ارتفاع أسعار النفط إلى 83.27 دولارًا للبرميل    تشافي: برشلونة يمتلك فريقاً محترفاً وملتزماً للغاية    «عكاظ» تكشف تفاصيل تمكين المرأة السعودية في التحول الوطني    الفرصة ماتزال مهيأة لهطول أمطار على معظم مناطق المملكة    جامعة الملك خالد تدفع 11 ألف خريج لسوق العمل    1.6 ألف ترخيص ترفيهي بالربع الأول    الطاقة النظيفة مجال جديد للتعاون مع أمريكا    السعودية والأمريكية    «الأقنعة السوداء»    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    احذر أن ينكسر قلبك    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    إلتقاء سفيرة خادم الحرمين الشريفين بطلبة المنتخب السعودي في آيسف.    فتياتنا من ذهب    حلول سعودية في قمة التحديات    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    حراك شامل    ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    فوائد صحية للفلفل الأسود    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    أثقل الناس    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    بتوجيه ولي العهد.. مراعاة أوقات الصلوات في جدولة المباريات    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    النفط يرتفع والذهب يلمع    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    بمشاركة السعودية.. «الحياد الصفري للمنتجين»: ملتزمون بالتحول العادل في الطاقة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    صفُّ الواهمين    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    سقيا الحاج    السفير الإيراني يزور «الرياض»    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة بعد نصف قرن . ابراهيم المازني أين هو من مجايليه وبماذا افترق عنهم ؟
نشر في الحياة يوم 06 - 06 - 1998

النص مراجعة لكتاب أحمد السيد عوضين "المازني بعد نصف قرن" الصادر في سلسلة كتاب الهلال المصرية، أبريل نيسان 9981.
في عام واحد 1889 ولد الثلاثة: طه حسين وعباس محمود العقاد وابراهيم المازني، وقدر لهم ان يظلوا مرتبطين باشخاصهم ومواقفهم اولا، ثم بمجمل الدور الذي قاموا به في تطوير الادب المصري والثقافة العربية بوجه عام. وتفاوتت حظوظهم وأقدارهم بعد ذلك. كانوا جماعة أو فرادى يلتقون على اشياء ويختلفون حول الكثير ووراء الاتفاق والاختلاف صورة العصر الذي تفتّح وعيهم عليه، وعلى مختلف المؤثرات الفاعلة فيه.
ويبقى المازني أقربهم الى القلب والوجدان. كان أسبقهم الى الرحيل في اب اغسطس 1949، وكان اكثرهم قدرة على السخرية والامتاع، وأكثرهم صدقاً وحميمية في الحديث عن نفسه، وعن الآخرين كما ينعكسون على مرآتها أو على صقالها كما كان يحب ان يقول!، ورغم ذلك كان نصيبه من الدراسات التي تتناول حياته وعمله أقل من نصيب صاجبيه.
من هنا يأتي اهتمامنا بهذا الكتاب الجديد، وقاريء الكتاب سيلحظ على الفور- ان كاتبه واقع في اسر المازني، لا يكاد يتعرض بالنقد لرأي من آرائه أو عمل من أعماله، بل لعله يمضي في الدفاع عنه وتبرير آرائه ومواقفه واخطائه اكثر مما يمضي المازني نفسه!.
والمؤلف لا يخفي موقفه هذا ولا يداريه، فهو يكتبه في "مطلع الحديث": "إن الحديث عن المازني متعدد الجوانب، فسيح الرحبات، ومهما قلنا- أو قال سوانا- عن المازني، فلن نوفيه حقه، ولن نفلح في الكشف عن كل ما قدم من فكر، وما أحدث من أثر، وما اهدى من ابداع بعد ابداع، وما قدم من افكار وافكار... الخ".
وقد يلحظ قاريء الكتاب كذلك ان المؤلف يقتبس عن المازني فيطيل الاقتباس ليصل صفحات كاملة، بل إنه يثبت قصيدة بنصها وقصة قصيرة بنصها ايضا، واحسب أن نصف صفحات الكتاب إن لم يكن أكثر- ينتسب لكتابات المازني. حتى هذه لا ينكرها المؤلف: "نعم. سوف نترك القول للمازني نفسه في الكثير من الصفحات، يعبر بقلمه عما يريد، ويقدم لنا- بعباراته الصادقة- كل ما لديه، وانه كثير...".
