أهو تأكيد على اتصالنا بعالم الحضارة العربية أم توكيد على انقطاع نخبوي عن مجتمع مفرفط؟ في الحالتين لا بد من الاعتراف لمهرجان البستان، في دورته الخامسة التي افتتحت اول من امس، بانه نموذج في الادارة والتنظيم. لا لكونه تعلّم بسرعة من هفوات الماضي وحسب بل لانه يطمح الى تجاوز نفسه باستمرار، وتلك صفة حيوية تستحق الاشارة. ربما لا يبدو عرض من موسيقى القرن السابع عشر على رابية وسط إحراج الصنوبر امراً مذهلاً، لكن اختيار موسيقى "باروك" في صيغتها الاصلية لحفلة الافتتاح نوع من التحدي النبيل لجمهور ينقصه التجانس، ويعيش جغرافياً على الاقل، بعيداً عن المناخ الثقافي الذي يحتضن ويولد هذا النوع الموسيقي. فرقة "لا غراند ايكوري دو لا شامبر دي روا" الفرنسية المختصة بموسيقى، باروك، قدّمت احد اشهر اعمال رامو وعنوانه بتصرّف "إغواء الشرق". واستعملت في الاداء آلات مختلطة، حديثة وباروكية، لكن النقطة الاساسية في العمل ككل تبقى المحافظة على الشكل كما عرفته الغرف الموسيقية الملكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، في ايطاليا اولاً حيث انطلقت تلك الموسيقى، ثم في فرنسا وسائر البلدان الاوروبية. ويذكر هنا ان موسيقى باروك، هي المصدر الاول للاوبرا كما نعرفها اليوم. رداً على سؤال "الحياة" حول جدوى ومعنى تقديم عمل كهذا في لبنان اليوم قال المايسترو وليد غلمية "اولاً موسيقى باروك جزء من اسلوب واسع يضمّ الى الموسيقى فنوناً اخرى كالمعمار والشعر والازياء والأثاث. واذا كنا في لبنان ندّعي عودة الى الانفتاح والتفاعل مع ما يجري على الساحة الثقافية في العالم ما علينا سوى ان نرحّب بكل ما يغذي ويفيد تلك العودة. وفي اعتقادي ان جمهورنا يشبه اسفنجة عطشى الى التلقي ولديه ذائقة ممتازة قادرة على فرز الغث من السمين". بقيادة كلود مالغوار استمعنا الى مقطوعات موسيقية تخللها انشاد اوبرالي رومانسي من اداء الاميركي هاوارد كوك والفرنسية فاليري غاباي اللذين رويا قصة "اغواء الشرق"، ولعلها قصة تتكرر منذ مئات السنين: الحب انتهى في اوروبا او انه مهمل ولذا فهو يهاجر الى بلاد بعيدة ليستعيد حيويته. إميلي في قبضة عثمان باشا وخطيبها فالير نجا باعجوبة من مركب غريق وجاء يبحث عنها لدى السيد العثماني الكريم. في المقطع الثاني يذهب الحب الى المكسيك، الى بلاد هنود الانيكاس حيث يهزم كاهن التعصب عواسكار ويجعله يقفز الى قلب البركان. في المقطع الثالث نشهد عيد اليناع في بلاد الفرس حيث يتخفّى الرجال في حلل النساء للقاء محبوباتهم. وفي المقطع الرابع يحلّ الحبّ مدى الهنود الحمر الاميركيين. وهناك نلتقي الجميلة زيما التي يتجاذب قلبها عاشقان، فرنسي واسباني، لكنها تفضل العودة الى مضارب اهلها في قلب الغابات... صفق الجمهور بحرارة للفرقة الفرنسية. وسوف يلتقي هذا الجمهور 23 عرضاً مختلفاً ومتنوعاً في مهرجان البستان هذا العام، حتى الاسبوع الاخير من آذار مارس المقبل.