قبل ايام دعت لجنة الأوديسيه بالتعاون مع وزارة الثقافة والتعليم العالي في لبنان وجمعية التعاضد المكارمي الى الاحتفال بذكرى الشيخ نسيب مكارم، الذي عرف بلقب "خطاط الملوك" وكان خطاط الجمهورية اللبنانية وواحداً من أبرز المبدعين في مجال الخط العربي على مرّ القرون. وفي قاعة عصام فارس في الجامعة الاميركية في بيروت التقى حشد ممن عرفوا الشيخ نسيب وممن أتوا للتعرّف الى عمله وعالمه عبر شهادات وعروض للرقائق الملونة تناولت 148 لوحة من أعماله، في تواتر مدروس زاوج بين الصوت والصورة، كاسراً رتابة المنبر الخطابي العتيد. ولد نسيب مكارم في 14 ايلول 1889، في قرية عيتات التي نزح اليها من بلدة رأس المتن جده الشيخ سلمان يصحبه والده حمود زين الدين مكارم ووالدته عارفة عبدالله، ملتحقاً بنسيبه كنعان مكارم الذي كان انتقل الى عيتات من رأس المتن في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وفي عيتات اشتغل سلمان مكارم في النجارة واشترى أرضاً بنى عليها داراً جميلة سرعان ما اشتهرت ب"قناطر العم سلمان". تزوّج صبية من آل ابي سلمان من عين عنوب، ورزق اربع بنات وصبيين، صغيرهما سعيد الذي شبّ وتزوّج عذباء يونس من عيناب، ورُزق منها سبعة بنين وابنتين، كان ثانيهم نسيب المحتفى بذكراه. التحق الفتى نسيب بمدرسة سوق الغرب العالية، لكنه كان في الرابعة عشرة حين فقد والده في عز شبابه، فاضطر الى مغادرة المدرسة والانصراف الى العمل آخذاً عن أبيه سعيد صنعة النجارة، وهواية الخط الجميل عن أمه عذباء، خريجة مدرسة شملان الانكليزية، نالت منها شهادتها الثانوية سنة 1886 وهو ما لم يكن يتسنى للفتيات الدرزيات في القرن التاسع عشر. وكانت عذباء، ذات خط جميل، تشجع ولدها نسيب على اتقان هذا الفن فكان الفتى يوفق بين النجارة والخط، يؤمّن للعائلة لقمة العيش، ويمضي ليله بين القلم والريشة، موفقاً أنامله بروح الفنان في العملين، آتياً في كليهما بالفن والإبداع. وذات يوم من 1909، قرأ الشيخ نسيب ان الامير عزالدين جواد التنوخي أخذ اية الكرسي وهي في نحو 50 كلمة وكتبها على حبة رز. شاء الشيخ نسيب ان ينافس الامير فكتب على حبة رز قطعة من احدى وستين كلمة عرضها في معرض زحلة عامئذ، فنالت الجائزة الاولى الممتازة. ومن يومها شاع اسم الشيخ نسيب مبدعاً استثنائياً في فن الخط العربي. عام 1919 تزوّج من وسيلة بنت سليمان فرج وكانت شبيهة له في التقى والورع والحياء، وصاحبة ذوق فني رفيع. ورزق الزوجان صبيين: سعيد وسامي. أخذت زوجته وسيلة تساعده في اعماله الفنية، فكان هو يخط الجمل والتعابير والآيات، وهي تشتغلها بابرتها الماهرة تطريزاً وتخريماً. ونالت على أعمالها الفنية جائزة الشرف في معرض جمعية النهضة النسائية في بيروت عام 1928، والجائزة الممتازة لمعرض وزارة الزراعة السورية في دمشق عام 1929. عام 1921، أسس الشيخ نسيب مكتباً له في ساحة الشهداء، انتقل منه الى مكتب ثانٍ في سوق أياس، فمكتب ثالث في شارع المعرض، استقر فيه 44 عاماً، يخط ويستشار خبيراً فنياً بالخطوط لدى المحاكم. الى اعمال الخط، زاول الشيخ نسيب تدريس فن الخط العربي والنقش العربي، في الليسيه الفرنسية والجامعة الاميركية كما درّس في الكلية الشرعية الاسلامية ومدرسة الثلاثة أقمار والكلية اللبنانية في سوق الغرب، والجامعة الوطنية في عاليه. هذا الفيض من العطاء بلا كلل، أجهد الشيخ الجليل، فناء تحت وطأة العمل المرهق، وأصيب بمرض في القلب جعله يترك مكتبه في بيروت مرغماً، والمدارس التي يدرّس فيها، وينسحب الى منزله في عيتات، منصرفاً الى ربه وتمجيد الجمال، فبات بيته محجاً لمحبي الفن والمعجبين بالفضيلة والخلق الرفيع. وفي عيتات، أخذت الخطوط تنثال ممجدة الله في كل حرف ولون، وكانت معظم كتاباته في تلك الفترة