بعد "مطلع الحديث" أو تقديمه، ينقسم الكتاب أقساماً ثلاثة: المازني ومسيرة حياته- المازني وعالمه الشعري- المازني وعالمه النثري.
في القسم الأول يعتمد المؤلف اعتماداً يكاد يكون كاملاً على ما رواه المازني عن حياته بوجه خاص في كتاب "قصة حياة" الذي تشر بعد وفاته، صحيح إنه يستعين بمراجع اخرى لنعمات فؤاد ومصطفى ناصف ومحمود ادهم، إلا أنها اشارات عابرة، ويبقى المازني هو من يتحدث عن حياته معظم الوقت، والمؤلف ينقل عنه- فيطيل النقل- كثيراً من الأحداث التي وقعت له اثناء عمله بالتدريس عشر سنوات، خمس منها في "وزارة المعارف"، وخمس أُخر في مدرسة خاصة او "اهلية" قبل ان يتفرغ تماما للعمل الصحفي والادبي في 1919.
ويكاد المؤلف في حديثه عن المازني أن يُغفل العصر الذي عاش المازني فيه، ويحلل معطياته، والعوامل المؤثرة المحدِدة- بالتالي- لسلوك الافراد، وابداع المبدعين، خاصة من كانوا في مثل حساسية المازني، وطموحه الذي وقفت دون تحقيقه الحوائل بعبارة ثانية: ان المؤلف يعزل صاحبه عزلاً يكاد يكون تاماً عن عصره وزمانه وبيئته، حتى ليبدو نبتاً وحيداً في محيط مكيف الهواء!.
ولاشكّ في أن التعرف الى صورة العصر ستعمق من فهمنا لطبيعة القضايا التي طرحها المازني ومجايلوه، والمعارك التي خاضوها: هم ابناء الطبقة الوسطى الصغيرة، الذين ذاقوا شظف الحياة في القرية والمدينة، الساعون لانتزاع مواقع متميزة في الواقع المصري قبل 1919: واقع الاستعمار الرازح، وسيطرة الارستقراطية التركية والمتمصرة، وحصار الحركة الوطنية الساعية للاستقلال والتحرر، ولا مهرب لمن يحاول تحقيق مشروع فكري أو ادبي من خوض غمار السياسة قبل 1919 وبعدها على السواء. وفي هذا الواقع لا يمثل الاشتغال بالابداع الادبي شيئاً ذا قيمة إلا أن تكون شاعراً مثل شوقي وحافظ، أو ناثراً منشئاً مثل المنفلوطي.
اولئك سادة الهيكل الادبي آنذاك، لذلك اتجه اليهم اصحابنا بالمعاول، يحاولون بهدمهم خلق مناخ جديد يكون اكثر استعداداً لأن يتقبّلهم، ولأن يشغلوا فيه أماكن تتّفق وطموحاتهم. من هنا جاء "الديوان في الادب والنقد" الذي اشترك في كتابته العقاد والمازني، ومقالات طه حسين والمازني في الهجوم على المنفلوطي، وجاء أيضا كتاب المازني عن "شعر حافظ".
لم تكن القضية أدبية خالصة، لكنها كانت اكثر عمقا وشمولا: كانت قضية وجود يحاول هؤلاء اثباته، وتصوراً مختلفاً للواقع يعملون على اشاعته. لقد راعهم جميعاً ما في الواقع من تخلف، ثم تفتحوا جميعاً على صورة الحياة الاوروبية الحديثة، سواء من خبرها منهم مباشرة مثل هيكل وطه حسين وسلامة موسى وعبد لرحمن شكري وسواهم، ومن عرفها عن طريق قراءة أدبها ونقدها مثل العقاد والمازني وسواهما ايضا. القديم عندهم مرفوض لأنه لا يقدم تصوراً جديداً لهذا الواقع المرفوض، كلهم عرف الثقافة العربية التقليدية ورفضها بدرجة أو أخرى، حتى الإعجاب الذي كانوا يبدونه نحو هذا المبدع او ذاك انما كان مصدره تميّز هذا الفرد بذاته، لا من حيث هو نتاج ثقافة كاملة ودلالة عليها. بعبارة اخرى: ان أهم من أعجب بهم هؤلاء واهتموا بدراستهم وتقديمهم للناس انما كانوا أفراداً ذوي طبائع واضحة التميز: ابن الرومي والمتبني والمعري، أو هم خارجون على المواصفات المستقرة، مواجهون لها: بشار وابو نواس وحماد الراوية ومن اليهم.
