرضى السكري من النوع الأول    "الصحة العالمية" تفشل في تحديد سبب جائحة كوفيد- 19    أخضر السيدات يخسر أمام الفلبين بثلاثية في تصفيات كأس آسيا    الأحوال المدنية المتنقلة تقدم خدماتها في خمسة مواقع    «الشؤون النسائية بالمسجد النبوي» تُطلق فرصًا تطوعية    فاطمة العنزي ممثلة الحدود الشمالية في لجنة المسؤولية الاجتماعية بالاتحاد السعودي للدراجات    استعراض أعمال الشؤون الإسلامية أمام أمير تبوك    الجامعة الإسلامية تدعم الأبحاث المتميزة    "الملك سلمان للإغاثة".. جهود إنسانية متواصلة    بعنوان "النمر يبقى نمر".. الاتحاد يجدد عقد مدافعه "شراحيلي" حتى 2028    نائب أمير منطقة مكة يستقبل القنصلَ العام لجمهورية العراق    أمير تبوك يطلع على التقرير السنوي لاعمال فرع وزارة الشؤون الاسلامية بالمنطقة    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ جولات ميدانية لصيانة جوامع ومساجد المنطقة    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    أقوى كاميرا تكتشف الكون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ومانديلا قاد مسيرة توحيد المؤتمر الوطني وواجه تحولات مؤلمة 3 من 4
نشر في الحياة يوم 17 - 06 - 1999

في هذا الفصل ال29 من كتاب "مانديلا: السيرة المأذونة" وعنوانه "من الثورة الى التعاون"، يقول المؤلف انتوني سامبسون، ان نلسون مانديلا خرج من السجن ومبادئه سليمة على حالها. وسرعان ما أدرك ان الرئيس الجنوب الافريقي فريدريك ديكليرك ما زال متمسكاً ب"حقوق الجماعات" التي اعتبرها مانديلا "تفرقة عنصرية من الباب الخلفي". وفي المفاوضات اللاحقة، وافق ديكليرك على إلغاء قوانين القمع وحال الطوارئ واطلاق السجناء السياسيين، ووافق مانديلا وحزبه على وقف اطلاق النار. وفيما بعد تخلى اوليفر تامبو عن رئاسة المؤتمر الوطني الافريقي وانتخب مانديلا رئيساً له بالاجماع، وظل يصف اعضاء اللجنة التنفيذية للحزب، صادقاً، بأنهم "رؤساؤه". وتدريجاً، صار اكثر مرونة في موضوع تأميم المصالح الاقتصادية، وأفلح زعماء اشتراكيون عالميون في إقناعه بأن اقتصادات العالم معتمد بعضها على بعض وبأن التأميم يجعل المستثمرين يهربون.
كانت لدى نلسون مانديلا كزعيم سياسي في الداخل ميزة غامرة: لقد نزل كأنما من الغيوم، وكل مبادئه سليمة على حالها، غير متأثر بالمكائد أو المناورات الرخيصة. وحمته فترة سجنه التي لم يكن لها ما يعادلها طولاً، من الانتقاد والإساءة واكسبته أوراق اعتماد لم يجرؤ أحد على التشكيك فيها. ولم يكن في الأفق أي منافس جدي له.
تشكيك مزدوج
ولكن، في ما بين جولاته الخارجية المظفرة، سرعان ما أخذ يواجه جماهير متشككة في الداخل. اذ اشتكى كثيرون من البيض الجنوب الافريقيين من أنه انعزالي ولا يستطيع السيطرة على عنف قومه، بينما عبر سود قلائل عن اعتقادهم بأنه أخذ ينسى القواعد الشعبية. وواجه مهمة ثقيلة في قيادة حزبه غير المنظم نحو تولي السلطة السياسية. ولم يكن له صوت بعد، أو صفة رسمية باستثناء كونه قائداً ثورياً. وكانت الوسيلتان الوحيدتان لديه للضغط على حكومة الافريكانا هي العقوبات المعتمدة على التأييد العالمي والتهديد بالقوة المسلحة التي تتطلب قوات عصابات كانت لا تزال غير فعالة. وبينما كان يعتبر في كل أنحاء العالم محرراً عظمياً، لم يكن يملك قوة ملموسة داخل بلاده ولا جيش تحرير مقنعاً.