بالذهب على الزجاج، فسمى بيته "المتحف الذهبي". عام 1968، زار الشيخ نسيب في عيتات راهبان أنطونيان، أحدهما الاب جورج رحمة، والآخر الاب انطوان ضو، وأعجب الراهبان بما أبدعت أنامله من جمال، فاقترحا عليه اقامة معرض في المعهد الانطوني في بعبدا. لكنه اعتذر لإشاحته عن كل بهرجة واضواء. الا ان الراهبين ألحّا، فأخذ الشيخ ابن الثمانين يستعد لهذا الحدث الاول من نوعه في حياته، ويعمل محتملاً ضعف اعصاب يده اليمنى وارتعاش قبضتها على القلم. وكان كلما ازدادت آلامه عالجها بالصلاة والتأمل، تنوء يده اليمنى فيعينها باليسرى، وتتعب اليسرى فيريحها قليلاً على المنضدة. وكان الافتتاح الكبير لمعرض الشيخ نسيب يوم السبت 29 ايار مايو 1971، برعاية رئيس الجمهورية سليمان فرنجية، ممثلاً بوزير التربية آنذاك الدكتور نجيب ابو حيدر. وكان من المؤسف يومئذ ان ألف وخمسمئة زائر في الافتتاح، حُرموا مصافحة الشيخ العبقري صاحب المعرض، لانه كان طريح الفراش في بيته، مما اضطر ممثل رئيس الجمهورية ان يقصده في موكب رسمي الى بيته، ليقلده وسام الارز من رتبة ضابط. يوم السبت التالي، بعد اسبوع تماماً من افتتاح المعرض وتعليق الوسام، وفيما كان زوار المعرض يفدون الى المعهد الانطوني في بعبدا معجبين مندهشين، كان عشرات آخرون في عيتات يسيرون حزينين دامعين وراء نعش الشيخ نسيب مكارم. الى جمال خطوطه وروعتها، وابتكاره خطاً مطبعياً جديداً عرف باسمه، اشتهر الشيخ نسيب مكارم بالكتابات الدقيقة، ومنها: على بيضة رخامية بحجم بيضة الدجاج، رسم خريطة الدولة العثمانية وأمهات مدنها مع نص من عشرة آلاف كلمة، كل ذلك في سطر لولبي واحد، استعمل له 990 قلماً، واشتغل عليه سنتين كاملتين. على حبة قمح كتب الى رئيس جمعية الصليب الاحمر الاميركية رسالة من 100 كلمة وكلمة. على حبة قمح كتب الى الامير فيصل بن الحسين رسالة من 110 كلمات جعله بعدها الفيصل خطاطاً فخرياً له وخلع عليه ثوباً ملكياً كاملاً. على قلب خاتم رسم خريطة العراق وثلاثة أبيات في مدح الفيصل، أهداه اليه لمناسبة تتويجه ملكاً على العراق. على قلب خاتم أهداه الى الملك عبدالعزيز آل سعود لمناسبة تأسيسه المملكة العربية السعودية، نقش تاريخ الجلوس على عرش الحجاز بخمسة أبيات من الشعر. على قلب خاتم من الذهب حفر النشيد المصري من شعر احمد شوقي، وهو من ستة عشر بيتاً في 157 كلمة. وقد عرض هذا الخاتم في المعرض العربي الاول في القدس. على حبة رز من رخام، كتب موشح "مصر وبنوها" من شعر عبدالرحيم قليلات وهو من ثلاثين بيتاً في 287 كلمة. على قلب خاتم من ذهب 7 ب5 ملم، حفر النشيد الوطني اللبناني وعرض في معرض نيويورك العالمي سنة 1939. والى هذا المعرض ايضاً ارسل حبة رز من الفضة حفر عليها خريطة الولاياتالمتحدة واسماء المدن الاميركية الكبرى. على حبة رز من فضة، حفر خريطة لبنان بانهاره ومدنه وأنزل الحفر ذهباً نافراً. على قلب خاتم 5 ب5 ملم، حفر صورة الفاتحة. على حبة رز، كتب سورة الفاتحة وسورة الاخلاص وسورة الفلق وسورة الناس، ومجموعها في 110 كلمات. على حبة رز، حفر خطاب ابي بكر الصديق يوم تولى الخلافة. على حبة رز من رخام كتب المقطعين الأولين من النشيد الوطني الفرنسي. على حبة رز كتب عبارات مأثورة للصناعي الاميركي هنري فورد مع رسم اول ثلاث سيارات من صنعه! وكان يردد دائماً صلاته الشهيرة: إن فني من نعم الله عليّ. اللهم، أتوسل اليك بأوجه الوسائل، الا تجعلني أتكلم كلمة واحدة، أو أنظر نظرة واحدة، أو أخطو خطوة واحدة...، إلا برضاك". وعنه قال العلامة محمد حسين الامين: "لم يكن الشيخ مكارم مبدعاً لو لم يكن عاشقاً! على ان عشقه يتجه دائماً الى الروح! ألم تره كيف يدس الفتنة في جسد العبارة ليفضي بها عاجلاً الى ما هو أبعد من جسد العبارة؟!".