ومنذ تفتّحوا على الثقافة الغربية الحديثة استلبتهم صورتها الآسرة. وفي ضوئها بدا لهم واقعهم اكثر قتامة وتخلفاً، والمأزق كامن في أنهم يحملون هذا الواقع الأخير داخل ذواتهم لا خارجها. فهم عاجزون عن رفضه رفضاً تاماً ومطلقاً، ومن ثم وقعوا جميعاً فريسة الحيرة والتمزق والألم، وجاءت الحرب العالمية الاولى- وهم في اوج الشباب- لتزيد همومهم اشتعالاً: ها هي الحضارة المثال والنموذج يخوض ابناؤها تلك الحرب الوحشية الضارية. واتسمت مشروعاتهم الفكرية بسمات هذا كله: التوجه نحو الغرب والجديد دون قدرة على اعلان القطيعة الكاملة مع التراث والواقع" الانغماس في الهموم والضيق بها في ذات الوقت" غلبة الجدل الفكري وتقليب الرأي على العمل الابداعي، والتفاف هذا العمل دائماً حول الذات، دون قدرة على تجاوزها الى طرح الموضوع كما هو أو كما يتبدى" والضرب في كل ارض تتخايل لعيونهم: في الشعر والنثر، في القصة والرواية والمسرحية، في الدراسة والمقالة والخاطرة، في الترجمة والتلخيص والتقديم والتعريف، في النقد والتاريخ، في أدب الرحلات وأدب السيرة، في علوم المتجمع والنفس والانسان جميعا.
تلك كانت صورة العصر، وهموم الجيل.
في الفصل الثاني "المازني وعالمه الشعري"، يتناول المؤلف رسالة المازني "الشعر- غايته ووسائطه" التي أصدرها في 1915، ثم دراسته التطبيقية لثلاثة من الشعراء السابقين: المتبني وابن الرومي وبشار، وفي حزيران يناير 21 اصدر العقاد والمازني الجزء الاول من "الديوان" متضمنا اراءهما في فهم الشعر، ثم يعرض المؤلف لمقالات المازني التي جمعها بعنوان "شعر حافظ"، ومقالاته التي هاجم فيها صاحبه القديم عبدالرحمن شكري، بعدها يتناول ابداع المازني الشعري في "ديوان المازني" بأجزائه الثلاثة اثنان نشرا في حياته، والثالث بعد رحيله.
ومن المعروف أن المازني توقف عن كتابة الشعر بعد أن أصدر جزأي ديوانه في 1913 و1916، وتنكر لشعره كله كذلك أنكرها ما سبق أن كتبه في "شعر حافظ"، ودعاه "بالهراء القديم" ودعا قراءه إلى أن ينسوه!. قال المازني في تعليل توقفه عن قول الشعر ما أعتقد أنه السبب الحقيقي لهذا التوقف: "احدى اثنتين: إما ان يقول المرء شعراً من أعلى طبقة، وإما أن يريح نفسه ويريح الناس، فلا خير في غير الكلام الخالد على الدهر ".." ولقد نظرت فيما قرضت من الشعر فهززت رأسي وقلت: هذا كلام فارغ، أولى بي أن أعرف قدر نفسي، فلأقنع، ورميت ديواني حتى ما أعرف أين هو الآن..".
رغم هذا القول الصريح من جانب المازني، يكتب المؤلف المولع به: "يحق لنا ان نقرر أنه ظل على ولائه لعالمه الشعري الذي ابتدعه ورسم معالمه..، وظلت ابداعاته لاتخرج عن الشعر بمعناه الذي إتضاه، وإن جاءت قولاً منثوراً..".
وجه الحق عندي ما قال به المازني نفسه، ومعناه أنه أيقن أنه لم يبلغ في الشعر ما بلغه الشاعران اللذان كانا محل نقده العنيف: حافظ وشوقي. وقد كان الرجل طموحاً بالغ الطموح، لا يقنع بأقل من الخلود. قعد المازني يوماً على شاطىء بحر الروم - البحر الابيض ان شئت- وراح ينظر الى الموج المتدافع. والشمس التي غابت.. "ثم تناولت عودا كان ملقي الى جانبي، وخططت به كلمات على الرمال البليلة، غير أن الأمواج طغت عليها وغسلتها وعادت بها، ولم تترك حتى إسمي الذي رسمته في آخرها، بأي شيء اذن اكتب؟ أأقتطع جذر شجرة بلّوط وأغمسه في بركان وأسطر به ما أريد على وجه السماء ليبقى؟" ولما ايقن أن شعره لن يحقق له البقاء والخلود، آثر التوقف.