كان فريدريك ديكليرك لا يزال يقود آلة عسكرية قوية، وقوة شرطة ونظام استخبارات: لم يكن لديه نية للافساح في المجال للغالبية السوداء ما لم يرغم على ذلك. وقال مانديلا في ما بعد انه "ما من حكومة في أي مكان في العالم يمكن ان تتخلى عن السلطة من دون قدر هائل من الضغط". كان ديكليريك يعمل بسرعة على جعل حكومته مقبولة لدى الغرب، وكان زعماء غربيون من بينهم مارغريت ثاتشر في بريطانيا وهيلموت كول في المانيا يشجعونه على البحث عن انظمة فيديرالية أو كونفيديرالية بديلة من شأنها ان تمنع سيطرة أي حزب واحد، أي سيطرة المؤتمر الوطني الافريقي. وطالما تطلع الافريكانا الى أوروبا بحثاً عن أنماط للتطور المنفصل. وكان ديكليرك لا يزال متمسكاً بسياسة "حقوق الجماعات" التي يمكن ان تسلط القبائل بعضها على بعض. وكان مانديلا جادله قبل خروجه من السجن قائلاً ان سياسة حقوق الجماعات تعني في الواقع تفرقة عنصرية عبر الباب الخلفي. وسرعان ما أقنع شقيق ديكليرك أخاه بأن "حقوق الجماعات القائمة على العرق أو اللون لا يمكن قبولها". لكن ديكليرك ظل يدعم "حق كل جماعة ثقافية ولغوية غير القابل للتصرف في تحقيق موجبات هويتها".
وسرعان ما أدرك مانديلا ان ديكليرك لم يكن مستعجلاً لبدء التفاوض وساوره الشك في انه يحاول كسب الوقت ويأمل بأن "يسقط على وجهه". وسرعان ما صار متشككاً ايضاً في دور الشرطة: ففي 26 آذار مارس 1990 هاجمت حشداً من متظاهري المؤتمر الوطني الافريقي في سيبوكنغ، جنوب جوهانسبيرغ، وقتلت منهم اثني عشر شخصاً. وقد اشتكى بغضب الى ديكليرك من ان الرئيس لا يمكنه "ان يتحدث عن مفاوضات من جهة ويقتل ابناءنا من جهة اخرى"، وارجأ المحادثات الأولى. واعتقد بأن ديكليرك كان يبحث عن سبل للاحتفاظ بفيتو الأقلية لإحباط الغالبية.
حيل قذرة... ومفاوضات
وكانت لدى الاستخبارات العسكرية الجنوب الافريقية خطط سرية خاصة بها لتقسيم السود. وكانت فعلت ذلك في ناميبيا مستخدمة "حيلاً قذرة" لإضعاف حزب الغالبية السوداء، سوابو، وبناء ائتلاف فضفاض من الاحزاب العرقية، هو تحالف تيرنهالي الديموقراطي دي.تي.ايه. وخططت هذه المرة لإضعاف المؤتمر الوطني الافرىقي بالطريقة نفسها. وأملت بأن تؤخر الانتقال مدة تكفي للسماح للحكومة بخلق تحالف مع أحزاب أخرى للسود، بما فيها انكاثا، يمكنه ان يهزم المؤتمر في الانتخابات.
احتاج مانديلا الى اعادة بناء المؤتمر الوطني الافريقي وتوحيده بسرعة بعد حظره لثلاثين عاماً، ليجمع عناصره المشتتة في حزب منضبط ليبدأ التفاوض مع ديكليرك. وسرعان ما عاد القادة الذين كانوا في الخارج. وأصر مانديلا على ضم صديقه القديم جو سلوفو، سكرتير الحزب الشيوعي الذي صار أبيض الشعر وأكثر هدؤاً ونضجاً. ورفض ديكليرك ذلك في البداية رفضاً قاطعاً، لكنه وافق في نهاية الأمر على انه يجب ان يكون كل جانب حراً في اختيار أي شخص يريد.
