جوفري ويتكروفت الذي اصدر في 1996 كتاباً شهيراً عنوانه "المساجله حول صهيون: كيف حاولت الصهيونية ان تجيب عن المسألة اليهودية"، ومن ثم نال جائزة الكتاب اليهودي الأميركي لذاك العام، نشر في مجلة تي. ال. آس الملحق الأدبي للتايمز في 1/1/1999، مقالاً يُعرّف برجل لم تكترث به الأدبيات العربية والفلسطينية كثيراً. انه: كارل كراوس. والحال ان العرب ليسوا وحيدين في نقص الاهتمام بكراوس. فقد رأى ويتكروفت ان انقضاء مئة عام، في 1998، على صدور رده على هرتزل، "تاج من أجل صهيون"، مر مرور الكرام حتى استحالت مقارنته بالضجيج الذي أثارته مئوية "الدولة اليهودية" الذي كتبه مؤسس الصهيونية قبل اشهر من العام نفسه. ويرجع الكاتب الى اسباب عدة تفسر هذا التجاهل، من اهمها ان النازية وجريمتها الكبرى اسكتتا الاصوات اليهودية المناوئة للصهيونية. فحين نأخذ في الاعتبار الظروف التي احاطت بنشأة اسرائيل في ظلال المحرقة، يغدو من المفهوم التحفظ في النقد اليهودي، والتحفظ في استقبال النقاد والاحتفاء بهم. والحال ان اليهود الوحيدين الذين لم يسرِ عليهم التحفظ هذا، منذ 1948، هم الحريديم او اليهود الارثوذكس الذين لم يعترفوا باسرائيل على رغم عيشهم فيها، والماركسيون التروتسكيون الذين تبعوا "يهوديين" هما ماركس وتروتسكي. بيد ان المناهضة اليهودية للصهيونية تحمل على العودة الى سنوات الصهيونية الاولى. فثيودور هرتزل لم يجد في اي من الاوساط التي خاطبها او احتك بها، النفور الذي لقيه من اليهود انفسهم. فحينذاك لم تقتصر المعارضة الدينية على الحريديم ممن ظنوا ان مملكتهم في السماء، بل طاولت كل الحاخامين الارثوذكس. ذاك ان المؤمنين منهم ذهبوا الى ان "شعب الله" سوف يعاد الى "ارض اسرائيل" في وقت يحدده هو ويرتبط بقدوم المسيح. وهذا الحدث الاخير، وعلى الضد من الارادية الصهيونية، عمل لا يستطيع البشر ان يتدخلوا فيها تعجيلاً او ابطاءً. لا بل يرقى أي توقع انساني له الى سوية الكفر والتجديف. ففي 1900 كتب احد هؤلاء الحاخامين يقول: "ظهر أغراب يقولون ان شعب اسرائيل ينبغي اكساؤه ثوب القومية العلمانية، ليصير أمة مثل سائر الأمم... في حين ان دراسة التوراة شأن خاص يعتمد على هوى كل واحد من الأفراد. فليضع الرب حداً لهؤلاء الرجال الأشرار، وليَقم، هو الذي اختار القدس، بكمّ افواههم". وبالقدر نفسه كره الحاخامون الاصلاحيون الصهيونية التي كانت، بكلمات روبرت ويستريش، "تراجعاً محلياً وريفياً من "الرسالة" اليهودية العالمية" الى "القومية القبلية". وباستثناء الصهاينة العماليين على أصنافهم، ممن حاولوا تكييف الصهيونية القومية مع الاشتراكية، عارض اليهود الاشتراكيون جميعاً، من الاشتراكيين الديموقراطيين الى البلاشفة الثوريين، الصهيونيةَ، ولم يشذ عن ذلك البوند الروس، وهم الاشتراكيون الذين ركّزوا مفهومهم لهويتهم على ثقافة الييديش ولغتها. على انه بين هذه التنويعات جميعاً، بقيت مرارة اليهود الاوروبيين والاميركيين المندمجين ملحوظة ونافرة. فبالنسبة اليهم كانت الصهيونية اهانة وخطرا