هذا من ناحية - من الناحية الاخرى ثمة اعتبار عملي خالص، هو ضرورة تفرغه لكتابة مقالاته الصحافية التي عليها قوام حياته. في تقديم، صندوق الدنيا، 1929 "يكتب المازني: "أضحك فلا اراني ألهو، ويضيق صدري فأتمرّد، واخرج الى الطرقات امتّع العين بما فيها مما تعرضه الحياة، فاذا بي أقول لنفسي: "إن كيت وكيت مما تأخذه العين يصلح أن يكون موضوع مقال"، فأقنطء، واكر راجعا الى مكتبي لأكتب.. وهكذا كأني موكل بفضاء الصحف أملؤه، كما كان ذلك الشاعر القديم المسكين موكلاً بفضاء الله يذرعه.."، ثم يجري مع قارئه حسبة صغيرة: "أنا أكتب في الاسبوع مقالين، فحملة ذلك في العام تبلغ المائة، وكل مائة مقال تملأ خمسة كتب كهذا، فسيكون لي، اذن، بعد عشرة اعوام- اذا ظللت هكذا- ثلاثون كتاباً غير ما اخرجت قبل ذلك.. صاحبها لم يستفد الا العناء..".
فكيف يجد الشعر مكانا في مثل هذه الحياة؟.
الفصل الثالث هو "المازني وعالمه النثري"، ويبلغ حوالي نصف صفحات الكتاب، يقدم له بتوصيف عام لأسلوب المازني، وما يتميز به من سخرية، ثم يتناول "رواياته"، فيقف - بشيء من التفصيل - عند "ابراهيم الكاتب" و"ابراهيم الثاني"، ويجمل الحديث عن "ثلاثة رجال وامرأة" و"ميدو وشركاه" و"عود على بدء" و"من النافذة". بعدها يقف عند مسرحيته "الوحيدة" "بيت الطاعة"، ثم ينتقل الى عرض "قصصه القصيرة"، و"صوره العلمية" في كتب: "صندوق الدنيا" و"خيوط العنكبوت" و"في الطريق" و "ع الماشي".
يقدم المؤلف لحديثه عن روايات المازني بما يتردد حولها من ان صاحبها لا يلتزم القواعد الفنية لكتابة الرواية، ويكتب: "ولا تسألني، بعد.. أي المذاهب كان يلتزم في ابداعاته، ولماذا لم يترك لشخصياته ان تنمو وتتطور، أو اين كانت العقدة في القصة، وماهي الرسالة التي يريد ان يعبر عنها، ولماذا كان يتدخل كثيرا في سير الاحداث ليبدي الرأي ويقدم التحليل؟، ولا تسألني عن شئ من ذلك طالما انك- مثلي- لست ناقداً ممن يشغلون أنفسهم بصناعة النقد ودراسة الآثار وتحليل الابداعات... الخ".
وفي تقديمه الحديث عن القصص القصيرة أيضا يكتب: "وهو في قصصه لا يلتزم دائما بالقواعد التي وضعها النقاد لمسار القصة القصيرة، ومع ذلك فيخيل اليَّ أنه وضع لنفسه قواعد أخرى يلتزم بها بحيث لا يقدّم الا قصصاً مشوقة، مصاغة على نحو لافت وجذاب، وتتنامي أحداثها على نحو تلقائي..".
ومن ثم جاء تناول احمد عوضين لروايات المازني وقصصه غير متعدٍّ حدود تلخيص الأعمال، ثم لفت النظر الى ما فيها من لمحات طريفة أو ذكية او ساخرة، بل إنه يثبت- بين مقتبساته المطولة- قصة كاملة، وكفى الله الكتّاب شر النقد والناقدين!.