في 2 ايار مايو 1990 اجتمع فريقا المؤتمر الوطني الافريقي والحكومة للبدء بمحادثات أولية في غروت شور، المقر الرسمي لديكليرك. وكان ذلك لقاء فريداً في نوعه: اذ كان الزعماء السود، كما قال ثابو امبيكي، "يسعون لأكثر من قرن من الزمن إلى الجلوس والتحدث مع الحكومة". وقف مانديلا وديكليرك في الحديقة أمام وفديهما اللذين كان كل منهما مكوناً من أحد عشر شخصاً. وكان الفريق الحكومي كله مكوناً من ذكور بيض افريكانا، بينما ضم فريق المؤتمر الوطني الافريقي ابيضين، وهندياً وملوناً وسبعة سوداً. وكان في الفريق امرأتان.
ألقى كل من ديكليرك ومانديلا كلمة غير حزبية، وتبادل اعضاء الفريقين الذكريات والنكات. واعجب ديكليرك بأن مانديلا مستمع جيد يدافع عن قضيته كمحام، مع انه اشتكى لاحقاً من ان مانديلا كان "يوبخنا بمطولات مليئة باللوم".
بعد ثلاثة أيام من المحادثات وافق فريق الحكومة على خلق مناخ سلمي للمفاوضات بإطلاق السجناء السياسيين، وبإلغاء القوانين القمعية ورفع حال الطوارئ. وأعلنت هذه القرارات ضمن "مذكرة غروت شور". ووصفها ديكليرك بأنها "خطوة كبرى الى الأمام"، وقال مانديلا أنها "تحقيق حلم"، مضيفاً: "لقد دخلنا هذه المناقشات على أساس انه يجب الا يكون هناك منتصرون أو منهزمون. نحن كلنا منتصرون، وجنوب افريقيا منتصرة". ولكن كان عليه أيضاً ان يذكر الحكومة بأن التفرقة العنصرية لم تمت وانه هو ما زال محروماً من حق التصويت.
مانديلا والحاجة إلى قوة
ظل مانديلا وقادة المؤتمر الوطني الافريقي يشعرون بالحاجة إلى المحافظة على قوة مسلحة داخل جنوب افريقيا كبوليصة "تأمين" اذا ما انهارت المفاوضات. وكانت الوحدة العسكرية ل"عملية فولا" بقيت على حالها وبقي قائداها على اتصال بمانديلا خلال وجوده في السجن. لكن نشطاء هذه الوحدة صاروا مهملين بعد إنهاء الحظر على المؤتمر الوطني الافريقي واعتباره حزباً قانونياً، واخذوا يتركون ملفات سرية على أقراص الكومبيوتر. واعتقلت الشرطة بعض اعضاء هذه الوحدة. وتمكنت في 25 تموز يوليو من اعتقال قائدها ماك ماهاراج وآخرين واتهمتهم بالتآمر لإطاحة الحكومة.
رأى مانديلا في ذلك ذخيرة قوية ضد ديكليرك. وأصر على أنه لا يمكن نزع سلاح المؤتمر الوطني الافريقي بينما تنشر الحكومة وحداتها المسلحة ضد المؤتمر. وفي نهاية الأمر، في آذار مارس 1991 أطلق ماهاراج والآخرون ومنحوا حصانة واسقطت التهم الموجهة اليهم.
اجتمع مانديلا وفريق المؤتمر الوطني الافريقي مع الحكومة في بريتوريا في 6 آب اغسطس، ووعد بوقف لإطلاق النار فوراً. ووعد ديكليرك من جانبه بإطلاق السجناء السياسيين والعفو عن المنفيين لأسباب سياسية.
لم يكن وقف اطلاق النار الذي عرضه المؤتمر الوطني الافريقي سخياً كما بدا. اذ كان الأمين العام للمؤتمر الفريد نزو أقر في كانون الثاني يناير 1990 علناً ب"أننا لا نملك داخل بلادنا القدرة على تشديد الكفاح المسلح بأي طريقة ذات معنى". واعتقد مانديلا بصفته أول قائد لقوات "ام.كيه" بالأهمية الرمزية للكفاح المسلح على رغم انه اعتقد بأن لهذا الكفاح "شعبية لا تتناسب مع ما يحققه على الأرض".