في آن. ذاك ان مقدمتها المركزية هي ان التحرر في البلدان التي يقيم فيها اليهود قد مني بفشل ذريع، وان اليهود لن يُقبلوا ابدا في هذه البلدان. وكانت المادة التي يستشهد بها الصهاينة وفيرة وغنية: من قضية دريفوس في باريس الى الانتصار الانتخابي للحزب المسيحي الاجتماعي في فيينا. والنتيجة المترتبة انه لا بد من تشكيل هوية قومية خاصة باليهود والسعي اليها. ولم تقبل البورجوازية اليهودية المندمجة الطرح الصهيوني. فقد رأت انها لا تزال تعيش في اوطانها، وانها ستبقى تعيش فيها. وحينما زار هرتزل لندن محاولاً استمالة بعض عليّة قومها من اليهود، وجد ان عقولهم "متجمدة" في الوطنية الانكليزية، اي في الاعتقاد بأنهم "انكليزيو المواطنة من ذوي الديانة العبرية"، وهو شيء ينكره، بطبيعة الحال، الصهاينة واللاساميون سواء بسواء. وهذه الحال استمرت لعقود ولا تزال. فابان الذكرى الثامنة ل"اعلان بلفور" ظهر من يقاتل الاعلان بضراوة غير عادية، وكان هذا المقاتل إدوين مونتاغيو، العضو اليهودي الوحيد آنذاك في الحكومة البريطانية، والذي سأل زملاءه بمرارة لماذا يريدون ارساله الى غيتو في الشرق؟ وقبل اشهر على الاعلان كان ديفيد الكسندر وكلود مونتفيوري اللذان رأسا مجموعة النواب اليهود البريطانيين والرابطة الانكلو - يهودية، كتبا الى صحيفة "تايمز" اللندنية يقولان ان اقامة وطن قومي يهودي في فلسطين "سوف يتكشف عن مصيبة حقيقية للشعب اليهودي"، وأن "انشاء جنسية يهودية في فلسطين، مؤسسة على نظرية التشرد اليهودي، سوف يكون لها على مدى العالم فعالية وصم اليهود بأنهم غرباء في أوطانهم، وتدمير ذاك الموقع الذي نالوه بالجهد كمواطنين في تلك الاوطان". على هذا النحو رأى كارل كراوس الأمر. وحتى يومنا هذا لا يزال ثمة تابعون لأفكاره في الاقطار الناطقة بالألمانية، فيما التف حول هذه الافكار عدد من الاكاديميين البريطانيين كجون هاليداي وهيو سلفِسن وادوارد تيمز ممن كتبوا عنه. ومع هذا بقي كراوس الكاتب مجهولا بسبب انتقائية وتناثر أعماله التي توزعت ما بين مقالات وكتابات نقدية وشعر ومسرح، كما بسبب صعوبة اسلوبه التي جعلته عصيا على الترجمة، ناهيك عن ملابستها بعض التفاصيل الدقيقة والخاصة جدا في تاريخ فيينا وثقافتها. لقد ولد كارل كراوس في 1874 ابناً لتاجر ورق يهودي ناجح، وظهر نبوغه مبكرا حتى انه ذُكر في دليل "مَن مَن" عن الحياة الثقافية والفكرية في فيينا بعيد تخرجه من المدرسة. وسريعاً ما توددت اليه "الصحيفة الحرة الجديدة"، أكثر صحف فيينا نفوذاً يومذاك، محاولةً استقطابه، هي التي كان رئيس تحريرها موريتز بنديكت بالغ التأثير في مجالات السياسة والثقافة والاعلام. وفي الصحيفة هذه عمل ثيودور هرتزل، فغطى قضية دريفوس ومضاعفاتها من باريس، الا ان صهيونيته لم تترك أي اثر في الصحيفة اذ كان بنديكت معادياً لها الى حد تحريم طبع الكلمة. لكن يبدو ان كراوس، نجل رجل المال الثري والمستغني عن العمل لاعالة نفسه، رفض العمل في جريدة بنديكت، مؤثراً انشاء مجلة "المشعل" التي اشتُهر بسببها، لا