"اكتفى بمناقشة مقال واحد عن أهم أعمال المازني عند معظم الكتاب والناقدين، أعني "ابراهيم الكاتب" الصادر في 1932. إن المؤلف يلخص احداثها - الأدق أن نقول انه ينقل تلخيصها كما أورده محمد مندور في "نماذج بشرية" - وهو يورد بعد ذلك تعليقاً لا يتجاوز الصفحة الواحدة، جاء فيه: "ولا نود أن نقف طويلا عند الناقدين لها، وبصفة خاصة اولئك الذين وصفوا بطلها بأنه "الهارب من الحياة". وغيرهم الذين عابوا على الكاتب إيمانه "بالتثليث في الحب"..، كما لا نقف عند أولئك الذين نسبوا الى كاتبها سرقته صفحات بأكملها من رواية "سانين" التي ترجمها المازني نفسه، فكل تلك الأوجه من النقد، حتى وان اصابت بعض الحق، الا انها لن تقلل من عمق هذا الاثر الابداعي الذي سوف يبقى في تاريخ الانتاج العربي اثراً من الآثار الباقية...".
تلك هي عين الرضا، أو العين المحبة، لا عين الناقد، ولا مؤرخ الادب!
ولعل أهم أسباب أهمية "ابراهيم الكاتب"، ومن ثم الاهتمام بها، أنها قناع فني لا يكاد يخفي وجه صاحبه، بل يجتهد في بسط ملامحه وتجميلها. وقد لا نكون بحاجة للتأكيد الذي تقدمه نعمات فؤاد على لسان ابن المازني الذي ذكر لها "ان الأسرة تعرف الحوادث التي سجلها في "ابراهيم الكاتب"، كما تعرف الاشخاص، وأن وجه الاختلاف ينحصر في الأسماء فقط.."، فالحقيقة ان المقارنة التي يعقدها المازني بينه وبين بطل روايته في تقديمها لم تخدع أحدا. ها هو مندور يلتفت اليها كاشفاً القناع ليرى الوجه: "ومن عجب ان تنظر فترى في قسمات ابراهيم الكاتب ما يذكّرك بابراهيم المازني عندما اصاب الاخير شيء من هموم النفس، فتتساءل: أو لم يتبادل الرجلان يوماً شيئا من خصائصهما؟.. ذلك ما نكاد نجزم به، ولنا ادلة كثيرة.." أما عبدالمحسن بدر فهو يناقشها في القسم الخاص برواية "السيرة الذاتية"، ويسوق أدلته ومنها: ان بطل المازني يلتقي بحياة المازني في جميع تفاصيل حياته التي وردت في الرواية، واخيراً فان شخصية المازني هي الشخصية الوحيدة التي يستطيع المازني أن يتحدث عنها، لأنه يجد نفسه مهتماً بها، طائعاً أو كارهاً، كما جاء في اهداء روايته الذي يقول فيه: "الى التي لها احيا وفي سبيلها اسعى، وبها وحدها أعني طائعاً أو كارهاً: الى نفسي..".
ومن شأن كل من يُعنى بنفسه وحدها أن يعجز عن الدخول في علاقة حب حقيقية شرطها الأخذ والعطاء، انما لهذا تتوالي الصور على شاشة البطل الثابت: ماري وشوشو وليلى، كلهن يحببنه، وكلهن يهجرهن. الأدق أن نقول إنه يفر من عطاء الحب الذي لا يقوى على تلقيه وردِّه، هذا هو "ابراهيم الكاتب"- بكلمات علي الراعي: "شخصية سائلة، لا تهوى الحواجز ولا تهفو الى القيود، هي لهذا كالزئبق لا يقر لها قرار.. لا جرم أنها لا تحقق شيئا ولا تقضي في أمر، فاذا ما انتهت الرواية التي تضمها اختفت كما تختفي قطرات الماء بين رمال الصحراء العطشى.."، ولهذا يتقدم الينا في الرواية مكتملاً من صفحاتها الاولى، لا تؤثر فيه الحادثات ولا تغير منه شيئاً، هو هكذا: تام وناجز وممتليء، تمضي الصفحات في شرح خواطره، وتحليل أفكاره ومشاعره، ولأنه هو الوجه الحقيقي للمازني، فإن هذا لا يطلق له الحرية التي يمنحها الروائي لبطله، فيحيا الحياة لحسابه، بل ينفق الجهد كله في شرخ بواعث سلوكه وتبريرها، لهذا تتضخم شخصية ابراهيم تضخما غير عادي، على حين تشجب بقية الشخصيات ويصبح وجود بعضها عارضاً، وبعضها الآخر خارج الرواية تماماً. من ناحية ثانية، فان المازني لا يقدم لنا بطله في مواقف سلوكية تكشف عن تكوينه النفسي والفكري، لكنه يقدمه لنا عن طريق تقارير جافة يسوقها الينا المرة بعد المرة، وبالنظر الى تضارب الصفات الواردة في هذه التقارير، فان شخصية ابراهيم تبقى ملتفة في ظلام كثيف، ولم يكن هذا الضباب لينزاح إلا ان اعترف المازني بأن مشكلة بطله هي في داخله، لا بفعل الظروف المحيطة به، فكيف نصدق شكوى ابراهيم من انه لا يجد المرأة التي تناسبه، وشكواه من العوائق التي تصنعها الحياة في طريقه، ونحن نراه محظوظا لا يواجه أي مشاكل، بل يمضي من امرأة تحبه لأخرى تعشقه لثالثة تعطيه وتغدق عليه، وهو لا يفعل شيئا سوى التأهب للفرار منهن على التوالي؟.