غضب الرفاق الشبان المتشددون من تعليق الكفاح المسلح في مقابل تنازلات طفيفة. ولم يكن بوسع نواة صلبة منهم قبول فكرة المفاوضات برمتها. وكان خمسة وعشرون سجيناً ما زالوا في سجن جزيرة روبن رفضوا عرض العفو وأصروا على أنهم لن يغادروا الا بعد النصر في ساحة المعركة. واضطر مانديلا إلى العودة الى السجن ليقنعهم، بصعوبة، بقبول عرض الحكومة.
مشكلات توحيد المؤتمر
كان مانديلا لا يزال يواجه مشكلات كبيرة في توحيد المؤتمر الوطني الافريقي واقناع صفوفه بقبول المفاوضات والحل الوسط. وبقيت قيادته الشخصية قيادة مهيبة لا يمكن النيل منها. واضطر اصدقاؤه إلى إقناع الاعضاء الأصغر سناً بمجادلته.
برزت كل الشكاوى في شأن اعتدال المؤتمر الوطني الافريقي في المقدمة عندما عقد الحزب "مؤتمراً استشارياً" ضم 1600 مندوب في جوهانسبيرغ في كانون الأول ديسمبر 1990. وكان اوليفر تامبو عاد الى جنوب افريقيا، بينما كانت حاله الصحية لا تزال سيئة بسبب الجلطة التي أصيب بها، ليفتتح المؤتمر رسمياً بصفته رئيساً. وألقى خطاباً جريئاً، كانت اللجنة التنفيذية القومية قد أقرته، مجادلاً بأنه يجب على المؤتمر ان يعدل دعمه للعقوبات الشاملة: وقد حذر من ان البلدان الغربية بدأت فعلاً بالتراجع عن العقوبات، وان المؤتمر الوطني الافريقي لا يمكنه تحمل نتائج تهميشه في الخارج. لكن المتشددين رفضوا قبول ذلك، وأصر المؤتمر على العقوبات حتى وإن لم يكن يجري تطبيقها.
أثنى مانديلا على قيادة تامبو للحزب عبر أحلك سنواته، ولكن تركت له مهمة توحيد صفوف المؤتمر. وأثنى بديبلوماسية على كل العناصر المختلفة: مقاتلي "ام.كيه" الذين قال انهم "صاروا كالفولاذ بفضل سنوات القتال والخبرة والتضحية"، والسجناء الذين قضوا فترات سجن طويلة وتعلموا المثابرة والصبر، والمنفيين "بمستوى تدريبهم السياسي العالي"، والقادة في داخل البلاد بما لهم من خبرة في تعبئة الجماهير "والذين ربما كانوا الأعظم تحسساً للمزاج الشعبي". لكن التوترات كانت واضحة: ذلك ان النشطاء الداخليين الأصغر عمراً مقتوا سيطرة المنفيين الأكبر عمراً الآتين من لوساكا، بينما ادعى كل فريق الفضل لنفسه في تحقيق النصر.