سيما وأنه ظل يرأس تحريرها حتى وفاته في 1936. وكان بين الذين كتبوا لاحقاً عن المجلة وتأثيرها الياس كانيتي، فأعطى لمذكراته عن سنوات فيينا عنوان "المشعل في أذني". في غضون ذلك اتصل هرتزل بكراوس على أمل ضمّّه الى حركته. لكن الأخير اشتبه، في بدايات اللقاء الأول بينهما، بانه انما يتحدث مع احد ممثلي التنظيمات اليمينية اللاسامية المتطرفة ممن يريدون الحصول على هبة سخية من جراء تعاطيهم في مسائل اليهود وهجرتهم. فحينما اكتشف ان مُحدثه هو كبير الصهاينة، داهمه بهجوم كاسح واحتقاري، ساخراً من تقرير مؤتمر بازل بال التأسيسي، ومن الرعشة العاطفية التي اصابت بعض المندوبين حين رأوا علمهم الجديد الازرق والابيض وفيهما نجمة داود. ومع ان كراوس عبر لاحقا عن اعجاب متحفظ بهرتزل شخصيا، وبكفاءاته ككاتب، الا انه ظل على موقفه الهجائى من الفكرة التي تقول ان في وسع اليهود الالمان والروس والفرنسيين والاتراك ان يتوصلوا الى قاسم مشترك وطني يجمعهم. وهو الذي قال عبارة ذاعت في بعض الاوساط لاحقاً: فاليهود، هذه المرة، لن يصلوا الى ارض الميعاد بأقدام جافة ما دام ان ثمة "بحراً أحمر آخر يقف في طريقهم. انه الاشتراكية الديموقراطية". فالاخيرة، وليس القومية، هي الجواب في عرف كارل كراوس. ومضى خطوة أبعد ليؤكد ان الصهيونية واللاسامية تكمّل واحدتهما الأخرى، حتى اعتبره ثيودور ليسينغ، في 1930، نموذج اليهودي الكاره للذات. وفي المقابل كان كراوس الاندماجي قد اتخذ، منذ 1907، منحى نقيضاً بالكامل، فتخلى عن يهوديته كلياً، مستفيداً مما كان يجيزه دستور النمسا، واعتنق الكاثوليكية، ليعاود التخلي عنها في ما بعد. ومع صعود "القومية الاجتماعية" النازية الى السلطة في 1932، راح عالم كارل كراوس يتداعى. ففي 1934 كتب عبارته الغامضة والتهكمية التي كثر استشهادها لاحقاً: "لا يمكنني التفكير في شيء يمكنني قوله عن هتلر". واذا كانت الذبحة القلبية التي ألمّت به بعد عامين قد أراحته من الرعب النازي ومشهده، فإنها أكدت لليهود المندمجين، كي لا نقول المُحيّرين، ان هرتزل على حق وكراوس على خطأ. وكان البائس ان كلفة "انقشاع" هذه الحقائق بدت باهظة وهيولية: المحرقة. فتوقعات كراوس التي دان بها الصهيونية عن انقراض اليهود بفعل الاندماج، بدت، في ضوء النازية، من النوع المثير للاشمئزاز حقاً. وكان "الحل النهائي" هو الحجة الاخيرة للصهيونية التي يصعب، بعد اليوم، ان يقال في معارضتها: "لا يمكنني التفكير في شيء يمكنني قوله عن هتلر". غير ان الامور لم تكن بهذه البساطة. فالدولة اليهودية التي احتقرها كراوس في رده على هرتزل، جعلتها المجزرة النازية احتمالاً قوياً، ومن ثم واقعاً متحققاً. والاشتراكية الديموقراطية لم تكن بحراً أحمر من نوع آخر، بقدر ما كانت رعونة الاشتراكية البلشفية ودمجيتها، ومن ثم لاسامية الستالينية، عناصر مساعدة للصهيونية. اما ان تكون الصهيونية قد قدمت الحل للمشكلة اليهودية، وان يكون هرتزل قد ربح المساجلة بالمطلق، فهذه قصة اخرى أشد تعقيداً. * كاتب ومعلّق لبناني.