من ناحية ثالثة، فإن المازني يركب بطله بأفكاره هو وخواطره التي نعرفها والتي يرددها في مقالاته وكتبه، ولا يقتصر هذا على خواطر ابراهيم وتأملاته وحواره مع نفسه، بل هو يستطيع ان يتحدث الى "شوشو": الفتاة الجميلة المفعمة حباً وخفة واقبالاً على الحياة: "اسمنعي يا شوشو - لقد أهاب بنا نيشه أن نحيا حياة خطرة - ولكني أقول إنه ينبغي أيضا أن نحيا حياة مؤلمة.. الخ"، ومرة ثانية ينطلق متفلسفاً حول الحياة والموت وخيبة سعي الانسان وتفاهة مصيره، فلا تكافئه الفتاة بالانصراف عنه- وهو اضعف الايمان- لكنها تشب اليه وتتعلق بعنقه!.
وما هذا كله الا لأن المازني لم يكن يبالي بالشكل الفني لروايته، ودرجة احكامها، قدر ما يراها - اعني الرواية - معْرضاً للأفكار. في لقاء عاطفي مع "ليلي" في أحد معابد الأقصر- وقد رشا ابراهيم الحارس كي يسمح لها بالدخول في الليل - لا يتحدث اليها بشيء مما قد يعنيهما معاً، لكنه يروح يستعرض أمامها معلوماته التاريخية، ويفشل حين يحاول أن يقيم رابطة بين ما يقوله والموقف الذي هو فيه. وهو كذلك لا يعفي "الشيخ علي"- وهو الذي يصفه بأنه "فيل كبير"- من أن يردد على مسامعه شيئاً من معلوماته عن الفرق بين "أوليس" و "تليماك" ، أو يضع على لسانه كلمات أو أفكاراً لاتليق إلا بالمازني نفسه. كل هذا جائز عند المازني لأن "الرواية" يجب أن تحمل لقارئها أكبر قدر من آراء صاحبها وخواطره، من دون التفات الى اتساقها مع الموقف أو الشخصية. ومن ناحية اخرى فقد حدثنا المازني في تقديم روايته عن الجهد الذي بذله ليجمع اجزاءها المتفرقة، ولا نزال نرى أمارات هذا الجهد في نصها المطبوع. بعبارة ثانية: لم يكن للرواية ان تلتئم اجزاؤها دون ان يتدخل الكاتب على هذا النحو: "وقبل ان نتقدم خطوة اخرى في هذا التاريخ، او هذه الفترة من حياة صاحبنا ابراهيم شكر راجعين بالقاريء بضعة أسابيع لنجلو ما عساه يكون مشكلاً مما أسلفنا قصة في الفصل السابق، وهي أوبة تردنا الى أيام عشرة قضاها في مستشفي.."، ففي هذا المستشفى عرف ابراهيم ماري، وبعد أن ينهي الكاتب حكايته يتدخل ثانية لينبه القاريء: "رجع بنا الحديث الى الريف..".
تكتمل الدائرة في الصفحات الأخيرة من الرواية حين يرى ابراهيم نفسه عوداً نابتاً في الخلاء، ويتساءل: ماذا يصنع العود الثابت في الخلاء هبت به مثل هذه الرياح الهوجاء؟ يلين أو ينقصف؟".
وببساطه، لا يفعل ابراهيم الكاتب شيئا، لا يلين ولا ينقصف، بل يتلاشى ويتبدد فلا يبقى له أثر!.
وأخيرا فان أهم ما في كتاب أحمد عوضين عن المازني انما يتمثل في تلك النصوص التي ساقها عنه، في مختلف مراحل حياته، من شعره ونثره على السواء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.