كان مانديلا قد بدأ يظهر نفسه قائداً أكثر محافظة واعتدالاً مما توقعه الرفاق الشبان، وكرجل مختلف جداً عن الثائر الخام الذي سجن بصفته قائد جيش ثوار. وواجه انتقاداً صريحاً من المندوبين، خصوصاً لعدم استشارته إياهم خلال محادثاته مع الحكومة. ووعد في خطابه الختامي بأن "القادة قد استوعبوا مبدأ أنهم خدم الشعب". لكنه جُرِح لعدم التعبير "عن أي ثناء تقريباً" على اللجنة التنفيذية، واستخف بالمنتقدين الذين عبروا عن اعتقادهم بأن بإمكانه ان يتفاوض من دون أي تكتم وسرية، قائلاً انهم "لا يفهمون طبيعة التفاوض". بعد ستة أشهر من ذلك، في 2 تموز يوليو، تعرضت سياسات المؤتمر الوطني الافريقي لانتقادات اكثر ضراوة خلال مؤتمره الوطني الكامل في ديربان - الأول داخل جنوب افريقيا منذ اكثر من ثلاثين عاماً - والذي حضره اكثر من ألفي مندوب. كان الهدف الرئيسي لمانديلا تمهيد الطريق للحل الوسط والتسوية السلمية، وتوجيه طاقات المتشددين نحو المحادثات، لا الحرب. ووصف المفاوضات بأنها "استمرار للنضال المؤدي الى هدفنا المركزي: نقل السلطة الى الشعب". كان المؤتمر الوطني الافريقي لا يزال تحت سيطرة الحرس القديم، بمن في ذلك مانديلا، وتامبو وسيسولو: وكانت آخر انتخابات للجنة التنفيذية اجريت عام 1985. لكن ثلاثة طامحين أقوياء أصغر سناً كانوا يتنافسون على القيادة المستقبلية، وكان كل منهم من مسرح نضال منفصل:
كريس هاني، قائد قوات "أم.كيه" وثابو امبيكي الذي كان المستشار الرئيس لتامبو في المنفى، وسيريل راماخوسا، رئيس نقابة عمال المناجم.
قيادة خليط
أعاد المؤتمر الوطني الافريقي توطيد نفسه على رغم كل تنبؤات وسائل الاعلام بانقسامات. وادعى سيسولو ان هذا هو بفضل "وحدة قيادة لم يسمع أحد بمثلها في أي جزء من العالم". وضمت اللجنة التنفيذية الجديدة المكونة من خمسين شخصاً خليطاً من الاعراق، بما في ذلك سبعة هنود، وسبعة ملونين، وسبعة من البيض. واشتكى الليبيراليون البيض من أنهم استبعدوا ومن ان الاعضاء البيض كانوا جميعاً شيوعيين. لكن الشيوعيين وحدهم كانوا قد وقفوا الى جانب المؤتمر الوطني الافريقي طوال فترة نضاله كلها.
أعلن تامبو تخليه عن منصب رئيس الحزب، وانتخب مانديلا بالاجماع خلفاً له. وقال في ما بعد: "لم أر نفسي قائداً الى ان انتخبت. وكان هذا شيئاً لا بد من عمله". كان معظم الناس ينظر اليه في الواقع باعتباره القائد الحقيقي، وكان هناك قلق من انه قد يصبح أوتوقراطياً من دون وجود تامبو كثقل موازن. لكن مانديلا أشاد بتامبو اشادة بليغة واعتبره الموحد الاساسي للحزب: "لقد مهد السبيل الى الأمام بالذهب... ذهب انسانيته، ودفئه، وروحه الديموقراطية، وتسامحه، وقبل كل شيء براعته الفكرية التي تغلبت في النهاية على العنصريين في هذا البلد". وبقي مانديلا متأثراً تأثراً عميقاً بتراث الوفاق والتفاهم الذي تركه تامبو.
صار مانديلا على رأس تنظيم اكبر بكثير مما حلم به أسلاف له مثل لوثولي أو اكسوما: وفي وقت لاحق من العام 1991 انتقل المؤتمر الوطني الافريقي الى "شل هاوس"، وهو مبنى مرتفع في وسط جوهانسبيرغ. وأصر مانديلا على ان يكون سيسولو وتامبو في مكتبين بجانب مكتبه، وكان الكهول الثلاثة يدخلون ويخرجون بعضهم من مكاتب بعض بصورة منتظمة، وكانت علاقتهم وثيقة كما كانت عليه خلال "حملة التحدي" قبل اربعين عاماً. كان تامبو لا يزال يفكر فلسفياً أكثر من مانديلا في سياسة المؤتمر الوطني الافريقي، بينما ظل سيسولو يقوّم مانديلا كما يقوّم مدرس تلميذه أداؤه أفضل مما توقعت. لكنهما كانا مستشارين في الغرفة الخلفية، وكان مانديلا الممثل النجم، وتجسيداً للسياسة. وقد اختار لإدارة مكتبه ثلاث نساء قويات: "من غير المجدي لقائد ان يحيط نفسه برجال إمعات".
