"لم يعر اهتماماً لأي طريق يسلك شريطة ان يكون في مقعد السائق" . يمكن لهذه الكلمات، التي صدرت عن اللورد بيفربروك، الشخصية السياسية البريطانية والناشر الصحافي، في وصف رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج قبل حوالي 80 سنة، ان تنطبق على رئيس وزراء معاصر هو بنيامين نتانياهو. يواجه نتانياهو بعد اقل من ثلاث سنوات في الحكم افلاساً سياسياً. واخذاً في الاعتبار موت عملية السلام وتخلي حلفائه عنه، كان اسقاط حكومته من قبل الكنيست بالدعوة الى انتخابات مبكرة عملاً رؤوفاً. لكن ينبغي عدم الاستهانة بمواهب نتانياهو وقدرته على البقاء سياسياً. فهو مستعد للذهاب الى أي مكان وابرام أي صفقة بأي ثمن من اجل اعادة انتخابه يوم غد. لقد توجه الزعيم الاسرائيلي الى موسكو الشهر الماضي. وتصدرت الاجندة قضية بالغة الحساسية، بالنسبة الى اسرائيل والولاياتالمتحدة على السواء: مساعدة روسيالايران في تطوير قدرات تسليحية غير تقليدية. وفي الوقت الذي لم يتردد فيه رئىس الوزراء الروسي يفغيني بريماكوف عن ابلاغ ضيفه الاسرائيلي بان الحكومة الروسية غير مسؤولة عما تفعله شركات خاصة وعلماء فانه كان يدرك تماماً ان الاميركيين لن يصدقوا شيئاً من ذلك. ربما كان بريماكوف يفكر هكذا: لم لا نطلب من رئيس الوزراء الاسرائيلي ان يهمس لاصدقائه في واشنطن ببضع كلمات ايجابية؟ فقد يساعد هذا على تخفيف التهديد بفرض عقوبات على المؤسسات العلمية في روسيا بسبب علاقتها مع ايران. وبغض النظر عما اذا كانت هذه الفكرة نوقشت فعلاً في الاجتماعات المغلقة، بدا بوضوح ان بريماكوف كان ممتناً لضيفه عندما خرج الزعيمان ليواجها الصحافة في ختام محادثاتهما. وأدلى رئىس الوزراء الروسي، وهو يقف الى جانب نتانياهو الذي بدا متهللاً، بتصريح غير مألوف وفق كل المقاييس الديبلوماسية: "لو كنت اسرائيلياً فاني كنت سأصوّت لنتانياهو". وكان لوقع هذه الكلمات على مسامع رئىس الوزراء الاسرائيلي عذوبة خاصة. انه فضل كبير حقاً، اخذاً في الاعتبار وجود ما يقرب من مليون اسرائيلي من اصل روسي يتابعون ما تبثه قنوات التلفزيون الروسية والاسرائيلية. هل كان هناك شيء في المقابل؟ لا ندري، لكن بعد ذلك بوقت قصير افاد التلفزيون الاسرائيلي بان نتانياهو ناشد مجموعة من اعضاء مجلس النواب الاميركي اثناء زيارتهم الى اسرائيل ان يجمّدوا لمدة ستة أشهر كل مشاريع قرارات في الكونغرس لفرض عقوبات على روسيا. في الجو المشحون للحملة الانتخابية تسبب هذا التقرير في إثارة ضجة. واتهمت المعارضة نتانياهو بالمقامرة بالأمن القومي لاسرائيل من اجل الفوز في الانتخابات. واصدر مكتب نتانياهو نفياً ضعيفاً ادعى فيه ان السياسة العامة لم تتغير، لكن ينبغي اعطاء روسيا فترة اختبار لمدة ستة اشهر. وفي وقت لاحق، اطلق ناطقون رسميون تصريحات أشد لهجة. كما طلب مكتب نتانياهو من النائب بن غيلمان من نيويورك رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الاميركي، الذي حضر اللقاء، ان ينفي المزاعم، وهو ما فعله. وبدا ان الامر انتهى عند هذا الحد. لكن صحيفة "هآرتز" الواسعة الانتشار كشفت ان نتانياهو اجرى تحولاً كاملاً في السياسة الاسرائيلية وطلب من صندوق النقد الدولي ان يساعد روسيا. لا عجب اذاً ان يثير نتانياهو، مرة تلو اخرى وبغض النظر عما يقوم به، الشكوك بأن شيئاً ما ليس على ما يرام. انه لا يكف عن اتهام الصحافة بالتآمر ضده، لكن هل هي حقاً كذلك؟ ابتداءً، ماذا كان يفعل في روسيا؟ هل يحتاج الى التودد فعلاً لبريماكوف الذي لم يدعم ابداً السلام في الشرق الاوسط؟ ولم هذا التهافت للانضمام الى جوقة الزعماء المشبوهين الذين تحتضنهم روسيا في الوقت الحاضر، من امثال صدام حسين وسلوبودان ميلوشيفيتش؟ حقيقة الامر هي انه لم يكن بامكان نتانياهو ان يختار حسب هواه الاماكن التي يسافر اليها لأنه استنفد، على ما يبدو، حسن النية لدى الجميع تقريباً: الولاياتالمتحدة، واوروبا، والعالم العربي. ربما لا يزال بريماكوف متمسكاً بالفرضية القديمة التي ترى ان رئيس وزراء اسرائيل يملك في جيبه مفتاح واشنطن. لكن هذا، واحسرتاه، لا ينطبق على نتانياهو الذي خسر عموماً تأييد اميركا. فمنذ ان اغضب ادارة كلينتون بامتناعه عن تنفيذ اتفاق واي بلانتيشن، اخذ الاميركيون يقفون الى جانب الفلسطينيين بتوجيه اصابع الاتهام اليه. وفي الوقت الذي اصبح فيه نتانياهو شخصاً غير مرغوب فيه في البيت الابيض، يلقى ياسر عرفات ترحيباً حاراً هناك ويجني بحكمة ثمار صبره وتفهمه. يا له من تبادل ادوار تاريخي.