بقي مانديلا عضواً "منضبطاً ووفياً" في المؤتمر الوطني الافريقي، وعندما كان يتحدث عن "رؤسائه" لم يكن يمزح بالضرورة. اذ كان بوسع لجنته التنفيذية ان تسكته، وقد عكست تصريحاته تحول مواقف اعضائها أكثر من مواقفه. وقد شرح في العام 1994: "احياناً اعتقد بأنهم مخطئون جداً، ولكن علي ان احترم الغالبية. يتعين علي ان أذهب اليهم واحداً واحداً لإحاول إقناعهم".
تحولات مؤلمة
لكن مانديلا واجه تحولات كثيرة مؤلمة خلال ابتعاد المؤتمر عن السياسات الثورية والتوجه الى الاعتدال والحلول الوسط. وكانت أصعب المجادلات تلك المتصلة بالملكية والتأميم. وكان سجناء جزيرة روبن ناقشوا موضوع التأميم نظرياً لسنوات، ولكن تعين على اللجنة التنفيذية الآن ان تتفق على سياسات عملية يمكن ان تطبق قريباً. كان مانديلا نفسه لا يزال يعتبر التأميم الوسيلة الواضحة لتقليص فجوة عدم المساواة واعطاء السود القوة الاقتصادية.
كان مانديلا، بحلول موعد اطلاقه في 1990، يعي ان جنوب افريقيا تحتاج في صورة ماسة الى الاستثمار الاجنبي لتحقيق نمو اقتصادي وتوفير مزيد من فرص العمل. ووعد بشن حملة لاجتذاب المستثمرين بمجرد ان يصبح في الامكان رفع العقوبات. وأقر لاحقاً بأنه كان بطيئاً في ادراك ان التأميم من شأنه ان يبعد المستثمرين المحتملين. وكان يذكر رجال الاعمال بأن حكومات الافريكانا استغلت الصناعات المؤممة، بما فيها السكك الحديد، والفولاذ وخطوط جنوب افريقيا الجوية لإعطاء القوة والغنى للبيض. فلِمَ ينبغي الآن منع السود من الحصول على هذه الفوائد نفسها؟
لكنه صار أكثر مرونة. واقترح ان لا حاجة إلى تأميم أكبر عشر مجموعات شركات تسيطر على سوق الاسهم، وانه يمكن تقسيمها بموجب قوانين منع الاحتكار. وصار أكثر مودة نحو رجال الاعمال. ولكنه لم يتحول ضد التأميم الا في شباط فبراير 1992 عندما ذهب الى المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، بسويسرا. وجادل في دافوس لمصلحة التأميم لكن رجال الصناعة والمصارف هاجموه بشدة خلال تناول وجبات الطعام والعشاء. وجادلهم قائلاً ان بلداناً مثل بريطانيا والمانيا واليابان احتاجت الى صناعات مؤممة، لإعادة بناء اقتصاداتها بعد الحرب العالمية الثانية، وقال: "إننا نمر بتجربة مروعة هي الحرب ضد شعبنا".
لكنه عدل عن موقفه في نهاية الأمر بفضل ثلاثة مندوبين يساريين متعاطفين معه، فمع ان وزيرة الصناعة الهولندية كانت متفهمة، إلا أنها سحقت حججه، اذ قالت: "كان هذا فهمنا آنذاك، أما الآن فإن اقتصادات العالم يعتمد بعضها على بعض. لقد تجذرت عملية العولمة. لا يمكن أي اقتصاد ان ينمو في عزلة عن اقتصادات البلدان الأخرى". وقال له قادة من بلدين آسيويين اشتراكيين، الصين وفيتنام، كيف قبلا بالاستثمار الخاص، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وقال مانديلا متذكراً: "لقد غيروا وجهات نظري كلياً. وعدت الى البلاد لأقول: يا شباب، علينا ان نختار: اما ان نحتفظ بالتأميم ولا نحصل على استثمارات، وإما أن نغير موقفنا ونحصل على استثمارات".
غداً الحلقة الاخيرة
الكتاب: مانديلا: السيرة المأذونة.
المؤلف: انتوني سامبسون.
الناشر: هاربركولينز، لندن.
ثمن النسخة: 24 جنيهاً و99 بنساً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.